من يحاكم من : السياسي أم الفلسفي ؟ ـ محمد قرافلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Aanfasse03117يؤشر السياسي في علاقته بالفلسفي  على تاريخ مرير وملغوم . توجس الفلسفي من السياسي المتربص به مثل ظله جعل الفلسفي يترنح في شباك السياسي ويسقط في متاهته.
ابتلع الفلسفي طعم السياسي الى حد الانحلال والحلول فيه . بدل أن يحاكم الفلسفي السياسي أضحى السياسي القاضي والفلسفي الضحية المتهم . لم يقف الأمر عند مرافعةالفلسفي عن العار الذي لحقه من لعنة السياسي وفي محكمة السياسي بل سينصب الفلسفي من نفسه المشرع للسياسي والحامي لعرشه .
تلك كانت البداية كما دشنتها الذاكرة اليونانية مع المحاكمة السقراطية التي تفننت العبقرية الافلاطونية في رسم معالمها الملحمية الأشد إثارة لحكاية الفلسفي والسياسي .

 قد تكون تلك البداية بمثابة إعلان عن النهاية المأساوية للفلسفي والسياسي وإيذانا بشريعة العنف والقتل  في نفس الآن...!
لعل ما تلى ذلك من قرون لم يكن ذَا أهمية تذكر اللهم إلا مشاهد من فصول تلك المسرحية. تتعدد فيها الأدوار، يتبادل خلالها الفلسفي والسياسي المواقع . احيانا كي تتحركتلك المحكمة وتحرك دواليب اجهزتها وتحشد عتادها، من دعاوى ومتكآت حجاجية ، تستنفر همم الفلسفي لكي يطلق العنان لمخيلته قصد السبح في عالم الميتافيزيقياتوالمجردات ويصطاد ماندر من المعزوفات والمرويات والكائنات المفاهيمية ومن الشخصيات المفهومية  ...لتزيين ممالك السياسي وترصيع أركان تلك المحكمة حتىلايصيبها الاهتراء والتآكل .


في رحاب مملكة السياسي وعبر ردهات محاكمه تفنن الفلسفي في تقمص مختلف الأدوار طوعا او كرها :

يجوب الأزقة طولا وعرضا حافي القدمين!
يشيد الأنساق ليقيم في الكهوف ليلا ويعرج نهارا الى عالم المثل!
دون الدساتير وكان المعلم الأول والأخير!
تلبس عباءة الأحمق وسار بمصباحه في واضحة النهار !
عوى وتبرز وتنجس مثلما تفعل الكلاب !
استلذ عبوديته مشبعا نزوية سيده حد الغثيان!
تزلف تقربن تربب تألهن ، انمحاء تحللا طمعا في الفناء !
من سحر رموزه بعدما تمنطق وتمنهج انبرت الكائنات والكون في النسيان!
مرتهن لطبيعته الطابعة والمطبوعة!
كلما لاحت أطياف كينونته المنسية تمرد معلنا العصيان!
حامل ومحمول محكمته، المتهم البرئ في مملكة عقله!
كلما تذكر كيف قتل والده ، ليضاجع  أمه!
تعتريه أقيسة المرارة تتآكله ديدان القلق والندم!
  يلملم جراحه ، ينكمش يتشقى في وعيه،  يتشظى!

 احيانا تلمع في سريرة الفلسفي آثار من بقايا تلك الكينونة المنسية يصرخ ، يلعن يبكي حاله السيزيفي يتمرد ، يتقمص قناعه الإنكيدي ، يسبح في  شبقه الفاوستي ، ينتظرخلاصه ، يصرخ في الفراغ ملء الصدى، ينبعث يتردد الصدى، يعرج ، يصعد ، ينزل يتلوى يبدل جلده ... لكن هيهات بين حال وجوده وبين تلك الكينونة المنسية لاحبليتدلى ولا خلاص سوى الفراغ ملء العدم !
قصة بداية تلك الكينونة المنسية قد تلبست بالكون والكائنات مولدة عبر تدفقها أشكالا من النسيان ، مما دفع  بالفلسفي الى ان ينبري عبر مسيرته إلى البحت عن تلك الكينونةالمنسية منقبا في مختلف الركامات عن ذلك الأصل الذي لا أصل قبله وبعده ، عن تلك البراءة الأولى  ...!
توغلت جرثومة المحاكمة في أعماق الفلسفي أضحى ديدنه محاكمة الحس والحياة ، محاكمة الكون والكائنات ، محاكمة المرئي واللامرئي،محاكمة للذات والآخر، محاكمةللتاريخ والزمن ، محاكمة للحضارة ...صارت المحاكمة روح عصر برمته.
بالمقابل انبرى السياسي في لعبة المقامر وفي قلب الأدوار يعيد رسم الحدود يهدم الممالك ،يسم الأجساد وينمط السلوك ، يقولب الفكر ويخترق الكون والكائنات . حيث ستجذبلعبة القمار وجوها أخرى ستنبري بدورها إلى خدمة السياسي  . لم تعد اللعبة كما حصل في البدء في ردهات المحاكم بل تحولت إلى  روح تسري في مختلف الصالونات ،في مختلف المؤسسات ...بل هواء وماء، بردا ونارا، ربيعا وخريفا... الكل يحاكم الكل...!
من يحاكم من ؟ الفلسفي أم السياسي؟
باسم ماذا تتم تلك المحاكمة ؟ ولأجل ماذا؟

سواء تمت المحاكمة  أو كانت مجرد متن حكائي على شاكلة إنكيدو .. تمت المحاكمة تطهرا ، باسم الحقيقة،أو باسم الخير العام ، او طلبا للخلاص الأبدي  باسم الإله اوتمردا عليه ،  باسم الحضارة أو ضدها ، باسم الوطن او لأجل الثورة ....فإنها شكلت انعطافة وضرورة لتأسيس السياسي  من خلال ترسيخ جرثومة المحاكمة وتأبيد شريعةالقتل .
مادامت البشرية في حاجة لمثل تلك الحماقات  لكي تستمر الحياة !