قراءة في الفصل الرابع من كتاب الماركسية وفلسفة اللغة "ميخائيل باختين" ص63-84 ـ ياسين إيزي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse23045المرام من هذا المقالة المصغرة هو تقديم قراءة في الفصل الرابع من كتاب الماركسية وفلسفة اللغة لصاحبه ميخائيل باخيتن، وهو الفصل الذي يعرض الاتجاهات الفلسفية-اللسانية التي تحدد موضوع فلسفة اللغة، وهو ما يبين لنا أن الإشكال الأصلي لهذا الفصل هو موضوع فلسفة اللغة، إذ أن تحديد  هذا الموضوع هو الذي سيبين لنا المنهاج الأصلح لمعالجة هذا الفرع المعرفي، وهو التحديد الذي يمكن أن يقدم عبر تعريفات شاملة للغة والكلمة، كما أنه يمكن القول ولو على سبيل التأويل أن الهدف من عرض باختين لهذه الاتجاهات الفلسفية، هو البحث عن حدود الاتصال والانفصال فيما بينها من أجل ضبط قولها والانتقال إلى نقدها في فصول أخرى. 
فما هو المنطلق الذي يقدمه ميخائيل باختين من أجل تحديد موضوع فلسفة اللغة؟ يقول:
"ليس الذكاء هو الذي يبحث، في بداية العملية الاستكشافية – بانيا القواعد والتعريفات- وإنما العيون والأيادي هي التي تجتهد من محاولة القبض على الطبيعة الواقعية للموضوع." ، فهل تتجلى واقعية اللغة بما هي الموضوع المعرفي المدروس، في كونها ملموسة ومحسوسة بالتعريف الضيق للمادية؟، يجيبنا باختين بأن هاته العيون والأيادي غير قادرة البتة على الإمساك بطبيعة اللغة، وهو الشيء الذي لا ينفي أن لها طبيعة محسوسة ممثلة في "الصوت"، لذا نجده يعبر فيقول بأن الأذن ربما هي الأقرب للإمساك  بهذه الطبيعة المحسوسة، غير أن ذلك يفتحنا على إشكال آخر، فدراسة الصوت بما هو ظاهرة فيزيائية من اختصاص الفيزيائيين، بالتالي كان الصوت لا يعبر عن الحقيقة الكاملة والطبيعة التامة للغة، أما إذا تم الاقتصار  على الميكانيزمات العضوية المنتجة للصوت أو كذا النشاط الذهني/الفكري المولد للغة، سيتم اختزال ما يسميه باختين "الواقعة اللغوية"  في ما هو نفسي وعضوي، وهذه الجوانب الثلاثة المكونة لطبيعة للغة دون أن تكون هي ذاتها الطبيعة الكاملة للغة، تضعنا أمام مستويين، الأول: أن طبيعة موضوع فلسفة اللغة هي طبيعة متشابكة ومركبة، الثاني: أنه بالرغم من عدم إقصاء الجانب الفيزيائي (الصوت) والعضوي والنفسي، لم نصل بعد إلى الطبيعة الواقعية الكاملة لواقعة Factum اللغة، مما يدعونا وبحسب باختين إلى البحث عن جانب آخر  مما يجعله شرطا في تحديد اللغة، وهو  ما تم التعبير عنه بـ الشرط الاجتماعي. يقــول باختين:

"إن وحدانية البيئة المجتمعية ووحدانية السياق المجتمعي المباشر  شرطان ضروريان كليا لكي يصير المركب الفيزيائي-العضوي-النفسي، الذي حددناه سابقا، مرتبطا باللسان والكلام، وأن يصير واقعة لغوية."
بالتالي كان الاجتماع البشري/المجتمع/البنية الاجتماعية شرطا جوهريا في تشكيل الواقعة اللغوية، وهو القول الذي يذكرنا بالدراسة التي أجراها الماركسي الفرنسي Paul Lafargue  حول اللغة الفرنسية المعنونة بـ" اللغة الفرنسية قبل وبعد الثورة":
« Une langue, ainsi qu'un organisme vivant, naît, croit et meurt ; dans le cours de son existence, elle passe par une série d'évolutions et de révolutions, assimilant et désassimilant des mots, des locutions familiales et des formes grammaticales.
Les mots d'une langue, de même que les cellules d'une plante ou d'un animal, vivent leur vie propre : leur phonétique et leur orthographe se modifient sans cesse   ; … La langue ressent le contrecoup des changements survenus dans l'être humain et dans le milieu où il se développe. Les changements dans la manière de vivre des hommes, comme par exemple le passage de la vie agreste à la vie citadine, ainsi que les événements de la vie politique laissent leurs empreintes dans la langue. »
فالتحولات الاجتماعية عامل أساسي في التحول اللغوي، فلا يمكن للغة أن تظهر وتنمو في وسط طبيعي محض "إن جسمين عضويين إحيائيين جمع بينهما في وسط طبيعي محض لا يمكنهما أن ينتجا نشاطا كلاميا" ، بالتالي فإن باختين لا يحصر الواقعة اللغوية في ما هو  مادي ضيق أي محسوس بل يوسع أفقها المادي بالمعنى الماركسي، فما هو مادي بالنسبة للماركسية ليس كل ما هو ملموس ومحسوس كما تذهب المادية الميكانيكية إلى ذلك، بل المقصود كل ما هو مستقل عن الإرادة والذات الفردية. 


وبعد أن ينتهي باختين من عرض وجهة نظره بشكل موجز إلى أن يأتي على البرهنة عليها في الفصول القادمة، يذهب إلى عرض أهم الاتجاهات الفلسفية اللسانية في القسم الثاني من الفصل الرابع، بحيث حدد اتجاهين رئيسيين في مجال تحديد موضوع فلسفة اللغة، الاتجاه أسماه باختين بـ "المثالية الذاتية في اللسانيات" وقد حدد سمات هذا الاتجاه في:
1-اللسان نشاط، سيرورة بناء إبداعية متواصلة (طاقة فاعلة)
2- قوانين الإبداع اللغوي في جوهرها قوانين فردية-نفسية
3-الإبداع اللساني إبداع معقلن مشابه للإبداع الفني
4-تبدو اللغة، باعتبارها نتاجا ناجزا، ونظاما قارا (المعجم، النحو، وعلم الأصوات) مستودعا جامدا، مثل حمأة الإبداع اللساني المتجمدة، التي أنشأها اللسانيون، بكيفية مجردة، بهدف التحصيل العملي عليها كأداة جاهزة للاستعمال.
إن هذه السمات الأربع التي حددها باختين تلخص مجمل تصور هذا الاتجاه، ولا عجب أن أسماه بالاتجاه المثالي الذاتي إذ أنه يرجع مجمل اللغة وقوانين الإبداع اللغوي إلى الذات الفردية، إن هذا الاتجاه بحسب باختين لا يولي أي اهتمام للعوامل الخارجية المؤثرة في اللسان (كالعوامل السياسية والاقتصادية أي المادية في الأخير) بل يولي اهتمامه فقط بالمعنى الفني للواقعة اللغوية، من هنا يمكن أن نستوعب السمة الثالثة والرابعة، بحيث أن التناغم الذي تحتويه جملة معينة أبدعها فرد معين مشابه للإبداع الفني من حيث انطلاق الاثنين من قواعد وصيغ جامدة، ففي مجال الإبداع الموسيقي ننطلق من سبع نوتات/نغمات جامدة ثابتة لإنتاج عدد غير محصور من المعزوفات الموسيقية، وإن كانت هذه النوتات الثابتة أنتجها الموسيقيون فإن النحو والمعجم أنتجه اللسانيون، من هنا فاللساني لا يهمه سوى ما يمكن إبداعه انطلاقا من هذه القواعد والصيغ الجاهزة، يقول باختين:
"نفهم مما سبق أن فعل الإبداع الفردي للكلام هو الذي سيشكل بالنسبة لفوسلر (ّأحد رواد هذا الاتجاه) الظاهرة الأساسية،... ويترتب عن ذلك أن يصير، من وجهة نظر تطور اللسان، أهم شيء، في كل فعل كلامي، هو بالضبط التنفيذ الأسلوبي والتغيير في الصيغ والأشكال المجردة للسان." 

أما الاتجاه الفلسفي-اللساني الثاني فقد أطلق عليه باختين اسم "الموضوعانية المجردة" فقد حدد سماته في الآتي:
1-اللسان نظام ثابت وغير متحرك من الأشكال اللسانية الخاضعة لمعيار يتسلمه الوعي الفردي، كما هو ، بكيفية إجبارية.
2-إن قوانين اللسان في جوهرها قوانين لسانية من نوع خاص تقيم روابط بين الأدلة اللسانية داخل نظام مغلق، وتكتسي صبغة الموضوعية بالنسبة لكل وعي ذاتي.
3- لا علاقة للروابط اللسانية الخاصة بالقيم الإيديولوجية (فنية، معرفية، أو أخرى). كما لا يوجد أي حافز إيديولوجي في أساس الوقائع اللسانية، ليس بين الكلمة ومعناها علاقة طبيعية ومفهومة يدركها الوعي، كما لا توجد أي علاقة فنية ينهما.
4-ليست أفعال الكلام الفردية –حسب وجهة نظر اللسان- سوى انحرافات أو تنويعات عارضة بل مجرد تشويهات لصيغ معقدة. لكن أفعال الكلام الفردية هذه هي التي تفسر التحول التاريخي الذي يحدث في صيغ اللسان، إن التحول باعتباره كذلك، غير معقول ولا معنى له من وجهة نظر النظام، ولا توجد بين نظام اللسان وتاريخه علاقة ولا وحدة في الحوافز، إنهما غريبان عن بعضهما البعض.
إن هذا الاتجاه الذي كان دوسيسر من أبرز ممثليه، يذهب وكما هو مبين أعلاه إلى الصبغة الموضوعية لقوانين اللسان وثبات نظامها، ينطلق من النظام الداخلي للسان، وكان لابد من الإشارة هنا إلى التمييز الذي يقيمه دوسيسر بين اللغة واللسان بما هو نظام للصيغ، بحيث أن هذا الأخير جزء من اللغة ويشكل مع الكلام (فعل التحد ث الفردي) ما ندعوه لغة، إن اللسان يتميز عن اللغة بموضوعيته وبساطته.
إن الفرق بين الاتجاه الأول والاتجاه الثاني يكمن في أن الروابط اللسانية لا تنطوي على علاقات فنية، كما أن القوانين اللسانية التي يعتبرها الاتجاه إبدعا فرديا ذاتيا هي ذات طابع موضوعي مستقل بالنسبة للاتجاه الثاني، وهنا يطرح إشكال تفسير التحول في هذه الصيغ، بحيث أن الاتجاه الأول يجد له حلا متضمنا في طرح، فإذا كانت هذه الصيغ ابداعا فرديا صرفا فهي دائما تتحول وتتغير، أما الاتجاه الثاني لا يملك حلا متضمنا، بحيث أن الاقرار بالطابع الموضوعي لهذه الصيغ وثباتها لا يفسر لنا تحول هذه الصيغ، من هذا المنطلق يقدم الاتجاه الثاني لنا أطروحة تفسر لنا هذا التحول ممثلة في "الأخطاء والانحرافات الفردية". يقول باختين شارحا هذا الطرح:
"إن منطق تاريخ اللسان هو منطق الأغلاط الفردية أو الشذوذ، فالانتقال من ich was إلى ich war يحدث خارج مجال الوعي الفردي، إنه انتقال غير إرادي، ... وإذا لم يدرك الشذوذ عن القاعدة، على ّأنه خرق فعلي لها، فلم يقع تصحيحه بالتالي، وإذا توفرت الأرضية لتعميم الخطأ فإن هذا الانزياح يصير هو المعيار اللساني الجديد."
وهو ما يوضح لنا السمة الرابعة للاتجاه الموضوعاني المجرد، فالتحول غير مقبول من وجهة نظر النظام، لذلك كان منطق تاريخ نظام اللسان على طرف نقيض من منطق نظام اللسان.

إن مواقف كلا الاتجاهين وإن بدت مختلفة في الظاهر فهي تلتقي مع مجموعة من النقاط، فكلاهما يلتقيان في الدور الحاسم للذات الفردية، وكلاهما يهملان ما بدأ به باختين واعتبر شرطا أساسيا في تحديد الواقعة اللغوية الممثل في المحيط الاجتماعي والسياق الاجتماعي.