جذر الخلاف الفلسفي بين "العلمانية" و"الدين" ـ مهند ديب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse03113فلسفياً، يمكن القول إن الإنسان منذ نشأته ينشد "الحقيقة المطلقة"، ولأن كانت هذه "الحقيقة المطلقة" هي من حكمت نزوع العقل البشري نحو "المعرفة"، نجد الكثير من النظريات والمدارس الفلسفية التي تناولت "المعرفة" مفهوماً وموضوعاً، بمجمل أبعاد شروطها أو تحديداتها، بل وحتى إمكانات وجودها أو قيامها، إلا أننا نعتقد بأنّ مجمل هذه "النظريات" و"المدارس" الفلسفية، بقيت تدور ـ  على كثرتهاـ   في فلكِ خلافٍ جوهريٍّ، تمثل بأهم منعطف تاريخي في حياة البشرية، وهو التطور الذي بدأ مع منتصف القرن الخامس عشر، الذي قسم الوجود الإنساني بين عالمين: (العالم القديم) و(العالم الحديث)، أي بين (الكوكبية) و (الكونية)، و بالتالي بين مفهومي "وحدة المعرفة" و "جزئية المعرفة"، والذي يعني بين "الدين" بمعناه الأعم "المفارق"، وهو القانون الذي يقضي بأنَّ "هذا الوجود غير مكتفٍ بذاته"، على خلاف "العلمانية" بمعناها الأعم "الموضوعي"، وهي القانون الذي يقضي بأنَّ "هذا الكون مكتفٍ بذاته"، وليس بحاجة للامتثال لأي مفهوم "مفارق"..
إنّ التطور الذي طرأ مع بداية منتصف القرن الخامس عشر، يمكن تلخيصه بثلاث محطات رئيسية، ساهمت بشكل رئيسي في إحداث القطيعة المعرفية الفلسفية مع "العالم القديم"، التي كانت قد حكمت الرؤية الإنسانية على مدى ألفي عام، وهي:
ـ أولا: "ثورة الأفلاك السماوية" التي نسف بها "نيكولاس كوبرنيكوس" الاعتقاد القديم عن مركزية الأرض.
ـ ثانياً: "ثورة الفيزياء الحديثة" التي دمر بها "جاليليو" المقولات القديمة للفيزياء.
ـ ثالثاً: وهي الثورة الأهم التي توّجها "إسحاق نيوتن" في وضعه لمبادئ الحركة وقانون الجاذبية الكونية.


إنَّ مثل هذا الفصل الذي أشرنا له آنفاً، تسبب في بروز العديد من "المدارس" و"التيارات" الفلسفية، التي بقيت تسير بتفرّد بين إحدى النزعتين، فهي إما اتّخذت "العلمانية" كموضوع لـ"الفلسفة المادية" مثل "الواقعية" و"الوضعية" و"التجريبية"، وإمّا اتّخذت "الدين" كموضوع لـ "المفارق" كمثل "العديد من الأديان" التي تلتقي كلّها مع المدارس الفلسفية "المثالية"، وبمثل هذا الفصل يبقى الإنسان إما متعالياً بـ "حالمية الدين المفارق"، أو خاضعاً لـ"قيود العلمانية الموضوعية"!!..

تطور الخلاف من "الفلسفي" إلى "الاجتماعي" بين "العلمانية" و"الدين"

على ضوء ما سبق، وانطلاقاً من الرؤيتين الفلسفيتين المتناقضتين، حول جدلية "العالم" بين: (الثبات) المكاني الديني، و (الحركية) الزمانية العلمانية، نبدأ هنا بسؤال، قد يسهّل علينا فرز أبرز "النظريات" و"المدارس" الاجتماعية، وذلك من خلال إلقاء الضوء على تموضعها الفلسفي على جذر الخلاف..
السؤال هو: هل يحدث "التغير الاجتماعي" (لـ) العالم أم (في) العالم؟ والجواب يأتي:
ـ إما بتقديم "المكانيـ الديني" بحيث يغدو "التغير الاجتماعي" يحدث (لـ) "العالم" بثبات امتثاله لـ"المفارق"..
والذي مثل أولوية لبعض علماء الاجتماع أمثال "ماكس فيبر" و"إيميل  دوركهايم".
ـ وإما بتقديم "الزمانيـ العلماني" بحيث يغدو "التغير الاجتماعي" يحدث (في)  "العالم" بحركية ذاتية داخلية منعزلة..
والذي مثل أولوية عند البعض الآخر أمثال "كارل ماركس" و "أوغست كونت".
ومن رحم هذا الخلاف على إقامة "النظام الاجتماعي"، نلقي الضوء بالمعنى الأعم على كل من مفهومي:
"المجتمع الديني" و "المجتمع المدني":
ـ الأول: الذي يقوم على شرط أساسي ورئيسي ألا وهو شرط توسط ووجود "النبي المرسل"، المسؤول مباشرة عن علاقة "العالم" بامتثاله لـ"المفارق"، من خلال استقباله وتلقيه لقواعد "الضبط الاجتماعي" وفرضها على "المجتمع"، كمثل (الوصايا العشر) عند "اليهود" التي دوّنت بواسطة "النبي موسى" في "كتاب التوراة"، كذلك بالنسبة لـ(الأسفار) وخصوصاً "سفر اللاويين" عند "المسيحيين" ـ الذي يعتبر الأقرب إلى التشريع الاجتماعيـ  والتي بمجملها دوّنت بواسطة "المسيح" في "كتاب الإنجيل"، كذلك بالنسبة لـ (الشريعة الإسلامية) عند "المسلمين" والتي دونت بواسطة "النبي محمد" في "كتاب القرآن"..
ـ الثاني: الذي يقوم على مجمل التحولات العميقة الآنفة الذكر، من خلال فرضها تحديّاً مادياً (معرفياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً) أمام المجتمعات البشرية، الأمر الذي شكل تربة خصبة للعديد من "المفكرين والفلاسفة" للوقوف والتصدي لها، مما أفرغ العديد من "النظريات" و"الدراسات" التي تناولت مفهوم "المجتمع المدني" وفقاً لـ"البناء الاجتماعي" الخاص بمجتمعاتهم، وعليه نخلص إلى أنه ورغم تعدد التعاريف التي تناولت مفهوم "المجتمع المدني"، يبقى الشرط الرئيسي الأساسي لقيامه هو بعزل "المفارق" عن "العالم المادي" وتقويضه، وذلك بإحالة "القيمة المطلقة" لـ "الفرد البشري"..
وهنا يبرز الخلاف على منشأ ومرد "الفضاء القيمي" المؤسس لـ"قواعد الأخلاق" بين "الدين" و"الفرد"، ولمسألة "الأخلاق" بعد خلافي آخر يستند في جوهره على حقل "علم النفس"، وعلى انقسام طبيعة "النفس البشرية".


البعد الخلافي في "علم النفس" والصراع على طبيعة "النفس البشرية"

حتى يتسنى لكل "نظام اجتماعي" أن يشيد نظريته الاجتماعية، لا بدّ له من الاستناد على جوهر من "الطبيعة البشرية"، ومع إلقائنا الضوء على محور الصراع  الذي دار بين "الخير" و"الشر" في حقل "علم النفس"، نستطيع الوقوف عند "الجذر الخلافي" الذي حكم كل من بنيتي "المجتمع الديني" والمجتمع المدني" في رؤيتهما لـ "الفرد"..
"خطيئة النفس" في "المجتمع الديني"
ترتبط "النفس البشرية" في "المجتمع الديني" بسلبيات تكوينها ونشوئها، إذ أنّ جميع "الديانات السماوية المفارقة" تتفق على مفهوم "الخطيئة الأولى" للإنسان، التي بدأت مع نزول النبي آدم، كما تسير معها  أبرز "المدارس المثالية" (الفلسفية والاجتماعية والنفسية) والتي تعتقد أن "النفس البشرية" دائماً ميالة لإشباع غرائها، وبالتالي لا يمكن الوثوق بها كمؤسس لـ"فضاء قيمي" يحكم "القواعد الأخلاقية" للمجتمع.
"فضيلة النفس" في "المجتمع المدني"
ترتبط "النفس البشرية" في "المجتمع المدني" بإيجابيات تكوينها ونشوئها، إذ أنه من الممكن ضبطها بقواعد "البرمجة النفسية" وصولاً لـ"لقيمة المطلقة" الخاصة بـ"الفرد"، حيث تمتد مدارس ونظريات "علم النفس" من "فرويد" إلى "لاكان" مقدمة العديد من من الطرائق والوسائل التي تمكننا من تفسير رؤيتها..
من عواقب "الخلاف التدميري" بين "العلمانية" و"الدين"

تضح معالم "الخلاف التدميري"
بالنسبة لـ "العلمانية"
من خلال إقصائها لمفهوم "المعنىـ المفارق" المتعالي عن اكتمال "الوجود" المادي الموضوعي، ما حال بالضرورة لاستبداله بمفهوم "العدم" كحاكم للوجود الإنساني حيث لا بديل له، الأمر الذي نشأ عنه انقسام "التيار العدمي" إلى قسمين:
(العدمية المنفعلةـ المتعبة): والتي تأتي نتيجة لدلالة ضعف الإرادة والفكر، والتي ترى أنهما نزفا لدرجة كبيرة بحيث يسود الميل إلى الراحة والتأمّل والهرب من الواقع، والتي تتخذ بالأغلب لوناً فلسفياً أو دينياً، مثل "فلسفة شوبنهور" أو "الديانة البوذية"..
(العدمية الفاعلةـ القصوى): والتي بشّر بها "الفيلسوف نيتشة" دلالة على القوة المتعاظمة للإرادة والفكر وصولاً لـ"الإنسان السوبرمان"، والتي تأثرت بفهوم "الصراع" الذي عمّ المناخ الفكري والفلسفي نتيجة لما قدّمه "تشارلز دارون"، وجاءت بدورها حاملة وحامية لرؤية بعض "الأنظمة الشمولية" مثل "النازية" و"الفاشية"، التي أودت بحياة الملايين من البشر..
وبالنسبة لـ "الدين"
من خلال إقصائه لمفهوم "الوجود" كجزء رئيسي غير منفصل عن "المعنىـ المفارق"، ما حال بالضرورة إلى طرح "المعنى" كسلطة مهيمنة ومقيدة لـ"الوجود"، ما نشأ عنها مفهوم "الحاكمية بأمر الله"، الذي حكم في (الشرق) باسم "الخليفة" الذي تبعه "السلطان"، وفي (الغرب) باسم "القديس" الذي تبعه "البابا"، متوجاً في مرحلة العصور الوسطى مفهوم ما يسمّى بـ"الدولة الدينية"، التي أودت بدورها بحياة الملايين من البشر، سواء في الشرق أو في الغرب..
 
وكما رأينا فإنّ الخلاف الذي نعتناه بالتدميري، يتخذ ثلاثة أبعاد رئيسية، أهمها وأولها "البعد الفلسفي" الذي يُعدُّ الجذر الخلافي الأكثر ثباتاً بينهما، ما نشأ عنه بالضرورة، بعداً خلافياً اجتماعياً ثانياً، يتمثل في الصراع الذي قام على فرض "النظام الاجتماعي" بين رؤيتي "المجتمع الديني" و "المجتمع المدني"، من ثم تأتي "النظرية السياسية" كبعدٍ ثالثٍ، متوجة الخلاف بين نظريتي "الدولة الدينية" و "الدولة المدنية"..
وهنا قد يسأل سائل:
كيف تسنّى "لمجتمعات الغرب" ـ خصوصاً ما بعد مرحلة الحرب العالمية الثانيةـ  أن تحيي كل من مفهومي"العلمانية" و"المجتمع المدني"، مع  استمرار "مجتمعات الشرق" ممزقة بين مطرقة "الدين" وسندان "العلمانية" لعقود من الزمن؟!

"البعد المهمل" والحل على طريقة "إيميل دوركهايم"

(الحل المعرفي)
لم يستطع "دوركهايم" تجاهل جذر الخلاف الفلسفي الذي بدأنا به، الأمر الذي دفع به بداية إلى إشادة "نظرية في المعرفة" تمكنه من تقديم وتمكين "نظريته الاجتماعية"، متجاوزاً "التناقض المعرفي"بين "وحدة المعرفة" و "جزئية المعرفة"، والذي رآه متمثلاً بين ما قدمه كل من "كانت" و"هيوم" على مستوى الحقل "الإبستومولوجي المعرفي"، مضيئاُ  أشكال القصور التي تعتري نظريات "المذهب التجريبي" و"المذهب العقلي" في تفسير نشأة المعرفة البشرية... 
حيث رأى "دوركهايم" أن ما قدمه كلّ من "كانتـ القبلي" و"هيومـ التجريبي من تفسيرين لنشأة "شروط المعرفة البشرية"، يفشل في عدة نواحي، منها:
بالنسبة لـ"كانت"
اكتفى بنقد ست مقولات له وهي (السببيةـ الكليةـ الزمانـ المكانـ التصنيفـ القوة) حيث يرى "كانت" أنّ هذه المقولات في نشأتها فطرية تحدث في العقل وهي سابقة على التجربة ـ وهو سبب نعتها بالقبليةـ  إلّا أنّ "دوركهايم" يقف عند تفسيرها حيث يراها غير مفسرة، وما يجب أن يقدمه لنا "المذهب القبلي" هو من أين يستمد العقل هذه القدرة على إنشائها، وهي ذات المقولات التي ردها "التصور الديني" إلى مفهوم "المعنىـ المفارق" المطلق..
وبالنسبة لـ"هيوم"
يرى بأنّ "المذهب التجريبي" الذي يمثله "هيوم" يفشل في تفسير الطابع (الكوني ـ الضروري) لمقولات "الإدراك"، وهو يبني المقولات على انطباعات حسية، تتميز بالخصوصية والحرية لكل "فرد"، وهي خصائص مناقضة لخصائص المقولات كـ(الكونية والضرورة)..

وباختصار يخلص "دوركهايم" إلى أنّ قبول فكرة "الأصل الاجتماعي" لـ"المقولات" سيفسر كل الصعوبات التي اعترضت كل من المذهب "التجريبي" و"القبلي"، أي قبول فكرة الأصل الاجتماعي لـ"المعرفة البشرية"، محاولا حل جذر "الخلاف الفلسفي" الذي أشرنا له في بداية البحث، حيث خلص ومن خلال دراسته لـ(الممارسات الطقوسية في الديانات الطوطمية)، إلى أنّ "المعرفة" تمثل (ظاهرة اجتماعية) بمعنى  أن اجتماع مجموعة من الأفراد للممارسة الأصوات والحركات الملموسة جماعياً، يولد مجموعة من المشاعر والانفعالات المشتركة، التي تنبثق عنها بدورها "مقولات الفكر" أو "مبادئ الفهم"، والتي يتم بوساطتها بعد ذلك تثبيت أساليب الفعل والتفكير، من خلال تحويلها إلى مؤسسات تحظى بالخارجية وبقوة الإكراه، ويؤكد بأن تبني (التجربة الفردية للمعرفة) تثير بالضرورة مشكلات يستحيل حلها، وبالمقابل تبني (التجربة المفارقة الفكرية أو الدينية) تثير بالضرورة مشكلات لا يمكن تفسيرها، وقد نستطيع بهذا الحل تجاوز "الخلاف الفلسفي" بين ("الفكر" أو "المفارق المثالي") و (الواقع المادي)، أي بين شروط (الكوكبية) و(الكونية) وحدوث المعرفة بين العالم الداخلي والخارجي..
("النفس البشرية" عند "إيميل دوركهايم")
يرى "دوركهايم" أن "الطبيعة البشرية" هي جمع بين (الكائن الفردي) و(الكائن الاجتماعي)، ويعتقد "دوركهايم" أن مفاهيمنا "تمارس عنفا" على إحساساتنا، وأن سلوكياتنا الأخلاقية تزعج غرائزنا وميولاتنا، ويرجع ذلك، حسب "دوركهايم"، إلى أننا "لا نستطيع أبدا أن نكون في وفاق تام مع ذاوتنا، حيث لا يمكن لنا أن نتبع واحدة من طبيعتينا إلا وعانت الأخرى، وبالتالي، فإننا مجبرين على أن نعيش دائما منقسمين ضد ذواتنا..
حيث يرى "دوركهايم" أن الفرد يوجد سجين "وجودين": الأول ينحدر من "كياننا الفيزيقي" ويعبر عنه وينعكس في الإحساسات والشهوات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها؛ وينحدر الثاني من "المجتمع" ويعبر عنه، ويؤدي إلى انبثاق العقل والفعل الأخلاقي اللذين بدونهما لن يكون المجتمع ممكنا..

(الحل الاجتماعي)

يرى "دوركهايم" أن "المجتمع" يحتاج إلى ما يعادل وظيفياً الجانب التعبدي لـ"الدين"، كما يحتاج إلى معادل وظيفي لـ"الدين" بهدف إنتاج "المثل العليا"، التي توحد الجماعات حول "الفضاء القيمي" و"القاعدة الأخلاقية الواحدة"، وهو يدافع عن فكرة الاستمرارية بين (المجتمعات القديمة) المسماة "دينية" و(المجتمعات الحديثة) المسماة "علمانية"، أي فكرة العلاقة الماهاوية بين "الدين" و"المجتمع"، إذ بيَّن كيف أمكن، في مجتمع الثورة الفرنسية، تحويل أشياء "علمانية" (كالعقل، والوطن، والحريّة) إلى أشياء "مقدّسة"، وفتح، بذلك، المجال أمام التساؤلات المعاصرة، حول مدلول "الدين العلماني"..
تصوُّر دوركايم لمشكلة (العقلنة) و(نزع الطابع السحري عن العالم الحديث)، يتضمن فكرته عن "التحوّلات البنيوية" لـ"لمقدّس"، رافضاً العداء "الفولتيري" ضد مفهوم "الدين"، ذلك لسببين:
ـ أوّلاً، يحيل دوركايم هذا العداء إلى موقفٍ غير علميٍّ يحكم مسبقاً على نتائج البحث، ويجعل صدقيتها محطّ شكوك..
ـ ثانياً، وهذا هو الأهم، يعد "دوركايم" ذلك عملاً لا علاقة له بـ"علم الاجتماع"، حيث يرى أنّ الطقوس الأكثر همجية، والأساطير الأكثر إثارة للغرابة، تترجم حاجة بشرية معينة، أو بُعداً معيناً من أبعاد الحياة، فردياً كان أو جماعياً، ويمكن للأسباب التي يعتمدها المؤمنون لتبرير تلك الأساطير والطقوس أن تكون خاطئة، وغالباً تكون كذلك؛ لكن الأسباب الحقيقية لا تتوقّف عن الوجود، وترجع إلى "علم الاجتماع" مهمة اكتشافها، حيث لا يوجد هناك ديانة خاطئة، إنّها كلّها صحيحة، بطريقتها الخاصّة: فهي تستجيب، ولو بأساليب مختلفة، لشروط معطاة للوجود البشري..
يهاجم "دوركايم" النظرية الحيوية، التي دافع عنها "هربت سبنسر"، والنظرية "الطبيعانية" التي دافع عنها كل من  "تايلور" وفريزر"، وبعدهما " فرويد"، حول "الدين"ويرى أنّهما أخطأتا عندما حدّدتا أصل "المشاعر الدينية" في الظواهر السيكولوجية (كالأحلام)، أو في الخوارق الطبيعية (كالعواصف والزلازل)، يعتقد" دوركايم" بأنّ النظرية "الطبيعانية" حول "الدين" نزعة سيكولوجية ساذجة تفسّر إيمان الإنسان بالروح، كما لو أنّه يعيش حلماً، التي يشعر فيها الفرد بأنّه يوجد في مكانين مختلفين في آنٍ واحد، هذا "المذهب السيكولوجي" يعد "الدين" مجرّد وهمٍ دون أي أساس واقعي في الحياة الاجتماعية..
ويخلص إلى أنّ لمفهوم "الدين" خصائص أساسية، على الرغم من تنوّع الأشكال الدينية؛ ذلك أنّ “جميع أنساق المعتقدات، وكلّ الديانات، تقوم على عدد من التمثّلات أو التصوّرات الأساسية، وبعض المواقف الطقوسية، التي تحمل الدلالة الموضوعية نفسها، وتقوم بالوظائف نفسها في كلّ مكان”.
جدلُ "الشرق" و"الغرب"

بعين المأساة (الفكرية والمعرفية والثقافية "الدينية") التي تعيشها "مجتمعاتنا الشرقية"، قد نجد الكثير من الناظرين والمنظّرين لـ"دول ومجتمعات الغرب" باعتبارها تمثل "أنموذجاً حضارياً" ما كان ليُبنى إلّا على أنقاض "الدين"، إلّا أنّ من يطيل النظر والتأمل في بنية هذه المجتمعات والدول، لا يرى أي فكاك لمفهوم"الدين" عنها، إلّا أنّ المفاهيم التعبديّة هناك ترتدي لبوساً مختلفاً، وصوراً نمطية مختلفة، استطاعت أن تواكب مراحل "التطور البنيوي" الذي حاكي مجمل التصورات والتمثلات الاجتماعية لمفهوم "المقدس"، حيث استطاعت أن تخرجه من كيانٍ تعبديٍّ كان مأسوراً بفعل حكم "الكنائس والباباوات"، وسحبه من بناه "الأسطوريةـ الشخصية" إلى بنى "مؤسساتية" حكمت "الواقع الاجتماعي" دون مقاطعته مع "مثله العليا" باعتبارها جاءت طريقاً لها..
وبعين الملهاة (الفكرية والمعرفية والثقافية "العلمانية") التي تعيشها "المجتمعات الغربية"، قد نجد أيضاً الكثير من الناظرين والمنظرين لـ"دول ومجتمعات الشرق" باعتبارها تمثل "خصوصيةً حضارية" ما كان لهى أن تستمر إلا من خلال تقويضها لـ"العلمانية"،  إلّا أننا لو أطلنا النظر والتأمل في تراثنا "المعرفي الفكري والديني" بمجمله، لوجدنا فيضاً من "المفاهيم" و"الأفكار" باستطاعتها أن تشيد بـ"وعينا" أبنية من المساجد والكنائس والمعابد، تتجاوز بعلوها جميع ما تراكم من حجارة "الفكر" و"التاريخ"!

المراجع:
ملف بحثي، مجموعة باحثين، قراءات معاصرة في أعمال دوركهايم، الدين والمجتمع ونظرية المعرفة، مؤمنون بلا حدود، 2015م

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟