نظرية المعرفة عند كانط ـ المختار شعالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 anfasse09070قامت فلسفة كانط الترانسندنتالية transcendentale  النقدية على نقد ودحض المذهب العقلي (ديكارت) والمذهب التجريبي- الحسي (لوك وهيوم) . باعتبار أن المعرفة المنبثقة عن الاتجاه العقلي لا تقوم على محتويات تجريبية - حسية، بل تنتج عن تفكير منطقي استنباطي. ذلك أن العقليين في عصر التنوير اعتبروا أن العالم منظم حسب قوانين، ويمكن معرفة هذا العالم عبر العقل والاستدلال المنطقي انطلاقا من مقدمات صحيحة ودون اللجوء إلى المعطيات الحسية (ديكارت)، وهذا ما يرفضه كانط.
    فيما يتعلق بنقد كانط للمذهب التجريبي- الحسي، فرغم أنه شارك لوك وهيوم في موقفهما النقدي من محاولة استنباط عالم الوقائع من مبادئ أولى ندركها بالحدس، ووافقهما في الاعتقاد بأن المعرفة الوحيدة التي نستطيع الحصول عليها عن العالم وعن أنفسنا هي المعرفة القائمة على الخبرة الحسية. غير أنه لا يوافق هيوم خاصة  في مسألة شكه حول يقينية هذه المعرفة، حيث اعتبر هيوم أن انطباعاتنا الحسية يمكن أن تنخدع وتتناقض. هكذا حاول كانط بطريقة ما أن يؤسس نظرية معرفية انطلاقا من خلق تركيب من المذهب التجريبي- الحسي والمذهب العقلي، وذلك على أساس تجنب الشك التجريبي- الحسي من جهة، وتجنب العقيدة العقلية الجامدة من جهة أخرى.

لماذا خلق كانط نظرية في المعرفة مركبة كهذه؟
    أكد هيوم على دور الحدث الواقعي والخبرة في تحقيق المعرفة، غير أنه لم يتحدث عن أي شيء منظم وعقلي في الطبيعة. في حين أن العقليين، قد رأوا أن في الطبيعة نظام ومنطق، مما جعلهم يعتقدون أنه من الممكن اكتشاف النظام الطبيعي واستخلاصه من مبادئ أولى بدون الالتجاء إلى الوقائع. ولمواجهة هذه المفارقة، بدا لكانط أن هناك حاجة إلى مزيج من الوقائع والعقل، عبر رؤية تسعى إلى تنظيم ومفهمة معطيات التجربة من جهة، وملأ بنيات العقل الفارغة بالوقائع من جهة أخرى.

       وعليه انتهى كانط إلى القول إن كل ما ينظم ويضفي بنية على خبرتنا لا يمكن أن ينشأ من الخبرة، بل لا بد من أن تكون هذه القدرة على التنظيم والبناء والمفهمة من داخلنا. وبتعبير آخر، افترض كانط وجود ثنائية مؤلفة من ذات ومن شيء. وبما أن القوة المنظمة لا يمكن أن تكون في الشيء، فيجب أن تكون في الذات. تلك كانت الثورة الكوبرنيكية في نظرية المعرفة عند كانط. أي إن كل ما ينظم ويبني خبرتنا لا يصدر عن الأشياء التي هي موضوع معرفتنا، وإنما من أنفسنا.
    فكما قلب كوبرنيك وكبلر نظرة الإنسان إلى العالم حينما رفضوا العقيدة التقليدية التي قالت إن الأرض والإنسان هما في المركز الذي لا يتحرك في العالم، ودافعوا، في مقابل ذلك، عن الفرضية التي تقول إن الإنسان والأرض يدوران حول الشمس. وبالطريقة نفسها عكس كانط الرأي الأساسي الذي قال إن المعرفة تحدث عندما تتأثر الذات بالشيء، إلى القول بأن الشيء هو الذي يتأثر بالذات، أي أن الشيء كما نعرفه هو الذي يتشكل ويتألف ويتكون بطريقة الذات. هذه النقلة بالافتراضات الإبستمولوجية سماها كانط نفسه الثورة الكوبرنيكية في الفلسفة. وذلك كان جوهر نظرية المعرفة عند كانط.(1)
    هكذا بين كانط أن العقل لا يعكس العالم الخارجي كما هو، بل إنه في الواقع يخلق هذا العالم من حيث تركيبه المنطقي. فالتجربة بدون نشاط العقل لا تستطيع أن تقدم إلينا إلا سلسلة من الأحوال العقلية المتتابعة مثل الصور الفوتغرافية. غير أن كانط شرح لنا أن ‹‹السبب الذي يجعلنا نفكر في العالم تفكيرا منظما وعلميا لا يكمن في كون العالم المادي عالما رياضيا، بقدر ما يكمن في كون العقل الذي يقوم بعملية التفكير يفكر بطريقة رياضية. فالعقل آلة منطقية، تطبع الأفكار العقلية تماما كما تطبع آلة الطبع الكلمات أو كما تطبع الآلة الكاتبة الحروف. فأيا كان ذلك الذي يدركه العقل، وأيا كان ذلك الذي يقدمه العقل في نهاية الأمر إلى نفسه، فهو دائما منطقي وعلمي، نظرا لكون الصور أو البنيات العقلية التي تؤلف المعرفة مبنية على مبادئ علمية››.(2)

لكن كيف تكون تلك القوة المنظمة في‹‹داخلنا››؟
      سلم كانط بوجود شيء ضروري وصحيح كليا في معرفتنا، أي وجود بنى فكرية أو ‹‹صور›› أو ‹‹مقولات›› ترانسندنتالية قبلية في العقل، أي سابقة للخبرة ومستقلة عنها. كما افترض أن جميع البشر لهم هذه ‹‹الصور›› أو البنيات الرئيسية ذاتها، وهي فطرية في البشر وثابتة وصحيحة صحة كلية. فهي إذن موجودة عند جميع الذوات كشرط إبستيمولوجي لإمكانية المعرفة الموضوعية أي المعرفة الحقة. وهكذا فلا  يمكن لمحتويات الخبرة أن تصبح معرفة إلا بهذه الشروط الإبستيمولوجية. وعليه فإن معرفة جميع البشر يجب أن تأخذ شكل هذه الصور وتخضع لتلك الشروط العقلية الترانسندنتالية.
     وبصيغة أخرى، إن كل معرفة تبدأ بالخبرة، أي أن محتوى المعرفة يحدده الخارجي الموجود في ذاته، لكننا نطبع هذا المحتوى بصورتنا، بحيث لا تصبح الانطباعات الحسية معرفة إلا عندما تبنى وتنظم وتمفهم بواسطة عقلنا. لذا فإن المعرفة كلها تشكلها الذات. ولذلك افترض كانط وجود أحكام تركيبية قبلية عند جميع الذوات العارفة تشكل شروط الخبرة المنظمة، أي المعرفة كما ندركها.
     ولمواجهة شك هيوم حول الانطباعات التي تمدنا بها الحواس، سعى كانط من خلال نظريته في المعرفة هاته، أن يجنب الفلسفة هذا الشك ويجعلها تقوم على أساس آمن كما العلوم الطبيعية (مكيانيك نيوتن خاصة). لذا اعتبر أن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها العلم الطبيعي هي المبادئ ذاتها التي يجب أن تؤطر المقولات والتصورات والبنيات (الأفكار الترنسندنتالية المتعالية على الخبرة) التي تنظم الانطباعات القادمة من الخارج. وقد اعتبر هذه المبادئ قبلية، متعالية، سابقة على الخبرة، ومستقلة عنها. أي لا تتأثر بالأخطاء أو الشكوك المرتبطة بالإحساسات، لذا فإن هذه المبادئ أو المقولات العقلية هي حقيقية ويقينية وثابتة. ومهما يكن تأويل هذه المبادئ، فالنقطة الحاسمة، هي أنها، بالمعنى الإبستيمولوجي، سابقة للمعرفة التجريبية - الحسية.
      ونشير هنا على سبيل المثال إلى بعض هذه المبادئ التي أشار إليها كانط والتي تتمثل في صور المكان والزمان والسببية ومبدأ عدم التناقض، إلخ. إن مبدأ السببية مثلا الذي يقول ‹‹لكل حادث سبب››، يجعلنا لا نحتاج إلى العودة إلى الخبرة لكي نعرف أن لكل حادث سبب ما، لأن معرفة السببية موجودة في صور تفكيرنا. وإذا سمعنا عن‹‹وقوع حدث›› دون ذكر المكان والزمان الذي حدث فيه، ودون الإشارة إلى سبب وقوعه، فلا يمكن أن يكون لذلك الحدث معنى، لأن أفكار المكان والزمان والسببية ضرورية لحصول المعرفة، لأن معرفتنا يجب أن تحمل علامة هذه المبادئ لتكون مفهومة أي لتكون معرفة. فالمكان والزمان والسببية من شروط إمكان معرفتنا. وإذا قيل لنا أن ‹‹هذا الشيء هو، في الوقت نفسه، أحمر وأخضر››، فلا نحتاج للعودة إلى الخبرة للتأكد من ذلك، لأن هناك خرق لمبدأ عدم التناقض الموجود في تفكيرنا، وبالتالي فإن هذه المعرفة غير ممكنة. وهكذا، فإن هذه المقولات والمبادئ الترنسندنتالية الموجودة في تفكيرنا هي التي تضفي المعنى المعرفي للحدث، وتشكل شروط لتكون معرفتنا ممكنة.

المعرفة والإيمان
    إن العالم كما يعرفه العقل، حسب كانط، هو بالضرورة عالم يتكون من العلة والمعلول بشكل مطلق، عالم لا محل فيه للسحر ولا للمعجزات، ‹‹فلكل حدث سبب››. وعليه فإن العقل العلمي يعمل بواسطة طرق خاصة في التفكير لا تصلح إلا لتناول الوقائع العلمية وحدها، وهي طرق يجب ألا تستعمل لأغراض دينية أو ميتافيزيقية. فالفكر العلمي ليس بمقدوره أن يتوقع حياة أخرى بعد الموت أو أي شيء  ينتمي إلى عالم الميتافيزيقا من خوارق وأساطير.
   يرى كانط إذن إننا عاجزون عن البرهان على المسائل الدينية الأساسية أو دحضها. نحن لا نستطيع، مثلا، أن نثبت بطرق علمية وجود عالم آخر بعد الممات، ولا أن نثبت عدم وجوده، لكننا نستطيع أن نؤمن بهذا الموقف أو ذاك. هكذا اعتبر أن الإجابة عن المسائل الدينية يجب أن تقوم على الإيمان، وبذلك قد ترك فسحة للدين .
     هكذا ميز كانط  بين المعرفة والإيمان ليظل وفيا ومنسجما مع نظريته المعرفية التي ترى أن لا معرفة دون خبرة قادمة من الواقع الملموس. ففي الوقت ذاته الذي حافظ فيه كانط على ‹‹العقل›› في العلوم الطبيعية وفي الرياضيات، قد ترك أيضا فسحة للمعرفة الدينية عبر الإيمان.

الظاهر الذي ليس حقيقة، والحقائق التي لا تظهر
    خلقت نظرية المعرفة عند كانط بعض المفارقات. فالصور والمقولات التي بواسطتها ننظم الطبيعة هي ملك للعقل ولا يمكن تغييرها. إنها، في حد ذاتها، لا تصف أي شيء خارج العقل. إنها تقوم بوظيفتها عندما تنظم ذلك الذي يشاهد بالفعل فقط ليس إلا. هكذا تغدو مهمة العقل هو إدخال النظام المنهجي على التجربة، على الظواهر، لا أكثر ولا أقل. ولكن، هل نستطيع أن نعرف الحقيقة التي تبدو لنا في الإدراك، أي أن ندرك الشيء في ذاته؟ كانط يجيب بالنفي. هكذا أحدث ثغرة بين الظاهر والحقيقة بين العقلي والحقيقي. فالعقل ليس في مقدوره أن ينفذ إلى الحقيقة، ومن ثم فنحن لا نعرف العالم كما هو في حقيقته أبدا، بل إننا لا نعرفه إلا كما يبدو لنا بعد مروره من خلال معصرة تفكيرنا.
     وقد ترتب عن رؤية كانط هاته كثير من الشكوك : فربما ليس هناك شيء وراء المظاهر...ربما لا وجود للشيء في ذاته... نحن في هذه الحالة ربما لا نستطيع أن نخرج من عقولنا. هذه الافتراضات تجعل الأمور تتجه نحو المذهب المثالي الذاتي(بركلي). بل هناك عدد من الفلاسفة من ادعى أن كافة المفاهيم العلمية (مثل الجزيء والذرة) والنظريات العلمية ليست إلا أشياء من صنع العقل، وخرافات نافعة، تصلح لتنظيم معطيات الحس، لكنها لا تقدم صورة حقيقية أبدا. بل ذهب أحدهم إلى حد القول : ‹‹إن ذلك البنيان الذي يقيمه العلم لا يعدو أن يكون نوعا من أنواع القصور في الهواء. إن ذلك الذي نفهمه عن الكون هو بالضبط ذلك الذي نضعه في الكون لنجعله مفهوما›› (3). هكذا فتح كانط الباب لكثير من الشكوك التي حاول تجنبها في نظريته. كما وجد نفسه، من خلال نظريته في المعرفة الترانسدنتالية، في قلب الميتافيزيقا التي سعى إلى نقدها.
    إن المهمة الأولى للفلسفة بعد كانط أضحت إذن إزالة تلك الثنائية التي أثقل بها كانط كاهل الفكر، وهي الثنائية التي أقامها بين الظاهر التي ليس حقيقة، والحقائق التي لا تظهر، وكذا دحض ‹‹مقولاته›› الثابتة الميتافيزيقة. ذلك ما حاول بالفعل هيغل القيام به، حيث حاول التغلب على الثنائية الكانطية بين ظواهر التجربة والشيء في ذاته،وذلك برفضه فكرة الشيء في ذاته. كما أحدث هيغل ثورة في المقولات، إذ جعلها تشمل طيفا أوسع، حيث جعلها تشمل الثقافة والإديولوجيات السائدة، أي  إنها أضحت كل ذلك الذي منه نتكلم. هكذا عدل هيغل شروط كانط الترانسدنتالية وحولها إلى شروط اجتماعية وإيديولوجية وثقافية. كما اعتبر هيغل أن هذه المقولات المكونة (كسر الواو) للمعرفة (الذات العارفة في نظر كانط ) هي ذاتها مكونة (نصب الواو)، وتكوين هذا المكون (كسر الواو) هو التاريخ. فهي إذن ذات نشوء تاريخي وبالتالي ليست ثابتة ويقينية بل هي متغيرة وقابلة للتطور.
   هناك من يتساءل ما الفائدة من العودة إلى كانط وأفكاره التي وردت في القرن الثامن عشر؟ أعتقد أن الفائدة تتمثل في التذكير بأن الفكر الغربي الذي بني  حضارة العصر الحديث قد مر من هنا. لقد تطور عبر مواجهة مقولاته الترانسدنتالية الجامدة وتبنى  فلسفة تنويرية منذ ذلك العهد. ‹‹وذلك برفع شعار محاربة الميتافيزيقا واللاهوت والخرافات التي تكبل تفكير الإنسان الأوروبي وتبلد عقله، كما نادت هذه الفلسفة بمنح الحرية للعقل، والقيام بنقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسسات والمفاهيم، وإخضاع هذه المواضيع جميعها لمحك العقل، والخروج بأوروبا من ظلام الجمود والظلم والأساطير إلى أنوار العقل والحرية والتقدم›› (4). والسؤال الذي ينبغي أن نواجهه نحن أيضا: هل يمكن أن نلحق بهذه الحضارة (خاصة على المستوى الثقافي) دون المرور عبر نقد ‹‹مقولاتنا›› الترانسدنتالية المتكلسة؟
المراجع:
(1) غنار سكيربك ونلز غيلجي. تاريخ الفكر الغربي. ترجمة د. حيدر حاج اسماعيل. 2012. المنظمة العربية للترجمة. بيروت. (ص 573)
(2) جون لويس : مدخل إلى الفلسفة ترجمة أنور عبدالملك.  1978 . دار الحقيقة  . بيروت (ص 130).
(3) اردلي: توما الأكويني وكانط: أسس العلم الحديث . وردت في : جون لويس : مدخل إلى الفلسفة ترجمة أنور عبدالملك.  1978 . دار الحقيقة  . بيروت (ص 130).
(4) محمد نورالدين أفاية : في النقد الفلسفي المعاصر.: مصادره الغربية وتجلياته العربية. 2014 . مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت (ص 19).