مفهوم النص من منظور فلسفي تأويلي ـ رشيد المشهور

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse02129يرتبط مفهوم النص، بمجموعة من الحقول المعرفية والعلمية؛ فهو مفهوم عابر للحدود بين التخصصات الأدبية، والفلسفات والعلوم الإنسانية والفنون وغيرها. ولا ينفصل النص، نظريا وعمليا، عن فعلي الكتابة والقراءة وسياقهما. من هذا المنطلق المركب، سنعمل على الكشف عن معنى النص وتعالقه مع فعلي القراءة والكتابة من منظور فلسفي تأويلي، بغرض التأسيس لعدة ديداكتية ممكنة للمفهوم.
ما الكتابة؟ وما القراءة؟ وما وظائفهما؟ وكيف تتحدد طبيعة العلاقة بينهما؟ وهل تعتبر القراءة المنبع الوحيد للكتابة؟ إن الكتابة بناء من العبارات، والنصوص تعكس هواجس المرء ومعاناته ومأساته وخوفه من الموت والمصير، وتترجم عالم الرغبة، وحالات الوجود والمسارات والدروب، وتنهل من المأمول وتخوم المتخيل والمجهول، وتكرس، في المدى البعيد، "الخلود". فهي تعبير عن تجارب الواقع وتفاصيله ومعاناة الإنسان فيه، وما يسمعه، ويلاحظه...، وما ينسجه الذهن من خيال وأحلام. في الكتابة الرتابة والملل، وفيها الصناعة والإبداع. وبذلك فهي تحمل الإنسان على تأمل آلامه وآماله، وتضع مسافة عقلية بينه وبينها.

والكتابة اختيار إرادي في عمقها، تبعا للفروع المعرفية والعلمية والفلسفية والأدبية. مفاهيما وأسلوبا، مبنى ومعنى، شكلا ومضمونا، منهجا وفكرا؛ حيث ينتقي الكاتب عدته وأدواته المنهجية واللغوية والمعرفية وما يغذيها ويغنيها، ويجعلها تخدم وظائفها المتعددة. والكتابة تبعا لوظائفها وأدوارها، كآبة وفرح، ركاكة وفصاحة، تملق ونضال، تدليس وتنوير، خضوع وتحرير، انفعال وفعل، اتصال وتواصل، تعتيم واكتشاف، ظلام ونور. إنها جماع المفارقات وفن الممكن والمستحيل، المعلوم والمجهول، المنكشف والمستور.
أما القراءة لا تدل على "صوت النطق بالكلام المكتوب" ( معجم المعاني) فقط، وإنما هي جهد جسدي وعقلي يبدله الإنسان، وذلك من أجل استنطاق المعنى، وفهمه، وتفسيره، وتأويله. وهنا تعد القراءة كتابة، وإنتاج للنص من خلال النص وعبره.
لذلك، يبدو من الضروري الإشارة إلى ثمار القراءة؛ فهي جسر العبور إلى ما وراء جدار الوهم، والعتمة، والدوكسا، وفعل تحرر من سلطة اليومي، والمألوف، والفكر المغلق. ونظر إلى الحياة بعين العقل، والقلب، والحواس. وسفر إلى عوالم المعنى، والجغرافيا، والتاريخ، عبر الزمن والمكان، إنها اختراق للحدود وسكن بين الأصدقاء ومعهم، وحوار ممتع لا يخلو من شحذ للذهن وشحن للذاكرة، وقيمة ما بعدها قيمة، وتحليق في سماء الفكر وعمق الوجود، وممارسة حياتية للكوميديا والملهاة، ولعب في ميادين السياسة والثقافة والاجتماع باحتراف تاكتيكي واستراتيجي.
وتتعالق نسبة القراءة طرديا مع نسبة الكتابة، لدرجة يمكن القول معها أن نسبة إنتاج النصوص المكتوبة ومحاولة الكتابة والإبداع بمختلف أنواعه تنخفظ كلما انخفظ منسوب قراءة الكتب، والمقالات والمكتوب بعامة، كما أن ارتفاع نسبة القراءة ونوعها يسهم في إمكانية الرفع من نسبة الكتابة. هذا إذا أخذنا بالاختلافات بين الفروع المعرفية وخصوصياتها المتفردة.
إن الكتابة لا تضمن ديمومتها من قراءة المكتوب وحسب، بل من قراءة الواقع المعيش واكتشاف ثنايا الوجود، ورصد تفاصيل الظواهر الطبيعية والإنسانية. إنها هم، وقضية، ونقد وبناء. فكم يتطلب إقناع فئات كثيرة بالقيمة الذهبية للقراءة والكتابة لترجيح كفة منطق إرادة الحياة على كفة منطق إرادة الموت؟ في ظل الثورة التكنولوجية وشبكات التواصل الاجتماعي وسيادة ثقافة الجاهز، والتأسيس للإنسانية البعدية، أو ما أصبح يعرف بمفهوم ما بعد الإنسان(الإنسان المُعدَّل).
لذلك، وبعد هذا العرض التمهيدي والأولي، من الضروري، لمزيد من التعمق واستنطاق المعنى، مقاربة النص وعلاقته بفعلي الكتابة والقراءة، وتحديد التقاطعات والتمفصلات.
ما النص؟ وهل يمكن اختزاله في الكتابة أم أنه مجرد كلام شفهي؟ ألا يعتبر النص حوارا بين كاتب وقارئ مفترض؟ أليس كل نص هو كلام بالقوة وكتابة بالفعل؟ وهل فعل الكتابة يقتضي فعل القراءة بالضرورة؟ وبأسلوب آخر، ما طبيعة العلاقة بين الكتابة والقراءة؟ هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟
يقال في اللغة نص الشيء رفعه وأظهره، وفلان نص أي استقصى مسألته عن الشيء حتى استخرج ما عنده، ونص الحديث ينصه نصا؛ إذا رفعه، ونص كل شيء منتهاه؛ فالنص لغويا الاستقصاء والاستخراج والمنتهى؛ وهو نسق من العلامات والرموز التي تحمل معنى بالنسبة لجماعة بشرية ما وتقضي من خلالها أغراضها. ولا يمكن اختزال النص في الكلام الشفهي الذي تعترض استقامة معناه جملة من الصعوبات، كالتهويل أو التضخيم من جهة، والزيغ أو التيه من جهة أخرى؛ فالنص كتابة بالفعل وكلام بالقوة. وكونه كتابة معيارية يتطلب قارئا ما. لكن، ثمة ثنائية تطفو إلى السطح في هذا السياق، في لحظة حضور الكاتب يغيب القارئ، وفي لحظة حضور القارئ يغيب الكاتب. فهل يمكن الحديث، في هكذا وضعيات، عن الفعل التواصلي بين الكاتب والقارئ؟ وعلاوة على ذلك، هل يمكن الحديث عن موت المؤلف؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن فصل النص عن سياقه وشروط إنتاجه الذاتية والموضوعية؟ وكيف يتفاعل النص مع باقي النصوص الأخرى بالنظر إلى مختلف الحقول المعرفية؟ وهل النص تناص أم إبداع خاص؟
ترتيبا على المعنى المشار إليه أعلاه، النص ليس حوارا يتطلب حضور محاوَر ومحاوِر، وبشكل مباشر، وفي اللحظة والحين، إنه بناء للتصورات الأولية التي تصير مفاهيم غير ممتلئة المعنى، ولا تامة الدلالة أو تمثل الحقيقة المطلقة. والنص تعبير عن موقف صريح أو ضمني، وكأنه صرح للعدالة، يرافع عبره الكاتب عن دعواه حتى يُثْبَتُ نقيضها، بالاستراتيجيات الحجاجية والاستدلالية العقلانية الممكنة أو يفند عبره دعاوى ما أو غيرها من الغايات الأخرى.
لذلك، كل قارئ للنص يفتقر إلى الوعي بالمنطلقات التي تأسس عليه ذلك النص بوصفه كتابة مُقعّدة، ونسقا منغلقا ومنفتحا على أنساق أخرى في الآن نفسه. ومنه، يجد نفسه في حيص بيص، وتنتصب أمامه إشكالية إبستيمولوجية عابرة لحقول معرفية كثيرة، سواء بوعي أو بدونه، وخاصة الأدب، والفنون، والعلوم الإنسانية والاجتماعية. يتعلق الأمر بإشكالية الفهم أم التفسير، هل النص قابل للتفسير العلمي الدقيق أم أنه قابل للفهم؟ هل يمكن تفكيك النص في حد ذاته، وبمعزل عن أي معطى خارجي أم يقتضي الأمر تأويل رموزه وعلاماته واستخلاص معانيها ودلالاتها؟ إنها إشكالية النص بين الذات والموضوع، بين الفهم النفسي والتفسير العلمي، بين عالم الذات الداخلي وعالمها الخارجي...
وعلاوة على ذلك، يمكن القول أن النص، كل نص، لا يمتلئ، فهو يبقى مفتوحا على الممكن والاحتمالي، إنه كون دلالي، مكوناته رموزه، وإيحاءاته، وإشاراته، حركاته وتموجاته، تمظهراته، وجغرافيته. وفي مجموعه يضمر المعنى. وينفلت من سلطة مبدعه، ويتيه ليصير ملكا عموميا، ومشتركا من لدن الجميع، ومن حق الكل تأويله، والاستلذاذ بدلالاته، وعيشه من جديد، وإحيائه وإضفاء الروح فيه بوصفه تجربة خاصة، لا يمكن استنفاذها كلية من خلال الرموز والعلامات.
ولا يملك النص السلطة، إلا سلطته. سلطة الصدق والحقيقة، الفضح والكشف، التجلي والظهور، بعيدا عن الخفي والمنسي، والمكبوت واللامفكر فيه. تلابيب النص لا يملكها إلا هو، وعبره ومن خلاله يفوح المعنى. معنى الحياة والوجود، في مقابل الموت والعدم. إن النص، شئنا أم أبينا، يرغم صاحبه على البوح والاعتراف، والاقرار بما كان وما عله سيكون. يسحب البساط من سلطة صاحبه، ويسحره بقوته، ويجعله يخدم أغراضه، وبحكم غوايته، وتلاعباته، يحمل مبدعه على المسايرة في مساراته ومآلاته اللامتوقعة.
إن النص، بهذا المعنى، ينفلت من كل تصنيف مسبق وجاهز، إنه يمارس نوعا من التيه، ويحيل على معاني ودلالات تختلف تأويلاتها، بقدر اختلاف مرجعيات المتلقي والسياق. ويصير النص جماعا من المعنى، تلتقي فيه النقط والمسارات وتفترق، وتتلاقح فيه الأفكار ويشحذ فيه الخطاب ما يجعله حيا وحركيا ممفككا للسكون والجمود.
......................................................................................
المراجع:
-    بول ريكور، من النص إلى الفعل أبحاث في التأويل، ترجمة محمد برادة و حسان بورقية، نشر عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى 2001م.
-    ابن منظور، لسان العرب، تحقيق مجموعة مـن الأسـاتذة، دار صـادر، بيـروت، ط 3 ،1414/1994 ،الجزء السابع.
-    محمد مفتاح، ديناميكية النص (تنظير و إنجاز)، المركز الثقافي العربي، المغـرب، الطبعة الثانية، حزيران، 1990.
 -  Paul Ricoeur : du texte à l’action, Essais d’herméneutique2, Seuil, 1986.