واقع الدرس الفلسفي:بين النمطية ورهان الإنعتاق ـ م ادريس بنشريف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse09132في البدء  كان السؤال:ما معنى أن أكون مدرسا للفلسفة ؟  
      سأنطلق  في إجابتي عن هذا السؤال من هواجس كانت تخالجنا ونحن نرتاد الثانوية لأول وهلة. عندما  كنا نسترق السمع من زملائنا عن "مول الفلسفة "  صاحب المواقف الصادمة ، الغريبة والمثيرة للفضول ... أقاويل وأحاديث تتراكم مخلفة في نفوسنا رغبة ملحة في إكتشاف هذا المجهول ،هذا الجديد الذي نتشوق لمعرفته عن قرب . لماذا "مول الفلسفة " دون غيره من المدرسين؟ ما الذي يكسبه إهتمام الدانــي والقاصي ؟  ألـغرابة مواقفه وخروجه عن العادة والمألوف أم لخصائص ومميزات يختص بها دون سواه؟ هواجس من بين أخرى تجعل من مشروعية التساؤل عن هوية مدرس الفلسفة : المهذار، الغامض ، المجنون ، والملحد ... مسألة في غاية الأهمية .

 أـ  من هو مدرس الفلسفة ؟
    يحمل سؤال الهوية مفارقة غريبة يمكن التعبير عنها في مقولة مأثورة عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه(1844-1900): " إني أشبه كل الأشخاص وأشبه البعض منهم ولا أشبه أحدا". ما نستشفه بصحبة نيتشه هو أن الهوية تشابه وتمايز في الآن نفسه. مدرس الفلسفة يتقاسم مع زملائه هموم الإنتماء للحقل التربوي، لكنه يختلف عنهم من حيث المنطلقات المواقف والرهانات، كما أن مدرسي الفلسفة يتمايزون  و لا أحد نسخة طبق الأصل للآخر. نجد إختلافات بين جيلية واضحة في صفوف المدرسين لاسيما مع الإنفراج الأخير الذي شهدته الفلسفة على صعيد الجامعات بعد سنوات من الحصار وتضييق الخناق كان لها أثرها على مستوى  حضور الفلسفي في المشهد الإجتماعي وما رافقه من إيتيكيتات ظلت معششة في المخيال الجماعي بأحكام وتمثلات ألصقت بممتهني تدريسها ليجدوا أنفسهم منخرطين في معارك من واجهتين :


    *مول الفلسفة ذلك الغريب الذي يسكننا على نحو غريب:
 شكل "مول الفلسفة " مادة حكائية دسمة للمخيال الشعبي تناقلتها ألسنة المتعلمين وغيرهم من أهل الفضول يمتزج فيها الواقعي بالخيالي والعقلي بالأسطوري، حتى صار الممتهن لهذا النمط المعرفي منغمسا شاء أم أبى في البحث عن شرعنة اجتماعية لخطابه الفلسفي  أمام تمثلات صلبة  حبلى بالصور المشوهة والسلبية  عن الفلسفة؛ فما أدراك عن أهلها والمحسوبين عليها ! هنا تحضرني حوادث فصلية رغم بساطتها فهي تحمل أكثر من دلالة ، لاسيما عندما يفاجك تلميذ ، ومن خارج السياق ، بأسئلة من قبيل : "واش كاتصلي أستاذ " تفكر مليا وتسائل ذاتك، هل كان السؤال سيطرح على "مول" الرياضيات والفيزياء و الإجتماعيات ... ؟
  يجد مدرس الفلسفة نفسه أمام مواجهتين: أولاها إخلاء الطريق وتنقيته من عوائق التفلسف ومضاداته من أحكام وآراء جاهزة وضرورة تحرير الوافدين الجدد من سلطتها وقهريتها ، ثانيها لزوم ما يلزم من جوانب تقنية ووسائل توضيحية مع مراعاة مقام المتلقي ومكان الإلقاء وشروطه القانونية والمؤسساتية .

   * مول الفلسفة مزعج /مشاكس :
   بقدر ما أن التمثل الإجتماعي يحمل صور عديدة ومختلطة باختلاف الأجيال، بقدر ما أن المؤسسة بفاعليها هي الأخرى تحبل بالصور المختلطة بين السلب والإيجاب عن "مول الفلسفة "، يمكن ترجمتها بالتوجس المؤسساتي والحذر من "كثرة الفهامات"، "كثرة المساءلة"، "قوة الإعتراضات "، " التخندق الإيديولوجي"، "جرأة الموقف "و" رفض التنميطات ". من هذه الحمولة تتألف صورة مول الفلسفة كأناني يحب الظهور بمظهر الزعيم/ البطل الكاريزمي والمشاكس العنيد الذي لا يدع كبيرة ولا صغيرة إلا وقلبها فحصا وتمحيصا ومساءلة وتشكيكا ،حتى أضحت عبارة ما بعد اللقاءات لصيقة ب "مالين الفلسفة " كثرة الفهامات " 
لهذه الأسباب ومثيلاتها نقول إن سؤال الهوية يطرح بحدة عند مدرس الفلسفة أكثر من غيره، ليس استفرادا ولا رغبة في عنثرية مزعومة،  وإنما لأن هويته يستمدها من نمط فكري وسم بأنه عشق ومحبة للحكمة وبحث عن الحقيقة؛ التي طالما غلفت ونسيت من لدن المالك لسلطة قول الحقيقة. عندما يقلب المدرس/مصاحب الفلسفة المعادلة فيتحول إلى مزعج ومشاكس يجب إسكاته . بين الما يجب المؤسساتي وبين الما يجب الفلسفي تصدع وشرخ واضح، هنا يستوقفني نص جميل أورده سليم دولة في كتابه "ما الفلسفة "والنص ناطق بمضمونه لا يحتاج إلى كبير شرح أو إيضاح : " لا تفلسف ولا إمكانية للتفلسف طالما بقي الإنسان سجين كهف العادات والتقاليد (...). فكأن الذي لا يفكر بنفسه (...) كأنه سجن في زجاجة. ومن هنا يتطلب الفعل الفلسفي كسر زجاجة التقاليد. إذا كانت الآراء المسبقة تحول دون الإنسان والتحرر، فإن الفيلسوف (...) لا يمكن له أن يكون إلا حرا. ما معنى ذلك؟ ذلك يعني أن الفعل الفلسفي، أن الخطاب الفلسفي ، أن القول الفلسفي مرتبط عضويا بالحرية والتحرر."2
 
 ولما كانت هوية مدرس الفلسفة  جزء لا يتجزأ من الفلسفة ذاتها فإن رهان ممتهن الفلسفة هو رهان الفلسفة ذاتها المتجلي في الحرية ؛ ما معنى أن أكون مدرسا للفلسفة ؟

* أن أكون مدرسا للفلسفة معناه أن أتملك القدرة على التحرر من البداهات وسوابق الرأي والعادات الفكرية التي تكون في الغالب مضادة ومقاومة للتقدم والتطور في اتجاه حياة إنسانية أفضل. ألم يجعل سقراط من التفلسف ضرورة حياتية لا محيد عنها للكائن البشري "إن الحياة الخالية من التأمل والنظر لحياة لا تليق بالإنسان (...) إن حياة خالية من الحرية و لا تسمح بتأمل ولا نظر ولا عمل في الحقيقة ليست بحياة "3.

* أن أكون مدرسا للفلسفة معناه أن أتحررمن مختلف أشكال الفكر السلبي: الدوغمائية، التبعية الفكرية ،التلقي السلبي للآراء والمعلومات ، السلوك الآلي اللاواعي ، العنف ، الخوف والجبن الأخلاقي ...4

* أن أكون مدرسا للفلسفة هو أن أعي حجم وجسامة  الرهانات الملقاة على عاتقي، ألا وهي تكوين وتربية مواطن كوني متحرر ومستقل ومسؤول قادر على العيش المشترك والحفاظ على كرامة الإنسان ونبذ كل أشكال العنف والتعصب، ومحاربة كل الخطابات المعادية والمناقضة للعقل .

ب ـ مدرس الفلسفة في منزلة بين المنزلتين:  الإبداع أم الإتباع 
  يتبين إذن أن الفصام الذي ينتهي إليه مدرس الفلسفة يتمظهر في مفارقة بين ماينبغي أن يكون وما هو كائن:
     منذ ان دفع سقراط ضريبة تقفي اثر تلك الهوية بقوله: " أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" والفكر الفلسفي ما يفتأ يعيد مساءلة تلك الهوية خاصة في ظل السياقات المحيطة بتعلم القول الفلسفي وما قد يخلقه من تشنجات وأحيانا تخوفات من الهرطقة أوالبدعة. هناك دوما حد من حرية القول الفلسفي أوتخوف لا مبررله أحيانا من هذا القول. "علينا أن لا نعتبر الأدوات التربوية التي يضعها ال (أن.ت.م) بتصرف عملائه (كتب، تفسيرات، كتاب المعلم، برامج، تعليمات تربوية...) كمجرد عناصر مساعدة على الترسيخ، بل كأدوات ضبط لتدعيم أرثوذوكسية العمل المدرسي في مواجهة الهرطقات الفردية."5

الشاهد على ذلك من بين شواهد عديدة، لايتسع المجال لذكرها، مسألة القيم والتناقض بين خلخلات وتقلبات المساءلة والنقد وثوابت الدوكسا كعائق أمام كل تعلم حقيقي للتفلسف. في ملاحظة تعبر بوضوح عن وجهي المفارقة أعلاه، صرح الأستاذ محمد الدكالي : "أتذكر أني كنت دائما أقرأ، عندما كنت أدرس بكلية علوم التربية، جملة غريبة، في مقدمة ما كان يسمى آنذاك بالكتاب المدرسي، تقول ما معناه يجب تعليم التلاميذ التفكير الحر والنقدي، مع احترام المثل والقيم !" مهما تكن تلك القيم ومهما تكن قوة تعودنا عليها واحترامنا لها، فهذا لا يمنعها من أن تتغير، أو أن تكون موضوع نقد وفحص متشكك. لهذا فلا يعقل أن نطلب من الأستاذ والتلميذ، وخاصة أستاذ الفلسفة، أن يفكر في كل شيء إلا التفكير في القيم، أو في الذي يسميه الناس اعتباطا، منظومة القيم ؛ خصوصا عندما يقصدون بهذه التسمية قائمة قيم غير قابلة للنظر والمراجعة، علما بأن النظر لا يعني بالضرورة الإساءة إلى الأفكار أو الانتقاد المجاني؛ فربما يكون غرض النظر هو الفهم أو النظر في الجوانب التي لا تظهر فيما هو سائد من قيم؛ وربما يكون الغرض من النظر هو إعادة بناء القيم "6.

 ج ـ مدرس الفلسفة والنبوة المغتالة :
   عندما يلفي مدرس الفلسفة نفسه سجين طقوس وعادات في أمكنة شبيهة بأديرة الرهبان، تأسر المربي ومن يربيه على حد سواء، حينها يغدو التفنن في الرقابة ومعاقبة الجناة أشد فتكا وهولا... الفلسفة تحرر من سلطة المألوف، كسر لزجاجة التقليد، المؤسسة طقوس وأعراف، توافقات وتعاقدات صارت من فرط استهلاكها  تحاط بكثير من القداسة الموصى باحترامها : تعلم النقد، الشك، المساءلة لكن باقتصاد شديد، لا اجتهاد مع محكمة التقنين والوصاة . معلوم أن المدرس مطالب بتنوير العقول الفتية وأن الأنوار خروج من الوصاية المضروبة على الإنسان، يقول الضابط لاتتعقل أطع الأمر، يقول الجابي لا تتعقل إدفع، يقول الراهب لا تتعقل آمن ؛وفي جميع الحالات ]يقول كانط[ ثمة حد من حريتي ....،في مناخ كهذا تكثر الغرف السوداء التي كتب عليها بحروف بيضاء إن الله يراك ، هنا تعلو هتافات الجهل"المؤسس" منادية من كل حدب وصوب، هناك دوما حد من حرية الفرد في التعقل /التفلسف...
ما أكثر الغرف السوداء التي كتب عليها بحروف بيضاء إن الله يراك !يقول الوصي اعمل ولا تسأل عن أشياء إن تبدو لك تسؤك ! اعمل بما أمرت ولا تتعقل، تعقل في بعضه وتغاضى عن بعضه! في مقام كهذا  لا تنطبق القاعدة إذا سقط الجزء سقط الكل . يقول الموصى عليه لنفكر بالشمولي،النسقي ،الفكر المركب ؛ التهمة /الحكم جاهز لدى الوصي: متكاسل خمول من يفكر في السياقات وإياك أن تردد مثل هذه العبارات المردودة .
  يقول الوصي الحوار قيمة أساس لبناء إنسانية الإنسان، يصرح بها وهو واضع عجينا في أذنيه، ما أتعس التحاور عندما يرتد على آلات صماء ....ما أتعس أن يكون فكرك فلسفيا في مناخ كهذا! تصلب في المؤسسات وتعنت وحيطة وحذر تفصح عن نفسها بشعارات قاتلة مدمرة تأتي من سوق الإستهلاك (كل شيء بضاعة قابلة للإستهلاك "شحال جبتي في ") ....تكنات موجهة تغتال العقل وتكسر كل ممانعة، كل مساءلة، كل تشكيك، كل نقد ، كل استشكال. جيوش على أهبة الإستعداد لمحاربة هذا المارق، الدجال ....ما أتعس أن تطأ أرض المعركة وأنت بدون حتى ملابس داخلية فبالأحرى سلاح .... لا امتداد بين الملفوظ والمعمول ... أخرق من يدعي وصاية جيل على جيل بدعوى أن المتقدم أحق من المحدث! أليس الثاني صنيعة الأول؟ ...نعم ولا. المهم الجزء ولا تقل الكل .

  د ـ الدرس الفلسفي بين ضبابية الرؤية ومطلب الوضوح :
    في بداية كل موسم دراسي يطفو سؤال البداية ، أين؟؟ وكيف ؟؟ومتى ؟؟ وبصحبة من ؟وهل منطلق هذه الرحلة واضح بما يكفي أم أنه طريق بدون شارات مرور ؟وبدون وسيلة ركوب ولم لا هو سفر بأقدام حافية ؟ في بداية كل موسم تربوي يطرح سؤال الرغبة في وضوح الرؤية : ما الذي نريده من درس الفلسفة ؟ الجواب مشوش، معتم في غياب هندسة واضحة المعالم لمشروع مجتمعي حقيقي ،تستمرالحلقة الأضعف في مسلسل معاناة سيزيفية  بين فصول ومسالك لا تحمل من القيمة سوى الإسم . في غياب هندسة بيداغوجية تنسجم ورهانات مشروع واضح المعالم المصير بائس مقفر. بدون توليفة منسجمة من الباحثين في التاريخ، اللغة، الإقتصاد، الأنثروبولوجيا، علم الإجتماع، الفلسفة، الطب، علم النفس ، السيميولوجيا، الإعلاميات، القانون، السياسة، الجغرافية، الإسلاميات.... النتيجة تخبط في العشوائية والعموميات .
     القراءة، المناقشة، الكتابة الإنشائية ثلاث بنود في علاقة المربي بمن يشرف على تربيتهم والكلمة الحسم للمؤسسة مربية المربين . وهل يمكن الفصل بين هذه البنود ألا يؤدي غياب إحداها إلى إختلال الأخرى؟ ما الفرق بين القراءة والتلاوة ؟ ما الفرق بين الكلمة والمصطلح والمفهوم ؟ ما الإشكال والإشكالية ؟ ما معنى المحاججة ؟ ألم تأت على وزن مرافعة ؟ هل وظيفة الحجة تؤتى من مرجعيتها أم من حواملها اللغوية ؟ الإختبار، البلاغة، المنطق، القيم مناهل الحجة ومراتب قوتها وضعفها . أليست المناظرة ممارسة حجاجية بامتياز؟ تلك خلافيات مدرسية لم يحسم فيها والمطلب : وضوح العقد شريعة المتعاقدين .
       
    هل الكتابة شكل بلا روح ؟  الأسلوب بصمة الكاتب؟ في الكتابة الكل واحد ولا أحد يشبه الآخر. المأزق في تحويل الكيف إلى  كم ، سؤال السوق فارض ذاته لا محالة"شحال جبتي" القيمة تبقى عددية ؟ وهل العدد دال عن المعدود أم أنه يفيض عنه ؟ وهل الدال يواكب المدلول أم يتخلف عنه ؟
بين الفلسفي والمؤسساتي تكمن المفارقة :بين بطء الأول وسرعة الثاني، بين حساسية الأول وجفاء الثاني، بين استبصار الأول ومشاهدة الثاني، بين كشف الأول وتحجب الثاني ....يقع ما يقع ... وإذا وقعت الواقعة جرت معها سيولا جارفة من الأحاديث والأقاويل  عن  التقويم و أساليبه. المطلب هو إعادة النظر في طقوسه وشروطه ؛ وهل المشكل في أساليب التقويم أم في تحول المقومين وانتقالهم من حال إلى حال من جيل الحبر إلى جيل الزر من جيل الكارط بوستال إلى جيل الواتساب ؟ إن تمسك المسؤولين عن هذا الحقل بنمطية الفعل التربوي، قد حول المدرسة إلى مكان معزول واقعا ومرفوض ذهنا، وحول المدرس إلى دون كيشوط، يخاطب أفرادا لا يجدون في كلامه ما ينهمون به حقا .....

 ج ـ مدرس الفلسفة ورهان الإنعتاق
   إذا انطلقنا من واقع الفصول وبإنصات حقيقي لإشكالاتها العديدة، يمكن وصف الدرس الفلسفي ، مع قسوة في الحكم، بأنه ذلك الرجل المعلق مابين السماء والأرض و أستاذ الفلسفة بأنه سيزيف عصره،  مزيدا من العزلة وملل اجترار المتون الفلسفية بلغة جافة وترجمات ركيكة تزيد الهوة بين المتعلمين وما يتعلمونه ... ولما كان السؤال أشهر آلية وسمت الفكر الفلسفي ،وكانت ممارسة التساؤل جزء لا يتجزأ من هوية ممتهن الفلسفة ، سنطرح تساؤلات بقدر ما تستشكل هذه الممارسة بقدر ما تدعو إلى التفكير في آفاق وإمكانات أخرى :

ـ    في الحاجة إلى نقاش فلسفي عقلاني :
     هل المناقشة محاكمة عقلية أم نقلية لطرح فلسفي معين ؟ أعتقد أن النزعة السردية في استعراض الأطروحات الفلسفية في لحظة المناقشة قد خرجت بالدرس الفلسفي  عن غاياته الأساس من إذكاء لروح النقد والمساءلة وإرساء مبادئ التفكير العقلاني الحر البعيد عن الوثوقيات والأنسقة النهائية والمغلقة. وكأننا أمام مجمع الفلسفة الذي كلما ذكر بإشكال سارع إلى حقيبته مستعرضا ما يعرفه من أسماء ومواقف وأقوال، لعله في هذه الجلبة يثبت روح الفكر الفلسفي وما هو في الفلسفة من شيء..."الفقيه" يستحضر النصوص المنقولة من الحقل الشرعي، و"المتفلسف" الصغير ينقل مواقف من كراس الفلسفة فتغيب ذاته ليتحول النص الفلسفي إلى سلطة قاهرة تأسر المربي والمتعلم معا .السبب في إعتقادي أننا لم نستخلص بعد أن المنهج أهم من الحقيقة /الحقائق /المضامين ؛هنا يرتد السؤال إلى محسوبين على الفلسفة قد تحولوا إلى أعداء للفلسفة دون وعي منهم ، مراكمة نصوص وتجميع طروحات، ووضع شبكة ملجمة لفعل الكتابة، وتقديس النصوص كسبيل أوحد لتدريس الفلسفة والجري وراء موضات معينة ولا نقول نظريات ، سيؤدي لا محالة إلى تكريس العقلية النقلية وإقبار العقلية المتفتحة والمبدعة القائمة على النقد والشك والمساءلة. المفارقة : لنحارب الغش بالحث عليه....
  النقاش روح التسامح، شتان بين مناظرة تتحول إلى ملاكمة في برامجنا وأخرى تنتهي بالمصافحة واللاحسم النهائي أملا في حقيقة تبنى تشاركيا لا استفراديا. الأمر نفسه ينطبق على الإنشاء الفلسفي عندما يختزل في عبارات نمطية فجة يرى فلان لكن يعارضه فلان فتحشد المواقف بين فريق مؤيد وآخر معارض تصطف في طابور بتعسف سافر، السرد! وأين الحق في الإعتراض  الحجاجي ؟ ألـئن إضاءات تاريخية ومعرفية كان حضورها سيجنبنا الإرتطام والعنف ؟ يقال الحل إستكمال التكوين وقراءة اللوحة من" النهاية" باتجاه البداية ...

ـ   في ضرورة الإبتعاد عن التايلورية النصية :

  هل اختيار التدريس بالنصوص اختيار صائب بالضرورة ؟ وما مدى فعاليته في التدريس ؟ لم يحاط هذا الإختيار بهالة من التقديس وكأنه السبيل الأوحد لتدريس الفلسفة ؟ لم لا يستعين الدرس الفلسفي بالسيميولوجيا (الصورة) الأدب ، السينما، الموسيقى ...؟ كيف يبنى المفهوم الفلسفي بحوامل لا نصية ؟هل كل تلك النصوص تحتمل مقاربة نمطية أشكلة /مفهمة /محاججة؟ هل يرتبط الأمر بمهارات أم بمضامين ؟ كيف يمكن لمدرس الفلسفة أن يحول الدرس الفلسفي الى فضاء للحوار والنقاش والسجال بين مشارب فلسفية متعددة انطلاقا من نصوص؟ ما موقع المدرس من جهة والتلميذ من جهة أخرى امام هذه السجالات ؟وهل من السهل إيجاد الخيط الناظم لهذه النصوص ؟ أليس اختيار المقطع/النص نوعا من المجازفة التي تقول الفيلسوف ما لم يقله ؟ وهل يمكن نقل ما يريد الفيلسوف قوله أم أن قصدية المؤلف واقتراب أو ابتعاد القارئ من هذه القصدية هي ما يمنح الدرس الفلسفي ثراءه وغناه ؟ ألا يتعلق الأمر بأزمة للمعنى تتجاوز المدرسين، بل وحتى المتخصصين ؟ كيف نوفر الحد الأدنى من التوافق بين المدرسين في فكر رافض للنمطية وقائم على الإختلاف؟ (ديكارت/هايدغر ،ديكارت/كويري ،هيجل/كوجيف،هيجل/هيبوليت )

ـ   في الحاجة إلى احترام  مقام المتلقي /"لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها  " 7:      
         قال صاحبي وهو يعاتبني ما جدوى التركيز عن أساليب التوصيل والتي تسمى بلغة التقنيين بالديداكتيك والبيداغوجيا، لنروي ظمأنا المعرفي ولنناقش رهانات أكثر عمقا لأن التقني مسألة في غاية البساطة. فكرت مليا فتبادر إلى ذهني مسألة في غاية الأهمية أن الساحة الثقافية تهمش الطفل (الكتابات الموجهة للطفولة، البرامج ، سينما الطفل ، مسرح الطفل، فلسفة للأطفال ) وكأن البساطة إختزال وابتذال يحط من قيمة الرجل الأكاديمي وينزله من برجه العاجي. بعدها يلقي المثقف باللائمة على عزلته وغربته ولما لا يتمه في مجتمع لا يعير كلامه و"هرطقاته "أدنى اهتمام، وهل تستقيم أرضية ثقافية بدون عناية مبكرة أليس الطفل أب الرجل ؟ ألم يهندس فلاسفة التنوير قنوات لتعميم الأنوار في قوالب مبسطة تجتذب الجمهور وتوسع من قاعدة الإنخراط توسلا بالأدب والمسرح والرواية والقصص وصالونات الفكر؟ أليست مأساة الفلسفة في جزء منها نابعة من غياب انهمام حقيقي بالتواصل الفعلي مع الطفل والمراهق ؟ في عالمنا العربي الإسلامي إذا استثنينا بعض المحاولات القليلة إن لم نقل الناذرة الموجهة للأطفال تبقى الطفولة على الهامش، أعطني أعمالا بحجم ما يقوم به ميشيل طوزي أو جوستاين غاردر... ما أضخم المشاريع وما أقل التجاوب والمردودية ؟
 ما أود قوله هو أن تفعيل القول الفلسفي رهين بتهيئة الأرضية، قلبها وغربلتها وسقيها تمهيدا لجذمور فلسفي يستعصي اجتثاثه .

على سبيل الختم :
  
     ليس يخفى عن أهل الدار من حاملي الهم الفلسفي في صيغته المدرسية، صعوبة المهمة وعديد مفارقاتها، فإن قلنا الهوية مابه يتمايز الشيء وما به يتشابه في الآن. ألفينا مدرس الفلسفة بهويتين هوية مهنية لصيقة بالمدرس/ الأجير الذي يؤدي وظيفته كغيره من المعلمين وهوية فلسفية يستمدها من مصاحبته وصداقته لهذا النمط من الفكر وما تجلبه الصداقة من أثر في الصديق /المحب. ولما كان القول الفلسفي مشروطا بالحرية منذ الأغورا اليونانية إلى الفضاء العمومي للدولة الحديثة فإن أي تضييق على هذه الحرية بدعاوى واهية كالخوف والتخوف هو إرتماء في أحضان التعصب والتخلي عن مطلب الكونية وفسح المجال لنزعات التجهيل والتدمير التي تتغذى من هشاشة مجتمعات ذاقت مرارة العنف بكل أنماطه ،عنف لا يفتأ ينجلي للوجود في شكل هويات متشظية بين الإتباع والإبداع ، بين التماهي بالمألوف والتمرد عليه بين التموقف المتصلب ومرونة التعقل بين  واقع الإرتهان ورهان التحرر ....

1ـ  بيير بورديو، العنف الرمزي ، بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جاهل ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1994. ص80.
2ـ أرسطو،دعوة إلى الفلسفة ،ترجمة عبد الغفار مكاوي،دار التنوير للطباعة والنشر.ص 103 وبتصرف .          3ـ سليم دولة ،ما الفلسفة؟.دار نقوش عربية الجمهورية التونسية .ص28 -29وبتصرف
5 ـ منهاج مادة الفلسفة 2007
6ـ أوراش الفلاسفة ،هيجل ومجزوءة الوضع البشري ،مداخلة الأستاذ محمد الدكالي.
7ـ فريدريك نيتشه :هكذا تكلم زرادشت ،ترجمة فيليكس فارس ، مطبعة جريدة البصير الإسكندرية  1938، ص17.

مساهمة على هامش النشاط الإفتتاحي للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفةـ فرع الرحامنة يوم 27يونيو2016.