المقاهي الفلسفية ـــ أوسكار برونوفييه ـ ت.عدنان محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
انفاسظاهرة غريبة خرجت إلى النور في فرنسا منذ أربع إلى خمس سنوات، وهي لا تكف عن التنامي على مدى الأشهر: ألا وهي ظاهرة المقاهي الفلسفية. ما ينوف على مئة وخمسين من هذه الأماكن تنتشر في أنحاء فرنسا، ويجتمع فيها أشخاص من الأعمار والمشارب كافة ليتناقشوا حول الوجود والحب والموت، الرغبة والكلام، السلطة والحداثة. ولقد احتدم نقاش عاصف في قلب المؤسسة الفلسفية، وبين الأساتذة، بخصوص هذه الظاهرة، بعضهم انغمس في هذه المسألة بوصفه مشاركاً أو مديراً لبعض النقاشات، ولكن معظمهم اتخذ موقف المبتعد عن هذه الأماكن أو الكاره لها أو المندد بها بحماسة. فهؤلاء يرون أن صفة "فلسفي" لا تناسب أبداً تمريناً يبقى في جوهره "حديث مقهى". منذ عدة سنوات ومؤلف هذا المقال، وهو فيلسوف بنشأته، ينشط داخل هذا المقهى الفلسفي ويسعى هنا إلى أن يستوعب هذه الظاهرة في المجتمع الذي يشمل فرنسا بصورة خاصة، مع بعض الامتدادات هنا وهناك، وبصورة رئيسة في بعض البلدان الفرانكوفونية.‏
لمحة تاريخية عن المقاهي الفلسفية:‏
يبقى المظهر الأكثر إدهاشاً في هذه الظاهرة عفويتها. وقد استندت في نشأتها وتطورها إلى المصادفة والاستقلال أكثر من استنادها إلى أي قرار مدبر أو منظم. لابد هنا من التنبيه إلى دور وسائل الإعلام؛ إذ إنها أسهمت بكل تأكيد في إحداث موضة. في عام 1992، روى مارك سوتيه Marc Sautet، وهو أستاذ في فلسفة العلوم السياسية، في مقابلة إذاعية، ومن باب الدعابة، أنه يلتقي مع بعض الأصدقاء صباح كل يوم أحد في أحد المقاهي، في ساحة الباستيل في باريس، لكي يتفلسفوا. وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى يوم الأحد التالي عدداً كبيراً من الأشخاص يقصدون ذلك المكان لكي يشاركوا في تلك النقاشات اللاشكلية. وبما أن العدد أخذ يتزايد أسبوعاً بعد أسبوع. فقد صار من الضروري إيجاد بعض قواعد العمل لئلا تغدو تلك التجمعات مجرد هذرٍ فارغ.‏

وهكذا ولد المقهى الفلسفي. وبدءاً من عام 1995، رأت النور في باريس تجربتان أو ثلاث، وقد حفزتها مبادرات شخصية منقولة نوعاً ما عن التجربة الأولى. وفي ذلك الحين اهتمت الصحافة بالموضوع؛ الأمر الذي أثار أولاً بأول عدة محاولات عفوية حتى وصلنا إلى الوضع الحالي .

ويرتكز مبدأ إحداث المقاهي الفلسفية بصورة عامة على مبادرة شخص، إما لأنه شارك سابقاً في هذا النشاط في أثناء مروره بباريس أو بمكان آخر ولا يوجد شيء مشابه لذلك في منطقته، أو ببساطة لأنه يشعر برغبة في أن يقوم بذلك من نفسه، أو أيضاً لأنه سمع بذلك في الصحف أو على التلفزيون، وقرر أن يجرب حظه. معظم مدبري هذه النقاشات ومديريها هم أشخاص يشعرون بأنهم يمتلكون في آنٍ واحد هوية فكرية وميلاً اجتماعياً معيناً. كما أن بعض المبادرات الأكثر تنظيماً، والقائمة بصورة خاصة في المدن أو البلدات المتوسطة أو الصغيرة، قد عمدت إلى تنظيم هذا النشاط، وذلك باعتماد مدير له يقوم بتحكيم النقاش، وهو بصورة عامة مدرس فلسفة.


منذ بداية هذه المسألة، وفي المنطقة الباريسية بصورة رئيسة حيث نظمت أوائل المقاهي الفلسفية، اتخذ معظم أساتذة الفلسفة موقفاً رافضاً إطلاق صفة "فلسفي" على هذه الأماكن. ويتلخص الرأي الشائع في هذه الأوساط بالتالي: "ثمة أماكن للتفلسف، والمقهى ليس أحدها، أولن تطأ قدمي أبداً أرض المقهى الفلسفي". بعض وسائط الإعلام الجماهيرية كالتلفزيون روجت لهذه النشاطات، أما المجلات النخبوية مثل لوموند دو ليدوكاسيون le monde de lèducation والمجلة الأدبية le Magazine littèraire فقد نددت بها، الأمر الذي أوجد خندقاً بين "المدارس". في الواقع، لم يكن لدى معظم مديري النقاشات الأوائل إعداد فلسفي، الأمر الذي سوغ أكثر المظهر اللافلسفي لهذه المقاهي من الناحية الشكلية. والأمر عينه في باريس وفي أكبر المدن. لكن الوضع مختلف بعض الشيء في الأماكن الأخرى، فالمعارضة المسبقة بين المواقف النظرية تبدو أخف قليلاً بما يتناسب طرداً مع صغر حجم البلدات. بالمقابل، إن هذا الرفض للفلسفة الرسمية قد دعم في هذه المقاهي التعبير المفتوح لميل خفي يمكن أن نطلق عليه اسم "البوجادية الفلسفية(1)". وتتلخص فكرتهم هم أيضاً بــ: "الفلسفة الحقيقية هي الحياة والصدق، وليس الكتب القديمة والنظريات الجاهزة". بسهولة ويسر شديدين نمت في هذه التربة نزعات متعددة نفسية وسوسيولوجية وروحانية وسياسوية وغيرها يغذيها حقد منتشر ومستعر ضد أساتذة الفلسفة.‏

روح المقهى الفلسفي وعمله:‏

القواعد العامة للمقهى الفلسفي، أو تلك التي نجدها في جميع الأماكن ذات التسمية هذه، بسيطة ومحدودة إلى أقصى الحدود. كل شخص يتكلم بدوره رافعاً يده ليطلب الكلام، والدور يعطيه مدير النقاش بحسب نظام محدد تقريباً بلحظة الطلب. يمنع مقاطعة المتكلم. وحده المدير له الحق في طلب تقصير خطاب طويل أو إعادة تركيز حديث معين أو شرح كلام مستغلق، الخ. ولكن يجب عليه ألا يحاول أبداً استخدام موقع السلطة النسبية التي منحته إياها المجموعة لمحاولة فرض أية رؤية شخصية. إن أية محاولة لادعاء امتلاك الحقيقة تسيء إلى هذا المدير وتسقط مصداقيته تماماً. من المؤكد أن له الحق في إبداء بعض الآراء الذاتية، لكن دوره هو قبل كل شيء دور الحكم. ويجب أن يبدي باستمرار قدرته على الاستماع وعلى التحليل. وعلى الرغم من أن هذه القواعد أساسية جداً، فإنها تشكل تحدياً حقيقياً بالنسبة إلى الطريقة الاعتيادية للنقاش كما نمارسها في فرنسا. وليس هناك إلا الاستماع إلى النقاشات السياسية أو الثقافية المذاعة أو المتلفزة لإدراك ذلك. وحتى المقالات الصحفية النقدية من الطبيعة الفلسفية لنقاشات المقهى هذه يجب أن تعترف معظمها بنجاح التمرين من ناحية احترام الآخر والطبيعة المتسامحة للتبادل. وهي ممارسة ممتازة للمواطنة.‏

تتنوع طبيعة هذه المقاهي الفلسفية ونوعيتها وعملها بحسب المدير والمشاركين، ولكن قبل الخوض في أشكال الكون وطرقه، لنعد إلى القواعد الأساسية التي وصفناها آنفاً ولنحاول تبيان طريقة للفلسفة. هل لدينا هنا ببساطة أسس النقاش المهذب؟ أم أن إطاراً كهذا يؤدي بصورة أكثر خصوصية إلى التفكر؟ مهما كان الموضوع المختار كمركز لأحد هذه النقاشات، سواء أحدده المدير أم مجموع المشاركين، فإن كل شخص يقوم بمعالجته على طريقته وبحسب قدراته الخاصة كما في أي نقاش آخر. ومع ذلك عندما ينتظر كل شخص دوره في الكلام ويحترم كلام الآخرين ويستمع إلى رأي الآخر حتى نهايته حتى لو كان هذا الآخر يزعجنا، لاسيما إذا كان يزعجنا، إنما يثير تأثيرات خاصة.‏

من الواضح أنه، في هذه الكثرة التي تتكلم، لا يفهم الجميع كل ما يقال، وكما يدل نفاد صبر كل شخص من أجل الحديث الذي يظهر هنا أو هناك، فإن هذا الشخص أو ذاك يكون منشغلاً بمداخلته الشخصية القادمة أكثر من انشغاله بالأحاديث التي تقال. ولكن على الرغم من العوامل المحددة، ومن التركيز وانفتاح العقل، لن تقوم مسيرة الحديث التي تدوم ساعتين تتعاقب خلالهما قراءات وتحليلات متنوعة جداً لموضوع واحد، إلا بجدلنه dialectiser الموضوع المقصود وانبثاق عدة إشكاليات منه. كما أنه، إذا بدا بعض الكلام متوحداً autiste بعض الشيء ـ الأمر الذي لا يمنع أبداً من أن يكون حاملاً للحدس، بالعكس، فإن هناك كلاماً آخر يطرح ويتجاوب في عملية تلاحق مفاجئة أحياناً، ومليئة بغير المتوقع.‏

لا ريب أن هناك مسلمات مسبقة في هذه العملية كلها، تعود بنا إلى سقراط وإلى تصرفه ومفهومه التوليدي maïeutique. الفرضية الأساس هي أن العقل البشري خلاق بصورة جوهرية وأن روحه ـ شرارة إلهية ـ مليئة بالأفكار، وأن المقصود بكل بساطة هو توليد هذه الأفكار وصياغتها، وهذه الأفكار، الواحدة بعد الأخرى، إما أن تكون جهيضة مشوهة أو طفلاً حياً جميلاً. والعامل الرئيس الذي يمنع الحياة لهذه الأفكار هو قبل كل شيء الارتجاج الذي يحدثه كلام الغريب، على الرغم من أن المتدرب على هذا التمرين يعلم جزئياً كيف يعيد خلق هذا الهز الدائم بداخله. المقصود إذن هو استقراء حالة عقلية لا تعود البديهية evidence موجودة فيها، لأن هذه البديهية تدرك هشاشتها الخاصة عندما تتواجه مع منظورات تضعها موضع تساؤل، وعندما تقبل الأسئلة التي تتطلبها. وهذا عندما لا تكون منشطة من عقل سيئ أصولي. إذن يبقى تعلم التفكير فيما لا يفكر فيه المبدأ الأساس لهذه الممارسة. لأن الرأي المهزوز يسمح بتجاوزٍ لنفسه كان يمسك بتشنجه السابق ويمنعه من الظهور.‏

إن رؤية كهذه للأشياء تتناقض مع المفهوم الأرسطي للـ "الصفيحة البيضاء tabula rasa". لأنه إذا كان العقل صفيحة تكتب عليها الأفكار، فإنها لا تظهر عبر عملية خلق داخلي بل من خلال إسهام خارجي. إذن التقليد الغربي الكلاسيكي للتعليم الفلسفي، حيث يبقى التعليم الأستاذي الوسيلة الرئيسية للتعليم، هو بالأحرى، ذو إلهام أرسطي. على أية حال إذا كان المقهى الفلسفي يستحق صفة "فلسفي" فذلك ضمن إطار أنه يقبل فكرة أن الفلسفة هي قبل كل شيء إعدادية، وإقامة حالة عقلية ومنهجية يمكن تسميتها ديالكتيك. بالطبع، إذا كان المظهر المتبحّر والمرجعي للخطاب سائداً، يمكن أن ننكر على المقهى الفلسفي وضعه الفلسفي، ضمن إطار أن أغلبية الخطابات لا تدل كثيراً على معرفة المؤلفين والمفاهيم "المسموح بها". وهكذا. مهما كانت الخيارات الفلسفية لهؤلاء أو لأولئك يمكن إطلاق نقاش حول ما يجري في هذه المقاهي وحول شروط ممارسة فلسفية كهذه، ولكننا لا نعرف حول أية حجج مبررة يمكن أن يعلن عن استحالة التفلسف في مقهى أو في مكان عام آخر.‏

مناهج مختلفة للمقاهي الفلسفية:‏

كما أسلفنا، تتعلق طبيعة ما يجري في المقاهي الفلسفية بصورة رئيسة بالمدير، نسبياً، أكثر من المشاركين. فمن ناحية هو من يحدد الموضوع ويعطي قواعد اللعبة، ومن ناحية أخرى، فإنه من يحدد نوع التطلب الضروري لمصلحة النقاش. إن مدير الحد الأدنى يركز جهوده على اختيار الموضوع الذي يحدده الأشخاص الحاضرون ـ طالباً اقتراحات ثم لاجئاً إلى التصويت ـ وعلى توزيع أدوار الكلام لاعباً دور الحكم الذي ينظم أولوية الكلام وزمنه. وعندئذ يتعلق تصاعد النقاش بصورة واسعة بالمشاركين وبقدرتهم الفردية على الإسهام في هذا التصاعد.‏

والمدير الأنشط والأكثر حضوراً يمكنه أن يحدد بنفسه اختيار الموضوع بمقتضى ما يراه أكثر فائدة، وعلى وجه الخصوص، يتدخل بطرق مختلفة في الحديث لكي يرفع من قيمة رهاناته.‏

وإليكم عدة طرق يحاول من خلالها مدير الجلسة أن يقيم نوعاً من التطلب الفلسفي في أثناء النقاش: أولاً: يطلب توضيحات لكلام يبدو له غامضاً أو مستعصياً. ثانياً: يقترح صياغة خلاصة مقتضبة لكلام يبدو تائهاً في التواءاته. ويكون جاهزاً لكي يصوغ بنفسه الشرح أو الخلاصة للشخص المقصود إذا أنه من صعوبة معينة، وهذا ما يجب أن يتم بالتوافق مع هذا الشخص، ومع حديثه طبعاً. ثالثاً: يدفع مداخلاً إلى الذهاب في حديثه إلى الأبعد طارحاً عليه بعض الأسئلة، أو مناقضاً للحظة أفكاره. وهذا ما يدفع المداخل بعملية مشابهة إلى وعي فكرته الخاصة بطريقة متنامية، والتعبير عن مسلمات لم يفصح عنها بعد. رابعاً: يضع نصب عينيه عدة اقتراحات أطلقها عدة مشاركين، باعتبار أن تجميع كهذا قد يتيح إشكاليات مهمة. خامساً: يعيد صياغة الرهانات دورياً كما تظهر وتتجه من خلال النقاش. الأمر الذي يجب ألا يمنعه هو من إطلاق مجال أو مجالين للتفكير. سادساً يستطيع أن يقرب بين الإشكاليات التي تظهر من الإشكاليات التي صاغها بعض المؤلفين سابقاً، وذلك لكي يمنح ثقة للمشاركين ولكي يشجعهم على المضي في بحثهم في آن واحد، وذلك من أجل تأمين بعض العناصر الثقافية الفلسفية والتأكيد على اللحظات الأكثر بروزاً في النقاش.‏

يتطلب مجموع هذه المداخلات بعض المواصفات لمدير الجلسة. فمن ناحية، هذا يتطلب انفتاحاً عقلياً كبيراً، ومن ناحية أخرى، يتطلب ثقافة فلسفية معينة، وأخيراً قدرة على التنقل سواء من أجل قراءة الإشكاليات كما يعبر عنها أو من أجل تجسيدها أو جعلها ذات شكل تربوي، رابطاً بين المفهوم le concept والمعيش le vècu. وعلى هذا الصعيد، من غير المؤكد أن التأهيل التقليدي لأساتذة الفلسفة يكفي لتلبية هذه الشروط. ومن ينجحون في هذا التمرين، إنما يفعلون ذلك لأسباب خاصة بهم. إن ترميز المفاهيم والتصور التاريخي والشكلي للفكرة غالباً ما يقيدان الاختصاصي في هذا المجال. وإذا ما أكثر من التركيز على صياغة الأفكار أكثر من نشوئها، فإنه سيشعر بصعوبات معينة في إنشاء هذه الممارسة المستوحاة من التوليدية التي لم يتعود عليها، بل إنها مخالفة للتعليم الذي تلقاه. ومع ذلك، بفضل هذا الطلب في التفلسف الذي يصدر عن مواطنينا ربما يظهر جهد في إعادة التفكير بالديالكتيك الفلسفي، إذا ما تجشمنا عناء ذلك، وبخاصة يكون نافعاً للتعليم في الصف النهائي من الثانوي حيث ثمة فارق كبير فيما يخص الرؤية التقليدية لهذه المادة. وبانتظار ذلك، سيكون من الممكن استدعاء أولئك الذين اكتسبوا خبرة في المقاهي لإضافة فكر إضافي في هذه الصفوف.‏

وكما قلنا في مرات عديدة سابقة، المقهى الفلسفي مفهوم عام يتعلق تطبيقه الخاص بمدير الحوار بصورة خاصة. ويفسح استقلال كل مشروع خاص المجال واسعاً للمبادرة الشخصية. ولهذه الأسباب ظهر عدد كبير من الطرق المختلفة، وسوف نعطي هنا بعض الخطوط العريضة. إضافة إلى المقاهي الفلسفية التي تحدثنا عنها، ظهرت أيضاً محترفات تنعقد إما في مقهى أو مكتبة أو قاعة مشتركة أو غيرها. وبعض المحترفات تعمل على نصوص مؤلفين، على المبدأ التوليدي نفسه، مستخدمة النص كبداية تمهد لظهور إشكاليات مختلفة. وهنا يجب على المدير أن يضيف إلى معرفته نوعاً من الأسئلة المفتوحة تسمح للمجموعة بالقيام بالعمل المطلوب. ومحترفات أخرى تتبع أسلوب الأسئلة المتبادلة بين المشاركين من أجل حفر موضوع معين. والمقصود هنا التمييز بين قراءة خاصة لمشكلة ما من الأسئلة التي يمكن طرحها بمناسبة هذه القراءة. بالتناوب، يقوم المشاركون بالاقتراح ثم بالسؤال، ويتعلمون هكذا بأنفسهم مهمة إدارة الممارسة التوليدية. وآخرون يطلبون من المشاركين تحضير مقدمة صغيرة للنقاش، مشتغلين قليلاً على الموضوع مسبقاً، من أجل الانطلاق مباشرة إلى عدد معين من المفاهيم المفتاحية، ذات مراجع أو بلا مراجع. وهذا دور يمكن أن يقوم به مدير الحوار أيضاً، موقظاً الحديث "المفحم"، يمنع سلفاً أي نقاش. وبعضهم الآخر أيضاً يبنون عملهم بطريقة خاصة، ويقسمون المهام بين مهدئ ومدير وملخص. وهذه الرؤى المنهجية تبقى بحاجة للتطوير في مقالات آتية.‏

وثمة تنويعات أكثر خصوصية للمقاهي الفلسفية تستخدم وسيلة فيلم معين من أجل توليد نقاش كهذا، وهذا ما يجري في سينما أو في صالة بعد مشاهدة فيلم فيديو. والأمر عينه يمكن أن يتم في مسرح، بعد عرض مسرحية، حيث يدعى المخرج والممثلون إلى المشاركة في النقاش. أو أيضاً مع ضيوف يحاولون فتح نقاش فلسفي وذلك بحسب مهنهم، مثل العدالة أو الفن أو التعليم. وهناك تمرين آخر، أكثر صعوبة، وهو حديث يجري مع شباب يمرون في صعوبة تربوية أو اجتماعية. وتبقى هذه المواقف أكثر خصوصية وتصبح أحياناً أقرب إلى النقاشات النفسية منها إلى الفلسفية. على الرغم من أن بعض الصفوف في مناطق فقيرة يجب أن يواجهها معلمو الفلسفة، توافق تماماً هذا الوصف. ودائماً في مجال هذا المقهى الفلسفي، وبالعقلية نفسها، نشأ صحف كتبها قارئوها ونشرات إذاعية في محطات محلية.‏

خاتمة:‏

الأسباب التي تفسر ظهور الرغبة في التفلسف بين مواطنينا متعددة. ويمكن مباشرة تحديد عاملين اثنين يبدو أنهما رجرجا هويتهم بصورة جادة: فقدان الثقة بالمثل الكبرى أو الأيديولوجيات الكبرى، سواء أكانت سياسية أو دينية، والأزمة الاقتصادية مع نتائجها الاجتماعية. من المؤكد أن "طريقة" براقة قد ظهرت. كم من الأشخاص يأتون إلى هذه المقاهي الفلسفية مرة واحدة ووحيدة، وهي مسألة أن يقولوا إنهم قصدوا هذه الأماكن. ولكن مم لا يمكن إنكاره، كما يؤكد ذلك العدد الكبير والجدي من المشاركين، أن شيئاً ما جوهرياً وواقعياً يبقى. كم من الوقت ستدوم هذه الظاهرة؟ وماذا سيحل بها؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال. ولكن هل تكمن هنا مشكلة الفيلسوف؟ يبدو بالأحرى أن مسؤوليته ـ إذا آمن أن مهمته تتطلب مسؤولية معينة ـ هي في الإجابة على هذا السؤال دون الاهتمام بشرعيته أو بافتعاليته. ربما كان عليه تأمين مشروعية طلب غير واثق من نفسه.‏

على أية حال، لا يمكن للفيلسوف أن يكتفي بتجاهل عصره لائجاً إلى الأبدية، مادام هذا العصر يضع عملية التفلسف على المحك بصورة جدية. في عالم صار يقتصر أكثر فأكثر على البراغماتية Le pragmatisme والنفعية lutilitarisme، يبدو أن الفلسفة مضطرة للإقامة في الصفوف وفي المكتبات، تحت طائلة الهجر بسبب عدم وظيفيتها وغياب فعاليتها. فحتى الآن، لم تصمد الفلسفة أمام الانقلاب فحسب، بل إنها عاشت بسبب هذه الانقلابات. وظهور المثالية الأفلاطونية، والهجر الديكارتي للسلطات، والقلب الكوبرنيكي لكانط والشك النيتشوي الخ، ليست إلا مراحل في طريق الفكر الإنساني الطويل. ولم تكن أية مرحلة من هذه المراحل متوقعة مسبقاً، وهي لم تمثل إلا توفر جهد ديالكتيكي، مرفوض من البعض، ومؤيد من البعض الآخر. بعد خمسة وعشرين قرناً، الطلب قائم من أجل العودة إلى الينابيع، إلى بساطة سقراط العلمية. لماذا لا نخاطر بذلك؟ فالفلسفة لن تخسر شيئاً، وهي تعرف كيف تستفيد من كل شيء.‏

(1) البوجادية مصطلح أطلق في عام 1956 نسبة إلى بيير بوجاد Pierre Poujade مؤسس اتحاد الدفاع عن تجار وحرفيي فرنسا، وهو حركة وحزب شعبي يميني مدعوم بصورة خاصة من صغار التجار.