أطروحة نهاية التاريخ بين الفلسفة والإيديولوجيـا ـ محمد شكري سلام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02096هيغل؟! كل الفلاسفة مروا من هذه العمارة الفلسفية الشامخة وسكنوا هذا المعبد وافتتنوا بأعماقه الديالكتيكية الموحدة بين الذاتي والموضوعي، بين الفكر والوجود، بين العقلي والواقعي، الكلي والجزئي، العياني والتجريدي، الواجب والحق، الضرورة والحرية، الحياة والمعرفة، الهوية والاختلاف، المطابق والنقيض، المادة والصورة، الجوهر والعرض، العلة والمعلول، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم. كل الفلاسفة سكنوا هذا المعبد الهيغلي، وحتى من أبدى عقوقا وهجره، ظل يكن له الاحترام والوجل، أو يقتبس منه فكرة أو مفهوما. تأثير الكتابات الهيغلية، وخاصة المنطق وفينومينولوجيا الروح، كان كبيرا على كل العلامات الفلسفية المعروفة: ماركس، كير كجارد، هوسرل، هيدجر، كوجيف، هيبوليت، باتاي، لاكان، فوكو… الخ. كل العمارات الفلسفية وقفت على أساس فكر هيغلي، وخرجت من تحت معطف المنطق أو فينومينولوجيا الروح:  الماركسية، الوجودية، الفينومينولوجيا.
يصعب استجماع شمولية الفكر الهيغلي، فهو لقوة تجريده كان ورشة للكشف المستمر منذ وفاة مؤسسه إلى الآخر. دفعت تحولات في بنية التاريخ بأجيال من الفلاسفة ومترجمي النص الهيغلي إلى تدشين قارات جديدة لقراءة هيغل. لكن كيف ننسج خيوط علاقة قائمة أو ممكنة بيننا وبين هيغل هنا والآن؟ أية علاقة قد تربطنا في المغرب كمكان وفي فجر الألف الميلادية الثالثة كزمان بهيغل الفيلسوف الصارم فلسفيا حد توحيده بين الفكر والوجود توحيدا قاسيا سياسيا وتاريخيا، وهو التوحيد الذي ينتهي إلى إقصائنا من التاريخ واعتبارنا جزءا صغيرا ملحقا بأوروبا. من هنا يكون مبتدأ العرض الذي اقترح تشطيره إلى مشاهد وصور تتوزع بين مراحل تبدأ من أوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا، ثم شمال إفريقيا، لتصل إلى أمريكا. كيف قام هيغل بهذه الرحلة؟ وكيف تمكن النسق الهيغلي من إنجاز رحلته؟ هل كان فيلسوف هيدلبرج ويينا مقبولا ومستساغا في هذه الأصقاع والأمكنة؟ بتعبير أوضح: هل باستطاعة النظرية الفلسفية –خاصة حين تكون حاملة لأحكام مشبعة بفلسفة التاريخ- أن تحقق الترحال والانتقال بالرغم من قساوتها في حقنا؟

1 – الصورة الأولى: هيغل فيلسوف الاستعمار بالمغرب [الأطروحة]
"ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوربا، ولا بد بالفعل أن يرتبط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيرا جهودا ناجحة في هذا الاتجاه. فهو –مثل آسيا الصغرى- يبدو متجها نحو أوروبا. هاهنا استقر القرطاجيون، والرومان، والبيزنطيون، والمسلمون، والعرب تباعا، كما ناضلت المصالح الأوروبية لكي تجد على هذه الأرض موطئا لأقدامها(..) والواقع أن ما نفهمه من اسم إفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له، ولا تطور أو نمو، والذي لا يزال منغلقا تماما وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرض هنا بوصفه واقعا على عتبة تاريخ العالم فحسب".
هيغل، العقل في التاريخ، الجزء 1.. محاضرات في فلسفة التاريخ، ص162/171.
 
يتجه تاريخ العالم في نظر هيغل من الشرق إلى الغرب، فإذا كانت الشمس الطبيعية تشرق شرقا لتغرب غربا، فشمس الوعي الذاتي تشرق بشكل باهت وخافت في الشرق وتغرب بوضوح غربا، وتاريخ العالم ما هو إلا تدريب للإرادة الطبيعية لاكتساب الحرية. إن الشرق لا يعرف إلا شخصا واحدا حرا، أما في العالم اليوناني والروماني فكان البعض حرا، وفي العالم الجرماني أصبح الكل يتمتع بالحرية. ثلاثة حالات: الاستبداد، الديمقراطية الأرستقراطية، والملكية. إنها رحلة الروح وهي تنتقل من الشرق إلى الغرب لتؤكد ماهيتها الحقيقية وهي الحرية.
تقريظ جرمانيا، وقدح الشرق ليسا سوى تعبير عن العلاقة بين بداية ونهاية، آسيا هي بداية التاريخ، و"أوروبا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق" يقول هيغل. لكن حذار! ثمة تقريظ آخر لأمريكا قبل هذا التأكيد باعتبارها بلاد الأحلام وأرض المستقبل لكل أولئك الذين سئموا من أوروبا كمخزن تاريخي للأسلحة. يورد فيلسوف هيدلبرح ما يلي: "يروى عن نابليون أنه قال: "أوروبا القديمة هذه تشعرني بالسأم"" لكنه يستدرك أن ما وقع بأمريكا ليس إلا استئنافا لما هو أوروبي. أما ما ستكون عليه في المستقبل، فهذا ليس موضوعا للفلسفة مثلما أن الماضي ليس موضوعها. موضوع الفلسفة هو الحاضر، ما هو موجود وجودا أبديا: العقل. إنه الموحد بين الذاتي والموضوعي، بين الفكر والوجود لتنقية الوجود الخارجي من الشوائب حتى يفهم التاريخ مكتملا".
يستبعد هيغل إفريقيا من صيرورة التاريخ كتمهيد لتسويغ أطروحة البداية آسيا والنهاية أوروبا. وإدخال الحاضر التاريخي متمثلا في استعمار فرنسا لشمال إفريقيا –كجزء راجح نحو أوروبا أكثر من رجحانه نحو إفريقيا- ضمن الحاضر الفلسفي حيث يسير العقل نحو اكتماله وتتوحد الأنطولوجيا والتاريخ. لننتبه جيدا! لم يأخذ ماركس عن هيغل نواة الديالكتيك فقط، بل أخذ عنه كذلك تسويغه لواقع الاستعمار، خدمة لتطور الروح المطلق عند الأستاذ وتسهيلا لاستنباط نمط الإنتاج الرأسمالي في تشكيلات اقتصادية متأخرة حتى يتحقق الانتقال نحو الاشتراكية لدى التلميذ اليساري. يؤكد هيغل أن الكرة تدور، لكن التاريخ لا يدور، وهذا حكم قاس في حقنا، فإذا كان قد نظر للاستعمار بعين الرضى، معجبا بنابليون غازيا ألمانيا، مجردا وبقساوة دخول جيوش فرنسا إلى بلاده –تجريدا فلسفيا باردا "روح العالم يمتطي صهوة جواد"- فكيف يمكن لهيغل أن يكون رؤوفا بشمال إفريقيا عامة وبالمغرب خاصة؟
يؤيد الفيلسوف الألماني دخول القوات الفرنسية "أرض المغرب الأوسط" سنة 1830، والتأييد ينتمي لحركة تجريد للسياسة حيث يتطور العقل ليأخذ حلة المفهوم في مجال الفلسفة ما دامت صيرورة العقل الشمولي هي موضوع وحركة المفهوم. يزيل هيغل من طريقه التاريخي كل عائق لإثبات النهاية المطلقة للتاريخ بأوربا. فيلحق الجزء الشمالي من إفريقيا بأوروبا. كذلك يزيل من طريقه الفلسفي كل عائق لإثبات أنه آخر الفلاسفة وفيلسوف المطلق والنهاية، فالفلسفات السابقة لن تجيب على مشاكل الحاضر، والفلسفة اللاحقة تحتضن في نسقها أفكار أنساق فلسفية سابقة. لهذا سيكون من الخطأ البحث في الأفلاطونية عن إجابات لمشاكل عصرنا، يقول هيغل. نفس الفكرة الهيغلية تجد صورة واقعية لها لدى ماركس: "لا تطرح الإنسانية إلا المشاكل التي تكون قادرة على حلها". هل نقرأ فكر هيغل استثمارا للقراءة الهيغلية لأنساق فلسفية سابقة، فنعلن عدم راهنيته [الفكر الهيغلي] وأنه بدوره لن يجيب على معضلاتنا ومشكلاتنا؟ الجواب سيكون نفيا لأن كل الأفكار الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين تغذت من النسق الهيغلي.
2 – الصورة الثانية: خوف هيغل من المجتمع المدني [نقيض الأطروحة]
"لقد توفي هيغل عام 1831. وشهد العالم السابق على وفاته أول ضربة ثورية ضد النظام السياسي لعهد عودة الملكية، وهو نفس النظام الذي ظن هيجل أنه يعني تحقق العقل في المجتمع المدني. وبدأت الدولة تترنح. وانهار حكم أسرة البوربون في فرنسا بفضل ثورة يوليوز. وكانت الحياة السياسية الإنجليزية تشيع فيها مناقشات حامية لمشروع قانون الإصلاح الانتخابي الذي نص على إدخال تغيرات واسعة المدى في النظام الانتخابي الإنجليزي، وهي تغيرات حدثت لصالح بورجوازية المدن، كما نص على تقوية البرلمان على حساب التاج. ولقد كان كل ما أدت إليه الحركتان الفرنسية والإنجليزية هو تعديل الدولة بحيث تتلاءم مع علاقات القوة السائدة (…) ومع ذلك فإن هيغل عرف بوضوح تام الأخطار التي تنطوي عليها نفس هذه التغيرات البسيطة التي كانت تحدث عندئذ، فقد عرف أن الدينامية الكامنة في المجتمع المدني، ما إن تنطلق متحررة من الأجهزة التي تحمي بها الدولة ذاتها، حتى تستطيع في أي وقت أن تطلق قوى تزعزع النظام بأكلمه(…)".
هاربرت ماركوز، العقل والثورة، هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، ص244-245.
 
هذا النص هو مرآة لنقد اجتماعي يبلور عناصره ماركوز، بعد مرحلة شباب تميزت بانشداد إلى روح كتاب الوجود والزمان لهيدجر، حيث كان هاجس ماركوز الشاب إبراز ترابط الأنطولوجيا والمنطق ونظرية المعرفة في فلسفة هيغل، وتأكيد أن الأنطولوجيا الهيجلية هي أساس النظرية التاريخية لدلتاي، وذلك انطلاقا من تعميق التفكير في مفهوم الحياة. يختلف كتاب العقل والثورة في أساسه الإشكالي وعقدة تفكيره عن نظرية الوجود عند هيغل، أساس الفلسفة التاريخية [كتاب هو في الأصل رسالة دكتوراه]؛ إنه عمل ينعت هيغل بالديكتاتور الفلسفي لدولة بروسيا، الذي حاول تشكيل الواقع وفق مبدإ الفكر، فالمجتمع المدني يجب أن يخدم الغايات الكبرى للمجتمع السياسي كراع لتطور الفكر، لكن حين يتعارض المجتمع المدني مع المجتمع السياسي تكون التضحية في النسق الهيغلي بالواقع [طموحات المجتمع المدني ] لفائدة الفكر، من حيث أن الإيديولوجية الديمقراطية تحمل خطرا على الحرية ما دامت تهدد الدولة القائمة..
لم يكن ما اعتبره هيغل حالة مستقرة لدولة ذات سلطة ونفوذ سوى عرض في الواقع والتاريخ؛ بينما اعتبرته كتاباته حول "فلسفة التاريخ" و"فلسفة الحق" على أنه النهاية. لم يكن سوى البداية المتفتحة لمرحلة جديدة بدأت بزوال العهد الثاني للملكية الفرنسية [العائدة بعد العهد الجمهوري ] التي كانت نموذجا للتفكير السياسي الهيجلي، وتطور العقل داخل التاريخ ليعي ذاته وماهيته متمثلتان في الحرية. انتقد هيغل في بحث نشر سنة وفاته مشروع قانون الإصلاح البريطاني [البحث بنفس العنوان، نشر ضمن كتابات في السياسة وفلسفة الحق] معتبرا أن هذا القانون الانتخابي يحذو مبادئ الثورة الفرنسية، فيقيد سيادة الدولة وسلطة الملك، لأن التحول في إنجلترا لم يكن ليتم في رأيه إلا بقوة الشعب، وهذا سبب الخوف الهيغلي من الإصلاح. هنا ينتصر هيغل من جديد للعقل على حساب الثورة. يقول ماركوز. "كان هيغل آخر من فسر العالم على أنه عقل وأخضع الطبيعة والتاريخ معا لمعايير الفكر والحرية" [ص249]. هنا يلوي هيغل عنق التاريخ ليحتفظ للعقل بصيرورته المرسومة في ذهنه كفيلسوف. كيف يتحقق حضور الحرية في التاريخ إذا كان هذا الأخير قد هجر المغرب، وكيف يمكن للروح المطلقة أن تحمل الحرية وتحققها في أوروبا، وخاصة جرمانيا، فلسفيا ودينيا، وفرنسا سياسيا [أي استعماريا] إذا كان فعل الحرية هو أيضا فعل استعباد لشعوب أخرى؟ هل مازلنا في قلب الجدل الهيغلي بين السيد والعبد وإرادة الذات في أن يعترف بها الآخر؟
لم يكن  هيغل ماديا، بل فيلسوفا مثاليا عبقريا، لذلك فهو يعني بالاستيلاب اغتراب الفكر الذاتي عن ماهيته أي عدم تحقيقه لحريته، أما ماركس فسيعلل الاستيلاب على قاعدة العلاقات الإنتاجية وقوى الصراع الاقتصادي، فالاستيلاب تعبير عن فقر واقعي واستغلال اقتصادي. كذلك نقول: إن هيغل المثالي الذي أدخل شمال إفريقيا ليكون قريبا من أوروبا، ما دام روحا غير متطور ولا تاريخ له، كان جاهلا بتاريخ وروح هذا الجزء من إفريقيا، فبين ضرورة التوسع الاستعماري وفق المنطق الاقتصادي الانتشاري للعقل البرجوازي، وبين دفاع شعوب مستعمرة عن ذاتها لانتزاع اعتراف الآخر بها، يفقد العقل الهيغلي ترابط حلقاته لينزلق من الفلسفة إلى الإيديولوجية. مسألة تفقئ عيوننا ونحن نتمثل اليوم نهوض مجتمع مدني متحرك تمثله هيغل مجتمعا ساكنا ملحقا وعرضا من أعراض المجتمع السياسي، فكان أن انكمشت اليوتوبيا الهيغلية باسم تأبيد الحاضر نحو اليأس مقابل انتشار المفهمة الهيغلية التي أخصبت يمينا ويسارا، وجودية، ظاهراتية وماركسية.
3 -الصورة الثالث: هيغل وهزيمة 1967، أو هيغل وتاريخانية العروي [التركيب]
"إن هيغل يتكلم عن الدولة حسب مقتضيات مفهومها، لا عن أية دولة قائمة. هل هذا التمييز ممكن في حياتنا السياسية؟ من يفرق تلقائيا بين الدولة القائمة والدولة –في- ذاتها؟ على كل دولة قيم يقول لا محالة: دولتي هي الدولة –في- ذاتها. لقد قيل إن هيغل ظن أن نظريته تحققت في النظام البروسي! هذا ادعاء واضح البطلان لكل من قرأ بإمعان فلسفة القانون. لكن، من غير المستبعد أن يكون بعض تلاميذ هيغل قد اعتنقوا هذا الرأي، عن اقتناع أو تملقا لأولي الأمر. ومما لا شك فيه أن المسؤولين البروسيين لم يهتموا بهيجل إلا من زاوية نقده لمبادئ الثورة الفرنسية، مبادئ الليبرالية والديمقراطية(…) لقد خول هيغل للدولة العقلانية حق القضاء بالقوة على النزوات الفردية. كل دولة قائمة تفعل ذلك: تربي الناشئة حسب آرائها، توحد التنظيمات الجزئية حتى ترجح كفة الواجبات على كفة الحقوق، فتدعي أنها تجسد الروح القومي أو حقيقة الجنس".
عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1981،ص26/27
استدراك:
ليس هيغل إذن الديكتاتور الفلسفي لدولة بروسيا، وهذا ما يؤكده ماركوز أيضا في نهاية مؤلفه العقل والثورة لأن الفلسفة التي ستأخذ دولة بروسيا بنتائجها السياسية بعد 1840 هي فلسفة فردريك يوليوس شتال، التي نسجت خيوط حل وسط بين الحكم الملكي المطلق وبين المطالب الضعيفة للطبقة الوسطى الألمانية، حتى لا تظهر بأنها فلسفة تحمل دفاعا واضحا عن الملكية المطلقة. لذلك يهاجم شتال هيغل، وهو نفس الهجوم الذي ستظهره النزاعات الفاشية في إطار الإيديولوجية الاشتراكية الوطنية [النازية]. لا يمكن موضعة النقد الهيغلي لمبادئ الثورة الفرنسية ولجموح المجتمع المدني إلا في سياق صيرورة الجدل بين الواجب والحرية، فحرية الفكر والمجتمع المدني كما تجسدت في مبادئ الديمقراطية وثورة 1789 لا ينبغي أن تقوض أساس الدولة ومشروعيتها، لأن علاقة المواطن الفرد أو الجماعة أو المجتمع المدني بالدولة هي علاقة واجب. هنا يتأكد بوضوح الحرص الهيغلي الصارم على المؤالفة بين المتناقضات وعدم التضحية بالواجب في معبد الحرية مع مراعاة عدم تحرير المجتمع المدني حتى لا يبتلع المجتمع السياسي (الدولة).
أية علاقة ممكنة بين العروي المغربي الحي بيننا وهيغل الألماني مبدع الميتافزيقا المكتملة؟
لهذه العلاقة صور متعددة نحصرها في ثلاثة وهي: 1) الصورة العقلانية، 2) الصورة الإيديولوجية، 3) الصورة السياسية.
1 ـ الصورة العقلانية:
يعرض العروي لنظرية هيغل حول الدولة ليظهر عقلانيتها الضرورية التي تتأسس على القضاء على الرغبات الفردية. إنها دولة العقل الشمولي العياني لا العقل التجزيئي التجريدي كعقل يخص الفرد الواحد. لم تخرج النظرية الماركسية بدورها في نظر العروي عن الدائرة النظرية للفلسفة الهيغلية وخاصة فيما يرتبط بالدولة كمجتمع سياسي موضوعي يتحقق فيه العقل، أما من ابتعد من الماركسيين عن نظرية هيغل حول الدولة فقد انتهى إلى الفوضوية. لم تقتصر قصدية العروي في مؤلفه مفهوم الدولة على البعد البيداغوجي المتصل بالتأصيل للمفهوم نظريا وتاريخيا، بل تجاوزت هذا البعد نحو بعد آخر ناظمته المحورية هي التفكير في الوضع التاريخي للعرب وبناء عناصر رؤية مقارنة بين دولة الشرق وخاصة الدولة الإسلامية في العصر الوسيط والدولة القومية راهنا وبين دولة الغرب المؤسسة على العقلانية والإدارة والبيروقراطية [ فيبر]. إن هذا البعد الفكري المرتبط بتأصيل المفاهيم لاختبار مدى تحققها التاريخي هو بعد حاضر في كل المؤلفات –المفاهيم لعبد الله العروي: مفهوم الإيديولوجيا، مفهوم الحرية، مفهوم العقل، إضافة إلى مؤلفه مفهوم الدولة. إن الدولة العربية ليست عقلانية فحسب بل هي مملوكية سلطانية أيضا، فهي ليست دولة التنظيمات فقط بل دولة الأفراد والجماعات المنغلقة كذلك. الدولة العربية جامعة ومتأرجحة بين العقلانية والتسلط، بين الطابع المدني والطابع السياسي، بين محاولة تأسيس تنظيمات حديثة والانشداد إلى الإرث السلطاني القديم. بهذا المعنى تكون نظرة الإنسان العربي إلى الدولة نظرة لجهاز سلطاني قديم لا نظرة إلى جهاز سلطة حديث تتمثل نواته الصلبة في العقلانية والتنظيم والتدبير.
 
 
2 ـ الصورة الإيديولوجية:
ألف عبد الله العروي كتابه الشهير الإيديولوجية العربية المعاصرة قبل هزيمة 1967، وهو  كتاب ظهر للعديد من النقاد أنه يكشف عن التفكك التاريخي ويتكهن بالهزيمة قبل وقوعها، إلا أن العروي يكذب ذلك مؤكدا أنه طرح سنة 1965 السؤال المحوري: من نحن ومن الآخر؟ ولو حرر الكتاب بعد سنة 1967 لكانت الصيغة: ما هو الاستعمار؟ ما هي الثورة؟ ما هو التخلف؟ [ص14/15]. يتأكد أن هذه الصيغ تشكل نقيضا للأطروحة الهيغلية المنتصرة للاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا مع علمنا أن الاستعمار العسكري بمنظور هيغل ليس هو الاستعمار الجديد كما يحلله العروي كعلامة على تخلف شامل وتأخر تاريخي. يجرد هيغل تجريدا فلسفيا وضعية ألمانيا المتأخرة مقارنة بفرنسا نابليون، ويجرد العروي تجريدا تاريخانيا وضعية العالم العربي المتأخر مقارنة بالغرب مركبا بين التاريخ والفلسفة واجتماعيات المعرفة، ليظهر أن المطلب الملح ليس الأخذ بماركس العالم المحلل لبنية الاقتصاد من خلال العينة الواقعية للمصنع الإنجليزي، بل الأخذ بماركس الإيديولوجي لأن واقع التخلف والاستعمار الجديد يفرض الالتقاء بين الفكر العربي والماركسية الموضوعية. تجد هذه الدعوة استمراريتها في كتابه أزمة المثقفين العرب، إنها دعوة حاضرة بقوة في تشريحه لأصناف الخطاب الإيديولوجي العربي المتداول لدى الشيخ، الليبرالي وداعية التقنية، إنه نقد حامل للروح الهيغلية، وهو ما أظهره جورج لابيكا في نقده الشهير لكتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة الواصف لفكر العروي بأنه فكر هيغلي ومثالي. إنه النقد الذي كررته أقلام وألسن نقاد العروي. إن ما يقوي مشروعية هذا النقد هو مطلب العروي الملح في ضرورة تمثل مكتسبات الليبرالية دون حاجة إلى ولوج مرحلة الليبرالية تأسيسا على القاعدة المادية-الاقتصادية. لم يستسغ مطلب العروي الماركسيون الاقتصاديون، لكن تجربة روسيا نفسها بل تجربة الصين وأيضا المحاولة التجديدية لغرامشي هي كلها علامات تبرز أولوية تحديث الفكر كمهمة مناطة بالنخبة الثقافية. إن استمرار أطروحة العقل كقوة محركة للتاريخ والوجود (كأطروحة هيغلية) في مشروع العروي ليس علامة سلبية بل علامة إيجابية لأن كل النكسات المعاصرة من هزيمة 1948، 1967، حرب الخليج، فشل التجارب التنموية تظهر اغتراب الفكر عن موضوعه وغياب العقل في حقل التدبير السياسي.
3 ـ الصورة السياسية:
ينتقد هيغل مبادئ الثورة الفرنسية تجنبا لجموحها العملي حتى لا يتحول الإصلاح الدستوري إلى ثورة، إنه يعلن فلسفيا نهاية اغتراب الذات عن الموضوع والفكر عن التاريخ، لكن في الواقع ستتحقق نهاية مرحلة سياسية بفرنسا ونهاية العهد الثاني للملكية. النهاية في الفلسفة هي بداية في السياسة والتاريخ، مادات الفلسفة تأتي في المساء وتتأمل الحاضر، وقد يخدعها المستقبل السياسي. يعي العروي حالة الفوات التاريخي ومستوى التأخر الحضاري للذات العربية لأن النهاية في السياسة، متجلية في أفول عهد الدولة القومية الوطنية الناصرية والبعثية نتيجة هزيمة 1967، هي البداية في الفلسفة تجاوزا للشعارات وظاهر الخطابات السياسية. تنتهي الفلسفة عند هيغل لتفسح المجال للسياسة حتى تعانق الفلسفة من خلال المفهوم العقل محركا للتاريخ. أما عند العروي فينتهي عهد السياسة ليفسح المجال للفلسفة بغية ترسيخ دور النخبة في "الإصلاح الثقافي" والعقلنة تفكيكا لحصون الفكر الماضوي. يستلهم العروي روح التفكير الهيغلي متجاوزا –لنتذكر جيدا- حكمه على شمال إفريقيا، حيث يتعين تحقيق التحديث والتقدم والتنوير. بهذا تستمر الأنطولوجيا الهيغلية في تاريخانية العروي دون أن تستمر فلسفة التاريخ الهيغلية التي حكمت على الشرق بأنه بداية التاريخ فحسب وصنفت إفريقيا خارجه وأقحمت شمالها بقوة العنف الاستعماري ضمن أوروبا.
4 ـ الصورة الرابعة: هيغل بين جدار برلين وأمريكا، أو في الاستمرار السياسي لا الفلسفي للأطروحة
"إن فشل التفسير الاقتصادي للتاريخ يعيدنا إلى هيغل وليس إلى ماركس لأن هيغل يتناول العملية التاريخية بشكل غير اقتصادي تماما. فكما فسر ذلك ألكسندر كوجيف، يمنحنا هيغل فرصة لإعادة التفكير بالديمقراطية الليبرالية الحديثة بتعابيرمختلفة عن التعابير المعتادة في الوسط الأنكلوسكسوني المنبثق من هوبز ولوك(…) إن هيغل، بعكس هوبز ولوك، يعطينا مفهوما للمجتمع الليبرالي مرتكزا على الجانب غير الأناني في الشخصية الإنسانية، وهو يحاول إبقاء هذا الجانب كنواة للمشروع السياسي الحديث. وفي نهاية المطاف يبدو هذا المفهوم الهيغلي تفسيرا أكثر دقة لما يعنيه الناس في العالم المعاصر عندما يعلنون بأنهم يريدون الحرية والديمقراطية".
فرنسيس فوكوياما، (بداية التاريخ) مقال نشر إثر انهيار جدار برلين وعرف تحليلا له في كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير. ترجمة فريق مركز الإنماء القومي. مجلة العرب والفكر العالمي، عددان 15-16/1991، ص90.
 
أنتج تضخم في الخطابات، والادعاءات والتصريحات حول "نهاية التاريخ" بعد أن تورم الادعاء بنهاية الإيديولوجيات، منذ ما أعلنه عالم الاجتماع كارل لبست K.Lipset في الستينات. واليوم بعد تفككات تاريخية وانحلالات تاريخية اعتقدنا أنها ستكون حلقات متسلسلة لا تنفصم عراها، يأتي المستشار والموظف بالخارجية الأمريكية فرنسيس فوكوياما ليعلن نهاية التاريخ مرتحلا بين فكرة "الاعتراف" عند هيغل وفكرة "الإنسان الأخير" عند نيتشه. الصراع من أجل اعتراف الآخر بالذات هو ما جعل الناس ينزلون إلى شوارع موسكو، براغ، برلين، تيمشوارا… الخ، لأنهم لم ينتفضوا لأسباب اقتصادية، بل لغياب الديمقراطية، لذلك فتاريخ الدول التي غابت فيها الديمقراطية قد انتهى؛ و"الإنسان الأخير" في زرادشت نيتشه الذي لا يغامر ولا يجازف الحريص على ألا يصدر أحكاما مسبقة، إذ يتحول من شدة الحرص إلى كائن وسط قطيع خائف ومحتاط دائما. ليس هناك تناقض بين الفكرتين النيتشوية والهيغلية، ففكرة نيتشه المتشائمة في التماسها للديمقراطية هي النقد العميق والعنيف لفكرة هيغل المتفائلة، لأن الاعتراف بالمساواة بين الكائنات البشرية كمبدإ مؤسس للديمقراطية هو اعتراف لن يرضي الكل ما دام الناس غير متساوين، كما أن تأكيد الديمقراطية في أبعد حدودها قد يسوي بين الكل فيصبح "الإنسان الأخير" هذا كما كان حيوانا في الأصل، يعيش حياة قطيعية، وهذا يفتح المجال للتدمير ونهاية التاريخ.
لم يتنبأ فوكوياما بنهاية التاريخ، بل هو يسجل بدايته، ولذلك كان تأمله السياسي المتكئ على تراث فلسفي "كبومة منيرفا التي تأتي في المساء". لكن الأمر لا يتعلق بالفلسفة على هدي عمق الفكرة الهيغلية، بل هو تفكير استراتيجي كان عليه أن يتنبأ ويسبق وقائع التصدع والترميم، الانحلال والبناء، لهذا فإن ما يستخلص من درس في علاقة فوكوياما، المستشار الاستراتيجي، بهيغل الفيلسوف [وربما كان سيكون مستشارا استراتيجيا في عصره ما دام قد وحد بين العقل والتاريخ ليتجسد في الدولة البروسية وقبل العرض الذي رفضه سبينوزا: التدريس بجامعة هيدلبرج] يمكن عرضه:
1 ـ فكرة النهاية تخص دولا دون أخرى والنهاية تعني بداية تاريخ جديد.
2 ـ النهاية لا تلتصق بالانغلاق مادام الجدل هو صيرورة مستمرة، فنهاية مرحلة إعلان لانفتاح على مرحلة أخرى.
3 ـ يبعد فوكوياما شأنه شأن هيغل العنصر الاقتصادي والقاعدة المادية في تحليل التاريخ، ليظهر عنصر "الحاجة إلى الاعتراف" كفكرة هيجلية في صيغة الديمقراطية الليبرالية كزواج بين العقل والحرية وضمان للتعددية.
4 ـ يكون الدين منتهى المغامرة الفلسفية، إذ تتجسد الفكرة المطلقة في الإله المسيحي وترعاها دولة بروسيا ويكون الدين عند فوكوياما كرابطة تلحم بين عناصر الكل الاجتماعي وتجنبه التفكك كأساس لاستمرار الديمقراطية الجديدة وكعنوان لنهاية التاريخ، فهل هي نهاية أبدية لن تتلوها بداية أخرى؟ تلك هي الحلقة الضعيفة في تفكير فوكوياما، وهو يتيه عن دائرة التفكير الاستراتيجي المستثمر للفكرة الفلسفية لينزلق نحو ديانة جديدة.

  النسق الفلسفي[هيغل]   

الحاجة التاريخية[الآن/هنا]

غياب البعد الاقتصادي في الفلسفة الهيغلية

حاجتنا إلى "تبرير" اقتصادي من خلال ماركس الموظف لهيغل.

قراءة العروي باعتباره "هيغليا" عربيا

الحاجة إلى هيغل، من خلال الحاجة إلى ماركس: إعادة تنظيم الفكر باستعمال المنهج.

هيغل ينتقد الاندفاع الثوري للديمقراطية
الفرنسية

  فوكوياما يوظف هيغل لدعم الديمقراطية الليبرالية

التفاؤل المميز لفلسفة التاريخ الهيغلية

استثمار فوكوياما لنيتشه [الإنسان الأخير] ضد هيغل لحماية الديمقراطية حتى لا تصاب بالشيخوخة.

خطاطة تبرز بعض مستويات العلاقات الممكنة بين هيغل من جهة والعروي وفوكوياما من جهة أخرى.

خلاصة: تركيب راهن: فكرة "النهاية" بين ضعف الإيديولوجيا وقوة الفلسفة.
من خلال الصورة السابقة تنبثق صور واضحة لعلاقات قائمة بين هيغل ونحن أو بين هيغل ومفكرين استلهموا روح الفكر الهيغلي:
1 ـ نحن وهيغل: لم يفكر هيغل في البنية الاقتصادية، فتجريده الفلسفي ونقل نظرية "العقد الاجتماعي" عند هوبز و[انتقال الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة] من المستوى السياسي إلى المستوى الفلسفي بإبراز مغامرة الوعي وهو ينتقل من الوعي بذاته ذاتيا إلى الوعي بذاته كموضوع لم تكن مدار انجذاب بالنسبة لنا، كعالم ثالث، كمجال عربي-إسلامي، وكمغرب. إن ما يستهوينا هو التفسير الاقتصادي الذي سيركز على معضلات الفقر، التخلف والتبعية، دون أن يعني تحليلا اقتصاديا علميا لأن العودة إلى الاقتصاد هنا تعني الوعي الإيديولوجي بالتفاوت بين الغرب واللاغرب.
2 ـ "إن الاعتراف بالكوني الشامل هو في الواقع التصالح مع الذات. وكما أنه ما من أحد يختار بخفة الانتحار أو النفي البحث، فإن الوعي العربي يبحث عن هذا الكوني الشامل منذ ثلاثة أرباع القرن"، نعت العروي بعد ظهور كتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة الذي اقتطفنا منه هذا المقطع بأنه هيغلي، والتجريد الفلسفي عند العروي كمؤرخ يؤدي إلى اكتشاف هيغل منتقلا بين مقاطع وصفحات عديدة من كتابات المفكر المغربي. لكن العروي يدعو إلى استلهام "ماركس الإيديولوجي" لأنه يفرض نفسه، وهو ما يسميه بالماركسية الموضوعية، كنتيجة ضرورية للتفكير في مجالات الاجتماع والاقتصاد والتاريخ، إنها خلاصة إيديولوجيات سابقة. الوعي العربي يقبل نتيجة التحليل الماركسي ككاشف عن صراع الطبقات دون القبول بالمنهج المتبع، وهذا ما يجعله انتقائيا بالضرورة. واستئنافا للهيغلية بصيغة جديدة مثلما كانت الماركسية استئنافا للهيغلية أيضا. يقول العروي في صيغة مكثفة وموحية: "يستطيع الغرب أن يكون برجسونيا أو ظاهريا. أما الشرق العربي فلا يستطيع موضوعيا أن يقرأ سوى ما أدرج في السجل الهيغلي" [نفس المصدر السابق، ص138].
3 ـ هيغل في أمريكا: ينتقد هيغل الجموح الثوري للثورة الفرنسية وما تختزنه الديمقراطية الفرنسية من مبادئ تعلي من شأن المجتمع المدني وتهدد المجتمع السياسي. أما فوكوياما فيوظف فكرة هيغل حول "الصراع من أجل الاعتراف" ليدعم الديمقراطية الليبرالية، والدرس المستخلص هنا هو أنه إذا كان هيغل يعلن فكرة النهاية تاريخيا، بحيث تقابلها البداية فلسفيا ما دام دشن قارة فكرية جديدة سكنها يساريون ويمنيون، وجوديون وماركسيون وفينومينولوجيون، فإن فوكوياما الذي يستأنف طرح فكرة النهاية تاريخيا –والتي كذبتها الوقائع لأن التاريخ منفتح ومتعدد الإمكانيات- يعلن استئناف الاستثمار السياسي لغنى الأطروحة الهيغلية وعمقها في مساحتها الفلسفية، مع استمرار قوة إمكان بطلان تكهنه بانتصار نهائي للليبرالية، وهو ما يعني انتقاله من السياسة إلى ميتافزيقا ذات شكل سياسي.
هكذا إذن يمكن أن نخلص إلى أن:
ــ   فكرة النهاية تنتمي للتاريخ دون أن تعلن طلاقا مع الفلسفة.
ــ إن ظهور أطروحة النهاية في عصر ما هو علامة واضحة على مخاض الفكر الذي يدشن تأمله في مرحلة جديدة [إنها البداية وليست النهاية].
ــ كان دخول هيغل إلينا دخولا سلبيا ما دام قد رحب بالاستعمار الفرنسي متوغلا في شمال إفريقيا، بل ورافعا حدث وجود نابليون بجيوشه بألمانيا من الواقعية التاريخية إلى الفكرة الفلسفية [روح العالم يمتطي صهوة جواد].
ــ دخولنا إلى هيغل كان وسائطيا عبر ماركس لأننا لم نؤسس لحاجتنا إلى فينومينولوجيا الروح أو المنطق تأسيسا فلسفيا بل تأسيسا إيديولوجيا انطلاقا من ماركس كأكثر الدعاة لفكر هيغل بشكل غير مباشر وأكثرهم نقدا له بأكثر الصيغ نفاذا وتفكيكا.
ــ لم يكن الطرح الإحيائي والبعثي لفكرة "النهاية" انطلاقا من مجال الفلسفة العربية المعاصرة ولا تجريدا فلسفيا للحظة التاريخية الراهنة، بل عبر وسيط هو هذه المرة موظف في الاستراتيجيا السياسية. فوكوياما هو من أدار بصرنا صوب فكرة "النهاية". لكن هنا تكمن عقدة الفكر حين يجهد ذاته للالتحام بالموضوع واحتضانه، "كيف نقبل بنهاية ونحن لم نعرف بعد البداية الحقيقية؟". إن فكرة النهاية ليست صحيحة وليست خاطئة، فهي بقدر ما تقلقنا تاريخيا وتدخلنا في دائرة العبيد فإنها تحفزنا على التفكير فلسفيا لأنها تشكل دعوة لاشتغال عميق للفكر على ذاته وعلى موضوعه. عميق ما قاله هيدجر: "تحديد هيغل للتاريخ كتطور للفكر ليس بالتحديد الخاطئ لكنه ليس بالتحديد الصحيح في جزء والخاطئ في جزء آخر. إنه تحديد صحيح صحة ميتافيزيقا هيغل التي تمكنت لأول مرة من تحقيق ماهيتها المطلقة في المنظومة الفلسفية".
 
Heidegger, (Lettre sur l'Humanisme) in Question III, Gallimard, Paris, 1966, pp109-110.
 
المراجع:
 
بالعربية:
1 – هيغل، فريدريك: العقل في التاريخ، الجزء الأول من محاضرات في فلسفة التاريخ.
2 – ماركوز، هاربرت: العقل والثورة، هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا المؤسسة للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1979.
3 – ماركوز، هاربرت: نظرية الوجود عند هيغل، أساس الفلسفة التاريخية، ترجمة إبراهيم فتحي، دار التنوير، بيروت، ط1، 1984.
4 – العروي، عبد الله: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1981.
5 – العروي، عبد الله: الإيديولوجية العربية المعاصرة، دار الحقيقة، بيروت، ط3، 1979.
6 – العروي، عبد الله: أزمة المثقفين العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط، 1978.
7 – فوكوياما، فرنسيس: (بداية التاريخ)، المقال المؤسس لكتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، المقال منشور ضمن العرب والفكر العالمي، عدد 15-16، 1991.
    مقابلة مع فوكوياما: مجلة الاجتهاد، بيروت، عدد 15-16، 1992.
 
بالفرنسية:
8 – Hegel F. : Leçons sur l’histoire de la philosophie, 2 tomes, traduction : J.Gibelin, Gallimard, 1954.
9 – Heidegger M. : (Lettre sur l’humanisme), in Question III, Gallimard, 1966.