في الزهد الفلسفي ونقد المثال الزهدي : الرهان حول الحقيقية - ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة
     ترجع كلمة "زهد" إلى أصل قديم، لكنها خضعت لتغيرات كثيرة، تحولت بموجبها إلى قناع تتلبسه شخصيات دينية وفلسفية وأخلاقية. وللكلمة حمولة معرفية وقيمية تضفي على كائن الزهد روحانية مفرطة، أشك في معرفتنا لكيفية تشكلها واكتسابها. لذلك أدعو القارئ الكريم، إلى جولة على ضفاف حوض البحر الابيض المتوسط، للوقوف على تاريخ تشكل الممارسات الزهدية، مع عزل المشكلات التي طرحتها طفولة هذه الكلمة، والتي تتطلب منا الشجاعة في قول حقيقتها. هذه الكلمة التي لاقت رواجا داخل مختلف الجماعات البشرية في الشمال الإفريقي ومصر وفلسطين وسوريا وفارس وأسيا الصغرى وبلاد الإغريق وإيطاليا والغال...، وداخل المجموعات الوثنية والدينية، والطوائف اليهودية والمسيحية، والمدارس الفلسفية كالفيتاغورية والسينيكية والرواقية والأبيقورية. من اللازم التذكير أولا برغبة العرافين والرهبان والفلاسفة في تحقيق "الإنظباط الذاتي" عن طريق إضفاء مثل زهدية على حياتهم، وتبني أفكار وممارسات تقشفية ذات علاقة بنظرة معينة للذات وللآخرين وللحياة، وثانيا بالخدمة المجانية التي قدمتها الفلسفة منذ بداياتها الأولى للمثال الزهدي في الوقت الذي لم تكن قادرة على السير لوحدها، وعلى تعلم الحياة والإستمرار دون رعاية وسند. لكن مفهوم "الإنضباط الذاتي" اختلف بين زهد رجال الدين وزهد الفلاسفة؛ فإذا كان الأول يهدف إلى إنكار الذات، فإن الامر يتعلق في الثاني بالإلتحاق بذات النفس باعتبارها موضوعا، وغاية لتقنية في الحياة، ولفن في الوجود.

-1الجسد كرهان تاريخي للممارسات الزهدية
    لعل الشكل البارز لظهور الزهد كممارسة، تجلى في العلاقة التي أقامها الإنسان منذ القديم مع جسده ومحيطه، بحيث صدرت عنه، في وضعيات متنوعة، مجموعة من الأفعال والسلوكات والتصرفات التي لاقت امتداحا. الشيء الذي أظهر الزهد، كطريقة في الحياة تتطلب انضباطا يوميا وقصدية في سلوكيات الجسد(1). المثير جدا، أن هذه الأفعال والتصرفات تحولت مع مرور الزمن إلى طقوس دينية وعبادات محاطة بهالة من التبجيل والتقديس، وإلى أفكار ومعتقدات شكلت مفهوم "التنسك" أو "التقشف" أو "الزهد".
تطرح التجارب الزهدية للعالم الإغريقي-الروماني، ولشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، أسئلة متشعبة حول أصول تشكل هذه الطقوس والممارسات، وانتشارها على طول ضفاف هذه البحيرة منذ عصور قديمة بل واستمرارها، خاصة مع انتظام هذه الممارسات في مؤسسات دينية، معترف بها سياسيا واجتماعيا. تؤكد هذه التجارب على بروز تقنيات للإهتمام بحياة الجسد والإنتباه لإيقاعاته، من خلال ابتكار أساليب متنوعة تتوجس من آداب المائدة، والملكية والثروة، والنشاط الجنسي. وذلك عن طريق الإمتناع عن تناول بعض المأكولات(لحوم، خمور...) أو الإمتناع عن الأكل والشرب لفترة معينة(صوم)، والتنازل عن الملكية والثروات(لعنة الشرف)، والإشادة بممارسة الجنس من أجل الإنجاب فقط، وتمجيد العزوبية(التعفف، العذرية). وفي كل هذه التجارب تم إضفاء معاني دينية وأخلاقية ومظاهر للقداسة على مختلف هذه الممارسات(صلاة، صوم) وعلى ممثليها(كهنة، رهبان، حواريين، قساوسة، شمامسة...).
وتبرز الامثلة التالية، نماذج من الممارسات الزهدية للعالم الإغريقي والروماني ولشعوب حوض البحر الابيض المتوسط(2):
-الرهبنة المصرية:
تميزت بشيوع تعاليم أوريغينوس(185-245م) الزهدية وفقره. وقد أثرت هذه التعاليم منذ مطلع القرن الرابع الميلادي(3)، في هيراكاس، وهو شارح مصري للنص المقدس من ليونتوبوليس في جنوبي دلتا النيل، وكان إيبيفانيوس قد عده هرطوقا، ولكنه اعتبر مع ذلك "مدهشا في زهده". وشكل أتباع هيراكاس مجتمعات منع فيها الزواج، ومورست الطهرانية، واعتمدوا نظاما غذائيا من دون لحم وخمر(...). وقد مارس أوريغينوس تاثيرا على التقاليد الشبه الزهدية المرتبطة بأنطونيوس المصري الذي يلقب ب"أبي الرهبان"(4)، الذي تميز بوضع إرشادت للمبتدئين في النسك، أو الحياة الدينية. ينصح أنطونيوس من سيصبح راهبا، كيف يتصرف مع المشاعر الخاطئة التي تؤثر في كل جزء من أجزاء الجسد. فالأذن يجب أن تتدرب على عدم الإستمتاع بالثرثرة الشريرة. والحركات الخاطئة للروح - التفاخر، والكراهية، وعم الصبر- تتم مواجهتها عن طريق حياة تأسست على فترات صوم طويلة، والسهر للتعبد، والكثير من الدراسة لكلمة الرب، والإكثار من الصلاة، وكذلك نبذ العالم والأشياء الإنسانية، ومن تم التواضع والندم. ويلغي الزهد السقوط، مما يعيد الجسد إلى وضعه الملائم، وهو الوضع المناسب لدعم الحياة الروحية(5). ولدعم تعاليمه، يقتبس أنطونيوس عبارة بولس التي يقول فيها:"أنا أخفي جسدي، وأخضعه". في هذا السياق، يقول أوريغينوس:"الآبار التي في روحنا تحتاج إلى من يحفرها. ولا بد من أن تنظف، ويزال منها كل ما هو أرضي، حتى تنتج تلك الآبار الروحية التي وضعها الله فينا ماء نقيا وصحيا"(6). وبالتالي تحقيق العبارة التي أوردها القديس أوغسطين "كان عقله قد تجرد عن العالم". ويمثل إيفاغريوس البنطي نموذجا آخر للرهبنة المصرية، ويهدف الزهد الإيفاغريوسي إلى :"الخوف من الله يضمن الإيمان، وهو ما يمكن ضمانه عن طريق ضبط النفس، وضبط النفس يصبح راسخا عن طريق الجلد والأمل، وينبع من ذلك كله خمول الشهوات الذي تولد منه الرحمة، والرحمة هي طريق المعرفة الطبيعية، التي يتلوها اللاهوت، كما أنها المباركة المطلقة"(7).
-رهبنة فلسطين والشرق السرياني:
يخبرنا باسيل العظيم (نحو 330-378) عند زيارته لفلسطين عن إعجابه بالرهبان الشبه المنعزلين، وبانضباطهم الذاتي بالصوم، ويقظتهم في أثناء الصلاة، وهو ما يمثل حياة بليغة في مشاركة المسيح موته، لكي يصبحوا غرباء في هذه الدنيا، ولكن مواطنين في الجنة(8). يقدم يوسيفوس الأسينية مدرسة فلسفية زهدية " لها العديد من الأتباع في كل بلدة" من بلدات فلسطين، وأنهم "يمارسون القداسة" من خلال صد الرغبات وإتقان ضبط النفس(9).
وربط تجمع كريسوستوم في أنطاكية الرهبان بفكرة "السيطرة على الجبال". وقد ذكرهم الواعظ كيف أن خيش الرهبان وقيودهم، وصيامهم، ومعازلهم التي يوجد فيها نوافذ إنما تقوم بإعدادهم للموت... وينسب أيضا إلى الحواريين نظاما غذائيا واحدا:"لم يأكل الحواريون أي لحوم على الإطلاق؛ وكانوا يصومون حتى الساعة التاسعة ثم يتناولون الخبز والملح والأعشاب والزيتون" . وفي كل ذلك اتبعوا مثال المسيح الذي مشى على الأرض غريبا وأجنبيا(10). ومن خصائص الرهبنة السورية المطورة في أواخر القرن الرابع وهي "الإمتناع عن الجهد الجسدي"(11). على اعتبار أن العمل يعتبر إرضاء للجسد. هكذا تحددت الحياة الزهدية في فلسطين والشرق السرياني على أساس إنكار الذات وتعزيز سلوك التقشف، حيث الرهبان "حجاجا من دون أملاك"، همهم قيادة الصراع ضد العواطف والشهوات وإغواءات الشيطان والملكية.
-الزهد في شمال إفريقيا الروماني:
تأثر الزهد عند الامازيغ بالصراع الذي نشب بين الكنيسة الرسمية الكاثوليكية الرومانية والحركة الدوناتية(12)، مما أسهم في انفصالهم المبكر عن الكاثوليكية في بداية القرن الرابع وفي عزلتهم عن التغيرات التي طرأت على تقاليع الزهد. وفي رسالة جدالية تعود لعام 402، يقوم الأسقف الدوناتي بيتليان Petilian بالدفاع عن ادعاء كنيسته بأنها الكنيسة الافريقية الحق والاقدم عن طريق مهاجمة مؤسسة الاديرة الرهبانية بوصفها اختراعا غير مرخص من قبل أوغسطين. ومن أجل أن يحكموا بحسب موعظة أوغسطين، رفض الدوناتيين الرهبنة الجماعية من دون ترخيص من الكتاب المقدس:"أرونا أين يظهر إسم هؤلاء الرهبان في النص المقدس"(13). يظهر من خلال هذا الجدال والرفض، موقف الامازيغ من الرهبنة ونزوعهم نحو الإستقلال في أمورهم الدينية، ورفضهم لتكوين الجماعات الرهبانية. ويظهر ذلك جليا في موقف بارمينيان Parmenian أسقف قرطاج الدوناتي بين 363 و 391 الذي قدم جدالا لاذعا، وكتب مزامير دينية شعبية، ونقدا من خمسة مجلدات يدين فيها الحزب الكاثوليكي. أما الرهبنة التي أنشأها القديس أوغسطين، فقد ركزت على الرحمة الاخوية التي تطلبت حسب أوغسطين التخلي عن الملكية الخاصة، وقدم رهبانيات مصر أنها تجسيد للكمال، وحدد نظامهم الغذائي. وتمثلت الفضيلة الاساس في كرم الضيافة وليس التقشف، مع وجود اللحم والخمرة على الطاولة لتقديمها للزائرين من رجال الدين والموظفين الرسميين والناس العاديين الذين ينتظرون الاسقف اللاهوتي(14). وقد اقتبس بوسيديوس من "الإعترافات" 1 تيوموتي 5: 23 ليوضح أن أوغسطين لم يعتبر الشر في الاطعمة بعينها، ولكن في رغبة غير معتدلة وخاطئة"(15). أما تيرتوليان(160-220م) وهو رجل متزوج اعتبر الجماع الجنسي داخل الزواج معادلا للزنا(الفسوق)، فقد أجاز للمسيحيين الدخول في أول زواج، ولكنه عارض بقوة الزواج مرة أخرى وساواه بالزنا(16). لقد تبنى الأمازيغ ممارسات زهدية وثنية ودينية مسيحية ويهودية وإسلامية للدفاع عن أنفسهم ومقاومة الحركات الإستعمارية المتوالية عبر التاريخ على الشمال الإفريفي.
-الزهد عند اليهود والمسيحيين:
نهل اليهود من مجموع الفضائل الزهدية التي نصت عليها الأفلاطونية في منتصف عهدها، فكان يتم التقيد بالصوم عن جميع أنواع الطعام والشراب في يوم الغفران (يوم كيبور) "بحيث يستطيع الناس المحافظة على تلك المناسبة الدينية من خلال الأفكار النقية التي لا تكدرها أو تشوبها أي انفعالات جسدية"(17). وقد تميزت فئة الثرابيوتاي "فئة العابدين" أو الخادمين في مصر الذين عاشوا في مستعمرة شيدت على سواحل بحيرة مريوط خارج الاسكندرية. وهناك كرسوا أنفسهم للتأمل في الرب وانسحبوا من الحياة العامة، تاركين وراءهم "إخوتهم وأبناءهم ونساءهم" وعائلتهم الأوسع وأصدقاءهم(18). تميزوا بالتقشف وعدم الإسراف في الأكل واللباس والتأمل في شيعة الرب والتزود بالغذاء الروحي. ويصورهم فيلون على أنهم ممثلوا الأمة اليهودية. وقال شاي كوهين عن جماعة الثرابيوتاي بأنهم فئات من الرجال والنساء الذين "انتشروا في أنحاء مصر" والذين "امتنعوا عن الزواج" و "مارسوا الإعتدال وكبح الذات"(19). ويبدو من رواية فيلون وجود تشابه بين جماعة الثرابيوتاي وجماعة اللاوين - سبط الكهنة في بعض الممارسات الزهدية. ويصف فيلون جماعة الأسينيين بأنهم عشاق الحاجة إلى القليل، مما يبعدهم عن الترف، بوصفه مرضا يفسد الروح والجسد(20).
رأى معظم المسيحيون الفضيلة في الإمتناع عن اللحم والخمر، واعتقد بعض آخر بوجوب الإمتناع عن هذه الاشياء بشكل دائم. كما اعتبروا الإمتناع عن النشاط الجنسي مشاركة فاضلة في الحياة السماوية(21). وتمثل النكران الجنسي في الإمتناع عن الجنس وعن الزواج باعتباره اختراعا شيطانيا، وعن الزواج الثاني للرجال، والإشادة بوضعية الأرامل، وبفضيلة الخضوع لعملية الإخصاء التي تعبر عن العفة وكبح النفس. وقد وصف إنجيل متى قيام يسوع بالثناء على أولئك الذين "خصوا أنفسهم لاجل ملكوت السماوات"(22). ويرى هرماس في الجنس رغبة آثمة وشريرة، ودعا إلى الإمتناع عن الجنس حتى مع الزوجة، وأن البقاء أرمل أو أرملة يستحق مقدارا أكبر من التشريف، ورأى في العذرية رمزا للطهارة الروحية، وخص الأرمل والأرملة بالتشريف ومجد الزواج الروحي(23). ولجأ يوليوس كاسيانوس مؤلف بحث "حول ضبط المفس والإخصاء" إلى متى (12:19) في رفض الحجة القائلة أن الأعضاء الإنجابية والتمايز الجنسي، تشهدان على مباركة الرب للجماع. وفي "أعمال بولس"، يعلن الحواري سلسلة من الطوباويات التي تردد صدى كلمات يسوع وبولس الواردة في الأناجيل والرسائل الإنجيلية القانونية، وتعيد صياغتها، ولاسيما الطوبى التي تأتي على رأس السلسلة: "مباركون هم الطاهرون في قلوبهم لأنهم سيرون الله". ولعل ما هو مطلوب من أجل طهارة القلب أن يجد تفسيره بشكل خاص في الطوباويات الأربعة الآتية:"مباركون من يحافظون على اللحم البشري طاهرا، لأنهم سيصبحون معبدا. ومباركون هم العفيفون، لأن الرب سيتكلم معهم، ومباركون هم الذين أنكروا هذا العالم، لأن الرب مسرور منهم، ومباركون هم الذين لديهم زوجات، وكأن ليس لديهم زوجات، لأنهم سيكونون ورثة الرب"(24).
2-في العلاقة الملتبسة بين الفيلسوف والمثال الزهدي
    تسمح جولتنا الممتعة مع ريتشارد فين، وهو يقارب الزهد في العالم الإغريقي والروماني، عند جماعات وشعوب حوض البحر المتوسط خلال القرون الخمس الأولى من المسيحية، بعرض مجموعة من الملاحظات حول ظروف ولادة الفيلسوف وتربيته وتطور تفكيره، وحول التحولات التي حدثت لشخصية الكائن الزهدي، والعلاقة التي ربطت بينهما. يؤكد فين على أن البعد الديني الموجود في جانب كبير من الفلسفة الإغريقية-الرومانية يجعل من الفيلسوف الحقيقي رجلا مقدسا أو قديسا(25)، في حين يرى فريديريك نيتشه، أن الصلة القائمة بين المثال الزهدي والفلسفة أشد وأبقى. هذا التداخل بين البعدين الديني والفلسفي يفرض تتبع أشكال التاثير والتأثر التي طبعت تلك المرحلة الحاسمة من تطور الفكر الفلسفي؛ أي المرحلة الهلنيستية(القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي). يؤكد نيتشه، أن الفلسفة لم تتعلم كيف تخطو خطواتها الأولى، خطواتها الصغيرة البسيطة على الأرض، إلا لأنها كانت مربوطة بهذا المثال ارتباط الطفل بالماسكة التي تحول دون وقوعه عند تعلمه المشي(26)، وأن الفكر الفلسفي اضطر إلى الإبتداء دائما بالتنكر والتقنع، أي باستعارة أنماط الإنسان المتفكر التي كانت قد تكونت سابقا، أنماط الكاهن والعراف ورجل الدين عامة، حتى يتمكن من يكون ممكنا فقط، كائنة ما كانت حدود هذا الإمكان: لقد ظل المثال الزهدي زمنا طويلا مستعملا من قبل الفيلسوف كمظهر خارجي، كشرط للوجود(...). الشيء الذي فرض على الفيلسوف الخضوع لطريقة كينونة تتنكر للعالم وتتخذ مظهر العداء للحياة ومعنى الكفر بها والصرامة تجاهها، والتي استمرت حتى أيامنا هذه بحيث تعتبر بمثابة  الموقف الفلسفي الذي لا يضارع (...). إذ أن الفلسفة ظلت مدة طويلة غير ممكنة بتاتا على وجه الأرض بدون هذا القناع وهذا التنكر الزهدي، بدون هذا الإلتباس الزهدي(27). ترتب عن هذا الإلتباس عدم قدرة الفلسفة على الإستقلال والسير لوحدها لفترة طويلة، حتى تعلم الفيلسوف أخيرا خلال المرحلة الهلينستية من الإهتمام بنفسه وربط وجوده بفن الحياة وجمالية الوجود. أما المثال الزهدي، فقد استمر في استقطاب الكهنة والقساوسة ورجال الدين و"العامة"، والفلاسفة أنفسهم، الشيء الذي دفع نيتشه إلى الإعلان عن الأصل الحقيقي لولادة  الفيلسوف بقوله: "..أن الفيلسوف كان لدى كل الشعوب تقريبا الشكل المتطور للنموذج القساوسي"(28). يبدو هذا النزوع الزهدي واضحا عند الفلاسفة الفيثاغوريين، فلقد كانت للمحظورات الغذائية المتعددة التي حددوها لأنفسهم مدلولات ثقافية ودينية؛ وكانت للنقد الذي وجهوه لكل إسراف في مجال الطعام والشراب والتدريبات والنشاطات الجنسية، قيمة تعليم أخلاقي ونصيحة فعالة للصحة، في آن معا(29). هكذا كان النشاط الجنسي موضع ارتياب دائم إلى حد ما؛ فديوجين لارس ينقل حكمة من حكم فيثاغورس، حيث القاعدة العامة لحمية فصلية مرتبطة ارتباطا مباشرا بضرورة التخفيف الدائم وبتأكيد المضرة الاصلية:"يجب تعاطي الأفروديزيات في الشتاء لا في الصيف، وباعتدال كبير في الربيع والخريف: وهو على أي حال مضن ومضر بالصحة في كل الفصول"(30). وتبرز الممارسات الزهدية للفلاسفة السنيكيين في مواقفهم من الأكل والشراب والنشاط الجنسي، والتأكيد على العيش وفق الطبيعة. أما الفلاسفة الرواقيين، فتميز زهدهم بالإعتدال وضبط الشهوة في الحدود المعقولة (تقدير الإنضباط الجنسي في إطار الزواج والإنجاب). وقد استمد الأفلاطونيون المحدثون من شخص فيثاغورس لتطوير ضروب مختلفة من الزهد. ودافعوا من خلال النزوع إلى التعفف الديني والنقاء الطقوسي عن الزهد في الطعام والشراب، والنشاط الجنسي كله، في سبيل بناء نقاء أخلاقي ثقافي يعد ضروريا للإتحاد بالمقدس(31). يشكل هذا التيار الزهدي الفلسفي تحولا ارتكاسيا لتفكير اعتبر تاريخيا عقلانيا، فقد فهم فورفوريوس Porpyry(234-305م) هدف الفلسفة بأنه ذلك التأمل في روح الحقيقة الإلهية، وليس بحثا عن الحقيقة أو فنا للعيش كما كان معروفا عند بعض الفلاسفة اليونان والرومان(32).
3-الزهد الديني: إنكار للذات ونفي للحياة
    فرضت الحياة الجماعية للإنسان منذ القديم ابتكار تنظيمات إجتماعية وسياسية، واتخاذ تدابير إقتصادية، وإبداع طرق في الشعور والتفكير أكان أسطوريا أو دينيا أو فلسفيا أو علميا. في هذا السياق، شكل  المثال الزهدي عنصرا من عناصر فن الحفاظ على الحياة(33). لكن وسائل التنظيم والتدبير وطرق التفكير والحفاظ على الحياة واستمرارها، اختلفت باختلاف القوى والمواقع التي احتلها الأفراد في المجتمع، وأشكال التواصل والتفاعل بين المجموعات البشرية.
يعرف نيتشه المثال الزهدي، انطلاقا من تحديد معناه عند عناصر بشرية، طبعت الوجود الإنساني بميزة خاصة:
-الفنانين: قد لا يعني المثال الزهدي أي شيء بالنسبة لهم، وقد يعني في بعض الأحيان أشياء كثيرة.
-الفلاسفة والعلماء: يعني المثال الزهدي شيئا من قبيل السليقة والغريزة من أجل تلمس الشروط الملائمة للروحانية الرفيعة.
-النساء: يعني لهن في أفضل الأحوال فتنة مغرية  تضاف إلى غيرها، شيئا من السقم الذي تتجلى به بعض الأجساد الجميلة أو ما يضفي على حيوان جميل، سمين بعض الشيء، نفحة ملائكية.
-المفلوكين والقانطين من الناحية الفيزيولوجية (أي بالنسبة إلى أغلبية الموتى من بني البشر): يعني المثال الزهدي، محاولة يبدلها المرء ليكون "مفرطا في الطيبة" بالنسبة لهذا العالم، شكلا مقدسا من أشكال الفجور، سلاحهم الرئيسي في صراعهم ضد الألم البطيء والضجر.
-الكهنة: يعني الإيمان الكهنوتي الحقيقي، أداة نفوذهم المفضلة، وأيضا رخصتهم "العليا" التي تخول لهم الوصول إلى السلطة.
-القديسين: يعني عندهم، ذريعة للنوم الشتائي، راحتهم في العدم(34).
 يبدو أن الكهنة والقديسين هم الذين وفروا للإنسانية أقوى "نموذج حياتي" قابل لأن يعاش من طرف "الأغلبية"، عن طريق "القيمة" التي أضفوها على الحياة. ويظهر سر نجاحهم، في عودتهم المنتظمة في كل زمان وفي كل مكان تقريبا، وعدم انتمائهم إلى عرق معين، ونموهم وازدهارهم في جميع المراتب الإجتماعية، وتفننهم في استخدام القوة من أجل إنضاب نبع القوة وأصلها، كما يؤكد نيتشه. إضافة إلى دورهم التاريخي في جعل الإنسان يتهم ذاته، ويشقى بسبب ذاته نفسها، حين يبحث براحة ضمير عن سبب لمعاناته، ويعثر عليها في " إثم ارتكبه في الزمن الماضي "(35).لا يمكن تصور الحياة مع إنسان المثل الأعلى الزهدي، مع هؤلاء الكهنة والقديسين إلا منقوصة ومنحطة ومريضة، مبنية على إذلال الجسد وإماتة الرغبات، وإنكار الذات وازدرائها والتضحية بها. لقد أصبح الزهد نوعا من التضحية: تضحية دائمة من قبل النفس، وإنكار لذات النفس في نهاية المطاف(36).
تمكن المثال الزهدي من الإنتصار بفضل ابتكار ممثليه لمعنى محدد للحياة، وإدراكهم الخاص للطبيعة والعالم، تحولت بموجبه الأرض إلى "كوكب  زهدي حقيقي"؛ زاوية تقبع فيها مخلوقات مستاءة، متنفجة، متأنفة، تعجز عن التخلص من الأسى العميق الذي ألحقته بنفسها، والذي ألحقه بها العالم، الوجود، وتريد أن تسبب الأذى لنفسها: هذا الأذى الذي يشكل، بوضوح بيّن، لذتها الوحيدة(37). يشكل ازدراء الذات واحتقارها، وعداوة الصحة والمقدرة، ونفي الحياة والإيمان ب"الماوراء"، والإشادة بالكراهية والحقد، والنجاح في "السيطرة على المتألمين" علامات على تفوق الكائن الزهدي، وانتصار "فضائله" و"إرادته الطيبة".
4-الزهد الفلسفي: رهان على الحقيقة وتأكيد للذات والحياة
    يعني الزهد الفلسفي القدرة على تكوين علاقة ممتلئة للنفس بنفسها، مبنية على تعلم حركات أولية وتمارين واستعدادات ضروريه لمواجهة ظروف الحياة وأحداث العالم الخارجي، وإيجاد نوع من التحضير والإستعداد والتهيئة بحيث تكون ملائمة ومناسبة لمختلف المتطلبات الحياتية(38)؛ إن الزهد يجهّز ويعدّ ويمكّن. هذا ما يسمى في اليونانية بparaskeuê، الذي ترجمه سنيكا إلى اللاثينية بinstructio، أي الإستعداد والتجهيز(39). ويتكون هذا الأخير من خطاب أو خطابات قائمة على العقل- بمعنى أنها معقولة، وأنها حقيقية وصادقة، وأنها تشكل مبادئ مقبولة للسلوك(...)، خطابات موجودة ماديا، وأنها عبارة عن جمل، وعناصر للخطاب وللعقلانية: عقلانية تقول الصدق/الحقيقية وما يجب القيام به في الوقت نفسه(40). يصبح الزهد الفلسفي دليل على تمكن القوى الفعالة من فرض وجودها عبر خلق قيمها وتمجيد ذاتها وإضفاء الشرف على الاشياء؛ فمن يثبت ويفعل هو في الوقت ذاته ذلك الذي يكون:"تعني كلمة Esthlos بحسب أرومتها شخصا له وجود، يمتلك حقيقة، يكون فعليا، يكون حقيقيا". إنها قوى، تضع في الطليعة الشعور بالإمتلاء، بالقوة التي تريد أن تفيض، ورخاء توتر داخلي رفيع، ووعي ثراء يرغب في العطاء وتقديم كل ما لديه(41). يستبعد الزهد الفلسفي الإنكار والتخلي، وإخضاع الذات إلى نظام القانون، بل يستهدف "تشكيل الذات كغاية نهائية لذاتها، وذلك بواسطة ممارسة الحقيقة(...)، والوصول إلى نوع من العلاقة تكون فيها النفس ممتلئة ومنجزة وكاملة ومكتفية بذاتها وقابلة لأن تنتج ذلك التحول للنفس الذي هو السعادة الذي تحققه النفس بنفسها(42) عن طريق القيام بالإجراءات التالية:
أولا: طرح النفس بطريقة صريحة وبينة، وبطريقة قوية ومستمرة قدر الإمكان، بوصفها نهاية وجودها الخاص.
ثانيا: الإستعداد بشيء لا نملكه، وبشيء لا نملكه بالطبيعة. يتعلق الامر بأن نكون لأنفسنا تجهيزا دفاعيا للأحداث الممكنة في الحياة.
ثالثا: ربط الفرد بالحقيقة(43).
يؤكد ميشيل فوكو، على أن الزهد الفلسفي، بالمعنى الفلسفي اليوناني والروماني، له وظيفة إقامة علاقة وطيدة وقوية قدر الإمكان ما بين الذات والحقيقة، بحيث تسمح للذات عندما تبلغ صورتها المنجزة والمكتملة، أن تتلقى/تستقبل الخطاب الحقيقي الذي يجب على الذات أن تتملكه، وأن تضعه تحت تصرفها، وأن تتمكن من قوله لنفسها كنوع من الإسعاف، وكلما دعت الحاجة إليه(44). ويتضمن الزهد الفلسفي تقنيات لتكوين الذات باعتبارها ذات للحقيقة، وكيفية للوجود، وأسلوبا/فنا للحياة:
- ذاتا للحقيقة: يتعلق الامر هنا بتملك الخطاب الحقيقي، ونقل الخطاب الحقيقي إلى الذي يحتاجه بغرض أن يشكل نفسه بوصفها ذاتا سيدة على نفسها، وذاتا متمثلة الحقيقية بنفسها ولنفسها(45). ذاتا تعرف أن "الوجود يبدو مقدسا بذاته كفاية"، وتدرك بحسها العقلاني ببراءته، وتؤمن بهذا العالم ابتداء.
- كيفية للوجود: تسمح للمرء باختبار قوته وتجريب إرادته ومقدرته وباكتساب تكوين وتجهيز؛ تكوين الذات التي تقوم بالفعل الصائب والصحيح(46) عن طريق الإهتمام بالذات والعناية بها(47).
- أسلوبا/فنا للحياة: ينطبق على ذلك الشيء العابر الذي هو حياة الذي يستعمله، على أن يخلّف وراءه، في أحسن الأحوال، أثر شهرة معينة(48). لقد كان الزهد الفلسفي موقفا عاما للوجود، ومدخلا لبناء حياة مختلفة، وأسلوب عيش، ميزته اهتمام المرء بجسده؛ بفكره وجسمه.

خاتمة
    شكلت الممارسات الزهدية كيفيات وجود، وأنماط تعامل مع الذات والآخر، ومواقف من الحياة والعالم، وأشكالا من التفكير والتأمل والإعتقاد في قوى الطبيعة وما وراءها. وانتظمت هذه الممارسات في شكلين أساسين هما: الزهد الديني والزهد الفلسفي. استهدف الزهد الديني تمييز الذات عن طريق النكران الجسدي وإصباغ نوع من القداسة عليها، بممارسة نمط حياة تتميز بالقناعة والتقشف والنقاء والورع. يظهر هذا النكران أيضا في الريبة إزاء لذات الجسد عند الفلاسفة الفيثاغوريين والأفلاطونيين والأفلاطونيين المحدثين وعند الفلاسفة السنيكيين والرواقيين. وبالتالي هيئت أخلاق هذه الفلسفات أرضية لقيام زهد ديني؛ فقد كان الإهتمام بالجسد والصحة، والعلاقة مع المرأة والزواج، والعلاقة مع الغلمان دوافع لتكوين أخلاق متشددة(49) انتظمت لاحقا في شكل قوانين وقواعد مضبوطة شكلت نمطا من الإخضاع والإنقياد، وطراز من العناية بالذات ينطوي على الكشف عن خبايا النفس والتأويل التطهيري للرغبات؛ وطريقة لبلوغ الكمال الأخلاقي تنزع إلى نكران الذات(50). في مقابل هذا الزهد الديني، تطور زهد فلسفي ركز على الإهتمام بالنفس والعناية بها والتفكير في أفضل طريقة للعيش، من خلال تقوية العلاقة مع الذات التي بواسطتها يتكون المرء كفاعل لأفعاله(51). لقد شكل الزهد الفلسفي طريقة تصرف تلزم المرء بوضع مسألة الحقيقة - حقيقة ما نحن عليه وما نفعله وما نحن قادرون على فعله - في صلب تكوين الذات الأخلاقية(52). في هذا السياق يجب فهم الزهد الفلسفي على أنه طريقة في تكوين الذات العارفة بالحقيقة وفي تكوين الذات التي تقوم بالفعل الصائب والصحيح(53).
الهوامش:
1-ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي - الروماني، ترجمة علي للو وناجح شاهين، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، 2012، ص14.
2- أعتمد في هذه الفقرة على الدراسة القيمة والممتعة التي قام بها ريتشارد فين في كتابه: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ترجمة علي للو وناجح شاهين، أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2012.
3-ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص180.
4- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص181.
5- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص183.
6- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص184.
7- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص197.
8- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص188.
9- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص82.
10- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص218.
11- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص220.
12-الحركة الدوناتية هي حركة دينية مسيحية ظهرت في مقاطعة أفريكا الرومانية وازدهرت في القرنين الرابع والخامس. ودعي المذهب باسم المذهب الدوناتي نسبة إلى صاحبه دونات الكبير. انتشرت الحركة بين المسيحيين الأمازيغ في الجزائر والمغرب وتونس. حظيت الحركة بقوة في عهد القديس أوغسطين في نهاية القرن الرابع. ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.
13- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص229.
14- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني،ص236.
15- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص237و238.
16- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص134.
17- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص62.
18- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص65.
19- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص67.
20- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص82.
21- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص157.
22- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص134.
23- الزواج الروحي (Syneisaktism): ممارسة تعيش فيها امرأة أو عدة نساء في نكران جنسي دائم مع رجل عازب، غالبا ما يكون رجلا متدينا. ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص141.
24- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص143و144.
25- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص28.
26- فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ص109.
27- فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ص113.
28- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، تاريخ الجنسانية، الجزء الثاني، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، 1991، ص76.
29- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص85.
30- فريديريك نيتشه: نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2011، ص38.
31- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص60.
32- من اللازم الإنتباه إلى ذلك التحول الذي أصاب التفكير الفلسفي في القرون الأولى للمسيحية، وللدور الذي لعبه بعض الفلاسفة في دعم التفكير اللاهوتي والتاسيس للمثال الزهدي، مع تمييز تعاملهم الخاص  مع التراث الفلسفي القديم. وسنقتصر على فورفيريوس الصوري وكليمانت الاسكندري، بالإعتماد على المعلومات الغنية التي يزخر بها كتاب ريتشارد فين، الزهد في العالم الإغريقي-الروماني:
-فورفوريوس الصوري(235-305): أخذ فورفوريوس من الفلسفة اليونانية-الرومانية  وبشكل واضح (...) من أفلاطون والتراث  الفيثاغوري كما ذكر آنفا، وأخذ من الأفلاطوني بلوتارخ (قبل 50م-بعد 120م) ومن كريسبوس الرواقي(280-207 ق.م) فيما يتعلق بالحجج التي دارت حول طبيعة الحيوانات المختلفة، والغرض منها. وكذلك أخذ عن "أفلاطونيين" معينين لم يسميهم، واستشهد بمعرفتهم للشياطين.  وقد أشار إلى دفاع إبيقورس (341-270ق.م) عن النظام الغذائي التقشفي، ملمحا إلى رجوعه إلى ثيوفراستس(371-287ق.م)، وهو من خلف أرسطو في مدرسته الفلسفية ليسيوم، في نقده اللاذع لأضحيات الحيوانات. وكذلك اقتبس من الشاعرين القديمين هيسيود وسوفوكليس في الموضوع نفسه. وقد أضاف فورفوريوس إلى هذه المراجع الواضحة حججا معروفة للقارئ المثقف، كما نقلها عن الرواقيين، ولاسيما تعاليم الفيلسوف الروماني موسونيوس روفوس(قبل 30م-قبل 102) فيما يتعلق بالقرابين الملائمة التي تقدم للإله. كما يستشهد فورفوريوس "برجل حكيم" قد يعرفه قراءه على أنه أبولونيوس التياني، ص23و24. وقد استخدم فورفوريوس دور الإمتناع عن تناول اللحوم وممارسة الجنس في بلوة نقاء العبادة لإقرار الزهد النافع لنقاء الروح التأملي(...). لم ينحصر الزهاد الذين اشار إليهم فورفوريوس بإعجاب في التقاليد اليونانية الكلاسيكية، بل امتدح أيضا كهنه مصر القديمة "لممارستهم البساطة(Litotes) وكبح الشهوات(Katastole) وضبط النفس(Enkrateid) والجلد(Karteria) وتطبيقهم للعدالة في كل شيء، وغياب الجشع لديهم. وقد أقر الفيلسوف "مقاومتهم للتواصل الإجتماعي" حيث أبقاهم النقاء الشعائري داخل حدود المعبد؛ وأهاب فيهم القيود الغذائية التي تقيدوا بها، وصومهم الدوري، وتجنب شرب النبيد، وامتناعهم الدوري عن جميع أنواع النشاط الجنسي، وامتناعهم الدائم عن الممارسات الجنسية المثلية(...). وهنا أيضا يؤكد على "البساطة والتقشف في غذائهم، إضافة إلى رفضهم الملكية الخاصة، التي رأى فيها فورفوريوس ازدراء للثروة. وقد منحهم مثل هذا النوع من الزهد "الجلد" على تحمل أسوإ انواع العذاب(...). وقدم السريانيون والبراهمة أمثلة أخرى على ذلك. ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص25و26.
-كليمانت الأسكندري(ولد في منتصف القرن الثاني الميلادي -50؟- وتوفي بين عامي 211و215): عمل على تضييق الفجوة بين الافكار الأفلاطونية أو الرواقية المألوفة للفضائل الزهدية في الثقافة الإغريقية-الرومانية(...). يستشهد كليمنت بشكل متكرر من مصادر الكتاب المقدس والمصادر الوثنية (أفلاطون، وهوميروس، إيراتوثينيس، وهيراقليطس...إلخ) لكي يدعموا بعضهم بعضا، ويقدموا شاهدا مشتركا على أخلاقياته، ص155. إن لاهوتية كليمنت الاخلاقية هي شكل من أشكال الزهد المسيحي بالرغم أنه معارض بكل معنى الكلمة لزهد مبني على أساس نكران دائم لأشياء معينة، ص156و157. يقول جون بهر John Behr في دراسته المتعاطفة مع زهد كليمنت، بإن "جسيد المسيح.... كما فهمه كليمنت يساعد في تمرين الأخلاقية التي يعلمها اليونانيون"، ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي-الروماني، ص155.
33- فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ص118.
34- فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ص95.
35- فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ص136.
36- ميشيل فوكو: تأويل الذات، دروس ألقيت في "الكوليج دوفرانس" لسنة 1981-1986، ترجمة وتقديم وتعليق د. الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2011، ص307. يقول فوكو عن دور نمط الزهد المسيحي:"تكمن وظيفته الأساسية في إقرار أنواع من الإنكار الضرورية التي تؤدي إلى أقصى درجات الإنكار ألا وهي إنكار النفس"، ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص453.
37- فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ص115.
38- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص300.
39- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص300.
40- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص303.
41- جيل جولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، الطبعة الأولى، 1993، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1993، لبنان، ص154.
42- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص299.
43- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص310.
44- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص347.
45- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص348.
46- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص452.
47- للمزيد من التوسع في موضوعة الإهتمام بالذات والعناية بها، نحيل القارئ الكريم إلى الفصل الثاني من كتاب ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، الإنهمام بالذات، الجزء الثالث، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، 1992، تحت عنوان:"العناية بالذات".
48- أوبير درايفوس وبوا رابينوف: فوكو: مسيرة فلسفية، مقابلة مع هيوبرت ل. دريفوس وبول رابينوف، حول نسابية الأخلاق: لمحة عن العمل الجاري، ص206.
49- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، الإنهمام بالذات، الجزء الثالث، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، 1992، ص161.
50- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، الإنهمام بالذات، ص163.
51- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، الإنهمام بالذات، ص30.
52- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، الإنهمام بالذات، ص46.
53- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص452.