الإرهاب من تعفّنات الهويّة إلى فخاخ العولمة ـ الصّحبي بوقرّة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse25048   "إنهم يخرقون قواعد اللعبة عندما يصبح الموت هو رهان اللعبة، وبذلك فالقواعد الجديدة للعبة ليست ملكنا.إننا نسعى الى أن نحمّل الإرهاب أي معنى، وأن نعثر له على أي تأويل، لكنه خلو من المعنى، ووحدها جذرية المشهد، ووحدها قساوة المشهد هي المبتكرة، والمتعذر تبسيطها. إن مشهد الإرهاب يفرض إرهاب المشهد "
جان بودريار: ذهنية الإرهاب- لوموند 3 نوفمبر2001
                                                            
   مقدّمة: الإرهاب مفهوم خارج السياق:         
ارتبطت دلالة الإرهاب بسياقات ومعاني مختلفة إلى حدّ التناقض، الأمر الذي دفع البعض لاعتباره فعلا مُقاوما أو شكلا من أشكال النضال، إذ هو عندهم فعلٌ جهاديّ أصيل" يُرهبون به عدوّ اللّه وعدوّهم"، الأمر الذّي دفعهم للتعامل معه كاستراتيجيا دفاع تنتصر للحقّ والمُقدسّ وتدافع عن الحقيقة والدين. وهو عند البعض الآخر فعل إجراميّ يحيل على همجيّة وبربريّة ثقافة ما، الشيء الذّي دفعهم للتشكيك في إمكانيّة الحديث  عن انتساب القائمين بهذه الأفعال لما يسمّى ثقافة. الشيء الذّي دفع البقيّة الباقية تلافيا لاستفزاز هذا البعض أو لإحراج البعض الآخر، إلى اعتماد إهمال التعريف كاستراتيجيا وقائيّة، والاكتفاء بتفسير هذه الظّاهرة أو التفكير في مسوّغاتها، بدعوى الموضوعيّة والحياديّة.  في حين أنّ الاشتغال على المفهوم أمر لا مفرّ منه إذا كنّا فعلا نطلب الموضوعيّة والحياد، بل تجنّب الخوض في مسألة التعريف هو في الجوهر موقف موغل في الذّاتيّة والانحياز.

والتعريف لا يكون إشكاليّا إلاّ لحظة نوجّهه نحو الوجهة التّي نريد لا على أساس حدّ المفهوم ورسمه، الأمر الذي يعني -إذا أردنا ذلك -إمكانيّة عقلنة هذه الظاهرة أو تفكيك عناصر تواجدها في المجتمعات البشرية. والعقلنة لا تكون إلاّ على أساس فهم دقيق وصريح للظّاهرة، كما لا يكون التفكيك دون تحديد دقيق وجريء للمفهوم خارج كلّ سياق وقبله. فالمفاهيم التّي تحتاج سياقا  هي تلك التّي أساسها معقوليّة ما تبرّرها وتستمدّ بفضلها وجاهتها، أمّا الإرهاب بما هو فعل اللاّمعنى واللاّعقل فهو خارج منطق المعقوليّة والوجاهة، وإن كان له شيء من العقل والوجاهة فإنّه يستمدّه من العدم حيث اللاّشيء، وحيث اللاّسياق.
               الأمر ليس بالبداهة التّي يظهر عليها، إذ يحتاج العقل حتّى يكون  قادرا على تعريف الإرهاب  خارج السياق أن يكون هو بدوره خارج كلّ سياق، أي أن يكون بمستطاعه التّعامل مع الإرهاب خارج كلّ إيديولوجيا. فما الإرهاب على حقيقته؟ وهل هو مجرّد تعبيريّة هويّات قاتلة تعفّنت من الداخل فتهالكت وهلكت من حولها أم أنّه وجه من وجوه الرفض لنّظام عالميّ جديد يتّخذ من الكونيّ أداة لتحقيق الهيمنة والتحكّم في مقدّرات الشعوب والأوطان؟ وهل يُعدّ الرفض القائم على إيديولوجيا الموت باسم الجهاد والاستشهاد والمنتصر لكوني يسكن في السماء فعلا مُقاوما أو موقفا تحررّيا أمّ أنّه فعل عدميّ خلو من كلّ موقف ومن كلّ معنى؟

                قال القُدامى: "احفر وراء الكلمات لعلّك تجد وراء الكلمات حكمة" والحفر وراء كلمة الإرهاب يظهر بداهة معنى هو بدوره خارج كلّ سياق، يحيل على فعل (رهب، يرهب، رهبة) أي خاف وفزع، ويقال:" ترهّب فلانا أي توعدّه.  وفي الّلغات الأخرى  يأتي الإرهاب على معنى الرعب Terror والهلع، وكلّها معان تُعبّر دون ضمنيّات وقبل المسكوت عنه وبعده، عن الخوف الشديد والخارق والمفاجئ، وعن" العنف الجذري " الذّي  يتحدّى حدود الموت بما هو عودة مرعبة لقوى الشرّ و"الموت العنيف"  والإرهاب على هذا النحو " فعل عنيف وفاسد فاقد للشرعيّة بما هو فعل خارج الدولة، وفاقد للمشروعيّة بما هو فعل فاسد لا يرغب في الإصلاح أو التغيير، وإنّما في الهدم والتدمير، ومهما كانت بواعث هذا الفعل سواء كانت عقائديّة أو سياسيّة، فإنّ كمّ العنف فيه والفساد يجعله يتحرّك وفق قصديّة سيّئة النيّة  يقوم بها الأشرار من النّاس، للترويع والتهديد والتخويف أو لبثّ الذعر في صفوف عامة النّاس.
 وحينما يبطل القتل أو الفساد على أن يكون جريمة يُعدّ عند القائمين به واجبا أو جهادا، ولكنّه يظلّ في كلّ الحالات قتل وعنف وفساد، ولأجل ذلك يظلّ الإرهابيّ منبوذا حتّى لو وضعناه داخل السياق أو كان على حقّ، فليس هنالك من سوء أكثر من الاعتقاد بأنّ الشرّ هو الطريق الوحيد للحقّ أو الخير. وإنّ عالم الخوف الذّي يحيط بالفعل الإرهابي يتعدّى كلّ الحدود، حتّى حدود الشرّ ذاتها، والحياة لا تخلو من الشرّ ولا الموت، ولكنّ الإنسان أعدّ العدّة لتحمّل هذا وذاك، في حين يظلّ الفعل الذّي يتعدى كلّ الحدود لاإنسانيّا، ولأجل ذلك يظلّ منبوذا مهما كانت المبرّرات والسياقات.
1-    الإرهاب وعودة الخوف:         
 ليس هنالك من أمر يخشاه الإنسان أكثر من الخوف، والإرهاب اليوم يضع الإنسان من جديد وجها لوجه أمام ما يخشاه، فلا معنى لكلمات قيلت أيّام الثورة مثل:" لا خوف بعد اليوم"، لأن" بعد اليوم غدا يعاود فيه الخوف الأوّلي حضوره في أروقة المدينة وفي الجبال وفي كلّ مكان. وكأنّ قدر الإنسان أن لا يبارح قلعة الخوف إلاّ ليعود إليها، وعليه دائما أن يختار بين خوف يرتضيه وخوف يخشاه، والإرهاب بهذا المعنى عودة للشرّ الذّي تجاوزناه، أي للخوف الذّي نخشاه، حيث اللاّدولة، وحيث يستعيد "الإنسان الذئب" عافيته من جديد، سواء كان هذا الذئب منفردا، أو مصحوبا بذئاب على شاكلته، ولعلّ هذا ما يفسّر تلك المواقف التيّ بدأت تظهر اليوم، والتّي إذا خيّروها بين الاستبداد والإرهاب لاختارت الاستبداد، الأمر الذّي قد يجعلنا نرتاب، في العلاقة الخفيّة بين هذا وذاك، فصحيح وبلغة بودريار "هم الذّين ارتكبوا الفعلة" سواء كانوا ذئابا من فرنسا أو من تونس أو من غيرها من المدن التّي تختفي وراء أسوارها الذئاب، ولكن من أراد ذلك؟ من الذّي يعوي لتجميعهم كلّما احتاج إليهم؟ وكأنّ النظام عبر أدواته التّي مازالت منتشرة هنا وهناك، هو المتحكّم في ورقة التّوت فإذا خُلع وغادر البلاد أخذ الورقة معه، ليُقدّم لنا ورقة أخرى تقول على لسان أصحاب تلك المواقف:" إمّا أنا أو الإرهاب ". شقيّ هذا الاختيار البائس بين الاستبداد والإرهاب، وبائس أيضا ذلك الذّي يعتقد أنّ هنالك تمايز بين هذا وذاك.
وخطورة الإرهاب لا تسكن في جحور الذئاب فحسب، وإنما تسكن في عقول من يعيش معنا وبيننا، يدافع في الظّاهر عن المواطنة وينتصر للرعيّ والخلافة، يبطن كرها شديدا للعقل وأهله، يبتسم في وجوهنا ابتسامة حاقد منتظر اللحظة التّي يتحوّل هو بدوره ذئبا أشدّ إرهابا من الذئاب المنفرد، فاحذروا الذئاب، ولكن احذروا أكثر المستئذبين والمذؤوبين أولئك الذين ينتظرون قمرا لهم يقذف في صدورهم نارا الحقد والكراهيّة لتونس ولأهلها.
2-    الإرهاب وتعفّنات الهويّة: [من الهويّة إلى الهاوية]       
ولكن لنتجّه نحو جوهر المشكل، لنعاين خصوصيّات من "ارتكبوا الفعلة"، أي لنعاين الاعراض التّي تسمح لنا بتشخيص هويّاتهم لتحديد أصل الدّاء. صحيح أنّ التراث يمثلّ في عمومه مخزون الهوية التي تستمّد منه بعض مقوماتها وأسسها، ونحن عندما نفكرّ في الهويّة باعتبارها تحيل على ذاكرة الفرد " الأنا" و الجماعة " النحن" ، نفكرّ فيها باعتبارها تمظهرا وتموضعا لهذا التراث، لذلك كثيرا ما عدّ التراث تأكيدا للهويّة ، وهو مايضعنا أمام موقف يقول بضرورة العودة إلى الذاكرة إلى الماضي أي إلى التاريخ، و لكن المشكل  يكمن في هذه العودة، إذ كثيرا ما تكون عودة إلى التّاريخ لا تعترف بالتاريخ و لا بمنطقه ، و لا تكتفي بهذا البعض من المقوّمات والأسس، وعندها تتحوّل هذه العودة في أبعادها الوصوليّة والسلفيّة، لحظة انتماء أعمى أو ارتماء في أحضان هوية جبريّة بسيطة، هوية سكونيّة ومنغلقة. وعلى هذا النحو تحوّلت الهويّة اليوم ، بعد أن كانت منبّها للوعي ومحددّا للنضج و صانعا للمعنى والقيمة، ورمز توافق الجماعة وعامل وحدتها وتحررّها، تحوّلت عنصر تمايز وتباعد واختلاف ودافعا للقتل و التعصّب والانغلاق؛ وتحولّت  العائق الأساس أمام مسيرات التحرّر من الاستبداد، ومكبّلا للإبداع و عامل تحجرّ و صنميّة، يحيل على كثرة مفتتّة تفيد معنى التفككّ و الهشاشة.
فالنظرة إلى التراث قد ترتبط بفلسفة عن الهوية قائمة على رفض الآخر. وهي نظرة تعتبر «الآخر» طرفا منفصلا عن "الذات" وبالتالي تقذف به خارجًا وتنفيه وتحاربه وهذا سيؤدي إلى انغلاق "الذات" ؛ فتعمد كل جماعة إلى ترسيخ "هويتها" وتزكي تراثها وموروثها بهالة من القدسيّة تظهر "الهوية" كيانا خالدا وثابتا، وعندها تصبح عملية إلغاء "الآخر" لحظة بناء حاسمة في هذه الهوية. وكلّ فكر أو إنتاج مستمد من الحضارات أو الثقافات الأخرى، هو فكر "دخيل" أو مستورد، وهذا ما يجعل الالتزام بالأصالة نوعا من الانحياز والانغلاق ضمن ذات حضارية غير معلومة الحدود، يخلق خصومة ثقافية أو نفسية مع كل الثقافات الأخرى.  واليوم  بالذات تظهر  عبر كلّ ادوات الاتصال وداخل كلّ مؤسسّات الدولة نُخب وأحزاب نصّبت نفسها وصيّة على الموروث والهويّة والقيم العامة. وتُصنع داخل محاريب المساجد هويّات عنقوديّة، تعفّنت من هول  الجمود والفراغ فيها، فوراء كلّ إرهابيّ إمام. ومادامت المساجد عندنا تنجح في تعفين عقول شبابنا، وتدعّي امتلاك الحقيقة، وتمثيل الهويّة والأمّة، وتدرّبهم على الارتجاف أمام الكلمات، وتهددّ باسم فكرة خالق مُخيف كلّ من حولهم، سيظلّ الإرهاب صاحب الكلمة النهائيّة قبل الموت.
فليس هنالك من شيء أسوء من الاعتقاد في امتلاك الحقيقة، فكلّ جرائم الإنسانيّة كان مرجعها هذا الاعتقاد، وما الإرهاب إلاّ الوجه العمليّ لهذا التعصّب. والتعصبّ هو علامة تعفّن هويّة قد أصبحت في حالة عطالة ذهنيّة، تحوّل الدّفاع عنها  هذيانا أو هوسا . وعندما يعوّض الجنون خطاب العقل والتعقّل، يستحيل التسامح تهاونا ويتحوّل المتعصّب الناطق الرسمي باسم الهوية والتراث وباسم الموت والحياة؛ بل النّاطق الرسمي باسم السماء والخلق. وعندما تصاب الهويةّ بداء التخشّب والتحجرّ والصدئ أو عندما يسكن القول بالهويّة المتعفّنة المساجد وأروقة الكهوف والمغاور والجبال، لن يكون خطاب الهويّة هذه إلا الوجه المقنعّ للإرهاب.
حتّى الشيطان لم يكن إرهابيّا، كان مُعارضا لسلطة السماء، ولكنّه لم يقتل من حوله وأسوأ ما فعله أنّه قال: "لا"، أما الإرهابي فلا يستطيع حتّى أن يكون الشيطان، لأنّه لا يمتلك شجاعة الشيطان، ولا يجرؤ على الكلام في وجه من دفعه لقتل النّاس وترويعهم، بل في وجه من دفعه للموت بقتلهم، فأي كائن يمكن أن يكون أسوء من الشيطان؟: إنّه الإرهابي. قد يقول البعض أنّ المرء لا يولد إرهابيا وأنّ الشيطان هو الذّي جعله كذلك، فليكن، فالأمر لا يغيّر من التفاضل شيئا، لأنّ الإرهابي لا يجرؤ على الرفض سواء كان من دفعه للقتل إماما أو شيطانا ماكرا.
الغريب أنّ الإرهابي يعترف بقدرة الله وقوّته، ثمّ يفعل ما يفعل باسمه، وكأنّه لا يثق في قدرته وقوّته، فلا يترك له شيئا يقوم به، فيُعطّل بما يفعل الخلق ويحلّ محلّ الخالق. لقد قال ابن سينا في ما مضى: "بلينا بقوم يظنّون أنّ الله لم يهد سواهم" ولكنّي أقول لفيلسوفنا: "أمّا نحن فقد بلينا بقوم يضنّون على الله أن يهد سواهم"، و الفرق بين قوم ابن سينا ومن بلينا بهم هو أنّ عيب قومه الغرور و الكبرُ و عيب قومنا الجهل والجهل به وادعاء الأحقيّة بالخلق والهداية...فلم تعد الهداية في زماننا و عند من تعفّنت هويّاتهم من صلاحيّات الخّالق بل من صلاحيّات بعض الخلق أو الخلائق او الخليقة.
عندما يصيب "التعصّب العقل بالغرغرينة " على حد عبارة فولتير، تصاب الهويّة بمرض عضال، يستعصي علاجه، الأمر الذّي يدعونا للتفكير جيّدا في أولئك الذّين حاولوا الالتحاق بسوريا، أو أولئك الذّين عادوا أوسيعودون، لأنّه لا تكفي القوانين لردعهم، " فهؤلاء الأشخاص على ثقة –على حدّ عبارة فولتير- أنّ حماسهم هو القانون الوحيد الذّي عليهم الإنصات إليه. بم نجيب إنسانا يقول لك أنّه يفضّل طاعة الإله على طاعة البشر وهو بالنتيجة واثق من جدارته بدخول الجنّة بذبحك؟". والهويّة إذا تعفّنت يصعب علاجها، والحلّ لا يكون بقتل القاتل، لأنّنا بذلك نفعل ما يفعلون، ولا يكون بتركه والثقة في إمكانيّة علاجه، وإنّما بعزله شأنه شأن مجانين المدينة. كما أنّ الحلّ لا يكون في الأعراض و الأمراض وإنمّا في الأسباب التّي وفرّت الشروط الموضوعيّة والماقبليّة، فبدل مواجهة المتعصّب علينا أوّلا مواجهة التعصبّ، وقبل مواجهة الإرهابيّ علينا القضاء على الشروط التّي تصنع الإرهاب.
لعلّ هذا ما يفسرّ حاجتنا اليوم لمراجعة فهمنا لذواتنا ولهويّاتنا، فهذه الوقائع الكارثيّة التّي تصيب مدينتنا تدعونا إلى إعادة النظر في مسألة الهويّة ، بعد أن أمست أداة قتل حبّا في الإله، و تدعونا للبحث عن أدوات فكّ الربط بين الهويّة والعنف من خلال الدفاع عن هويّة مُركبة، "متعددّة" الأبعاد  لا تختزل في بعد دينيّ أو عرقي أو قوميّ أو جغرافيّ... و"منفتحة" على الآخر  الذّي ليس هو ذاتا قبالتي بل هو مكوّن من مكوّنات الهويّة ويسكن في أعماقها، و"تاريخيّة" لا تُختزل في مجرّد انتماء قدريّ حتّمته الظّروف بل هي صناعة وإنشاء، لا تكفّ عن التحّول والتبدلّ والتشكّل.   والتراث يبقى مع ذلك تأكيدا للهوية، ولكنّه ليس حقيقتها النهائيّة، لأنّ الهويّة في الأصل رفض لكلّ النهايات. المشكل يكمن إذا في طبيعة تعاملنا مع هذا التراث، و طريقة تصرّفنا مع الذاكرة، لأنه حسب شكل التعامل و حسب طريقة التصرفّ  تتحددّ الهوية، و تتغيرّ من معناها البسيط والمنغلق ، إلى معناها المركب والمنفتح  أي من معنى الذاكرة الرافضة لمنطق التاريخ إلى معنى الذاكرة التاريخيّة.
وتصبح التعددية أحد أهم خصائص الهوية، هوية كونية داخل كل الهويات وخارجها ، هوية مركبة ، علاقتها بماضيها وحاضرها ومستقبلها مبنية على غنى تعددي لا محدود، تتجاوز كل الحدود الجغرافية والسياسية وكل التقسيمات الدينية والعرقية والمذهبية والاثنية .
تكون الهوية مشكلا، لحظة يتم النظر إليها ككل مغلق ونهائي، أو حين يتم ربطها بالماضي، بالأموات. وتكون الهوية حلاّ لحظة تعترف بانتسابها للتاريخ أو تقرّ بأنها " ابنة التاريخ "، وأنها غير محكومة بالوفاء للأصول، بل إنها قد لا تعني أحيانا سوى ذلك التمرد الخلاق والمستمر على فكرة الأصل والنقاء الثقافي أو العرقي وفكرة الأفضليّة الدينيّة. ونحن في حاجة إلى نوع من الوعي يكون قادرا – كما يُلحُّ دائما على إثبات حماقة مُعتقد الآخر – على دفعنا ولو للحظة إلى التشكيك في إمكانيّة أن يكون ما نعتقد كذلك. وعليه فلا يكفي أن يكون المرء متديّنا حتّى يكون أخلاقيّا، فالأخلاق قبل الدين أحيانا، وعلى العكس إذا كان فعلك صالحا فأنت متديّن بالضرورة، بل ولا يعني تديّنك شيئا إذا لم تكن صالحا. وكلّ هذا رهين لا الفصل بين الدين والدولة فحسب، بل الفصل بين الدين والهوية، وهو فصل – على نقيض ما يعتقد بعض المتزمّتين-لا يضعف الدين بل العكس هو الصحيح، فحين يتحرر الدين من سيف الهويات المحلية والحدود الوطنية، يتحول إلى ما يجب عليه أن يكون: رسالة إلى البشرية، رسالة أساسها الأخلاق والكونيّة.
3-    الإرهاب وفخاخ العولمة:
لا يمكن أن يكون الكوني فضاء للعيش المشترك إلا إذا اعترفت الهوية بالطابع المركب الذي يحددّها ويميزها، لأن الهوية المركبة هي فرصة الإنسان الوحيدة للخروج من انغلاقه وللالتقاء بالكوني، وبفضل هذا الوعي يتّسع أفق الانتماء، إلى عالم الارض، حيث الفضاء الإنساني ككلّ وحيث الهوية الكوكبية. و لكن يقابل واقع الهوية العنيف أو إرهاب الهويّة، واقع كوني إيديولوجي هيمني أو إرهاب العولمة، ينتقل بنا من منطق الصراع الإيديولوجي إلى منطق الاختراق الثقافي . والعولمة من جهة الواقع ليس بمثل الصفاء والبراءة التي ترسم الكونيّ كمفهوم وكقيمة. ويُفهم الكوني الإيديولوجي على معنى كوني الهيمنة، هيمنة تتخذ من الكوني أداة لتحقيق الهيمنة، ليتحرّك الكوني بذلك ضمن أفق العقل الأداتي، أفق المصلحة و النجاعة بدل أفق الحقيقة والقيم، و بقدر ما تشتد أساليب الهيمنة العولميّة أو الكوني العولمي بقدر ما يشتدّ  إرهاب الهويّات القاتلة.
لأننا في ظل هذا النظام العالمي الجديد ندفع بالهوية، خوفا من التعفّن نحو هاوية التفكك و الاستلاب، ألا ينبغي أن يفهم من هذا أن تعفّن الهوية وتحوّلها قنابل عنقوديّة هو في الحقيقة رفض للتفسخ والاضطهاد، وأن عنف الهويّات القاتلة لا ينبغي أن يحمل على معنى رفض الكوني و إنما رفض كوني الهيمنة أو كوني الموت ؟ فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتجهز عليها ، وفي دائرة هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الفناء ، وترتضي التعفّن والتحجرّ والموت على التفكّك والذوبان. ومنطق الاختراق الذي تساهم العولمة في تكريسه ينتج إما إنسانا حسب مواصفات السوق غولا استهلاكيا يأكل و لا يشبع أو إنسانا بلا ذاكرة و بلا هوية.
 و بالفعل مع العولمة كل شيء يتسلّع، وذلك من خلال إعلان مُكثَّف و سماء تمطر صورا تعمل على بيع الأحلام ودغدغة المشاعر وإثارتها - في عالم محاصر بالرغبات- عن طريق مختلف أشكال الربط بين السلعة والصحة والجمال،  حتى الأوهام سُلعّت. يجد إنسان هذا العصر نفسه في عزلة، ومع الوقت تصبح هذه العزلة أحد مظاهر الأنانية المنبثقة من العولمة في مفهومها المادي ومرجعيتها الاقتصادية النفعية الجافة، التي تتعامل مع الفرد كذات مجردة، تائهة، مستسلمة للصورة، يهرب من الواقع ولا يتفاعل معه فيبتعد عن الواقع أو يبتعد الواقع عنه، أو يتم التفاعل مع الواقع بصورة مجردة ومبتذلة وسطحية، وهذا بيّن بخصوص واقع الإنسان العربي اليوم الذي إن لم تستقطبه قوى التطرّف والتعصّب، استقطبته قوى الهشاشة والتّفككّ والابتذاليّة.
لذلك ليس هنالك اليوم ضرورة أكثر الحاحا من ضرورة الدخول في صراع حقيقي لا يقطع مع العولمة، وإنما يقطع مع ما يكون ضدّ الإنسان وضدّ قيمه وحقوقه الكونيّة، أو ما يكون ضدّ هذا الكوكب الذي بدت بعض الفواجع الطبيعية اليوم تعبرّ عن سخطها من الإنسان، ضرورة ملّحة تدعونا للوقوف في هذه المسيرة الصراعية مع عالمية المبادئ ضد عولمة المصالح أو مع أنسنة العولمة ضدّ عولمة الإنسان.

 في ظلّ ما اقترن به واقع الاختلاف من صراع أو صدام وعنف مورس تحت شعارات مختلفة، فحرب الآلهة أو الحرب باسم الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق واليمن وسوريا، أو من أجل نشر قيم الحق أو الدفاع عن الكرامة الإنسانية أو باسم مقاومة الإرهاب. وأمام الفتن التّي تعصف وتدمرّ على وقع الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة الخانقة في تونس، وأمام واقع الإرهاب الذّي أصاب مدينتنا الحزينة اليوم، فمن الطبيعي أنّ نتوقفّ لنسائل ماضينا الفكري والثقافي ممثّلا في واحد من أبز أعلامه ألا وهو ابن رشد، لنبحث عن الأدوات التي استخدمها هذا الماضي لمواجهة ما نواجهه اليوم، لأنّ الأمم والشعوب الجديرة بالحياة، هي تلك التّي تعرف كيف تحوّل نكباتها إلى فرصة للتأمّل والتفكير في المسار والمصير،  وابن رشد بالذّات دون غيره لأنّه امتلك في ما مضى الشجاعة التّي نحتاجها اليوم، عندما وجّه سلاح النقد للطرق الكلاميّة والحشويّة، أو لطريق أهل الظّاهر، أو الطرق الصّوفيّة، ولأنّنا نلمس اليوم هذا التشابه الغريب والمحزن، بين المعطلاّت التّي نواجهها والتّي واجهها ابن رشد، فكما اهتزت بالأمس مدينة فيلسوف قرطبة، تهتزّ اليوم على وقع الإرهاب مدينتنا، ولكن بصورة أكثر عنفا وتعفّنا ودمويّة.
أمام هذه الوضعيّة القديمة الجديدة التّي يصفها ابن رشد وصفا نعتقد أنّه لا يزال راهنيّا وصادقا إلى اليوم:" بأنّ النّاس قد اضطربوا كلّ الاضطراب في هذه الشريعة، حتّى حدثت فرقة وأصناف مختلفة، كلّ واحد منهم يرى أنّه على الشريعة الأولى وأنّ من خالفه إمّا مبتدع وإمّا كافر مستباح الدم والمال".

لم ينزو فيلسوف قرطبة على نفسه ولم يكتف بمجرّد التنديد واللعن مثلما نفعل اليوم، بل نهض كمثقّف مُلتزم يتقدّم أمّته ليواجه أهل المدينة بشجاعة وجرأة، ونحن عندما نستحضر أيّ شخصيّة تاريخيّة لابدّ لنا من أن نتعلّم منها كيف نُفكرّ، لا أن نتركها تُفكّر بدلا عنّا، لأنّ مشاكل مدينتنا ليست هي ذاتها مشاكل مدينته، ولأنّ متصوّفة زماننا أخطر من متصوّفة عصره. ولآن أهل الصوفيّة كانوا أهون من "زنابير هذا الزمان" وبعض الحركات الاسلاميّة اليوم، التّي يلتصق المتديّن فيها اليوم بالماضي، حتّى أصبح الماضي يختزل في قميص وسروال، أو في برقع ونقاب، زنابير لا تنتج فكرا أو علما، بل تنتج دما وموتا عنيفا.

 وعلى هذا الأساس يظلّ الموقف ثابتا في نهاية المقال كما في بدايته، يفقد كلّ فعل إرهابي أو فعل فاسد وعنيف كلّ المسوغات التّي تبررّه أو تشفع له، وحتّى العولمة التّي لم تكن تشكلّ في عصر ابن رشد تهديدا، في الوقت الذّي تشكلّ فيه اليوم تهديدا حقيقيّا للكيانات الثقافيّة والهويّة، لا يمكن اعتبارها السبب الذّي ضدّه كان الإرهاب، بل يمكن اعتبارها الوجه الآخر له. وإن كان من السهل توجيه مسؤوليّة الإرهاب للعولمة أو للشيطان، خاصة حينما يكون كلاهما مشتبه به، وخاصة إذا اعتبرنا الإرهاب " في قلب الثقافة التّي تحاربه"، فإنّه من الأجدى أن نواجه العيب فينا قبل انّ نوجّه اللّوم لغيرنا، وأن نعتبر أنّ الحروب التّي تقوم بها الديانات التّي تعفّنت فيها هويّاتها أو "الديانات القاتلة" والتّي لا علاقة لها بالديانات السماويّة  هي حروب  من صنع الإنسان ضدّ الإنسان، و ضدّ حقوقه، وضدّ السماء ومن فيها، والأرض ومن عليها، وبقدر ما يدّعي الإرهاب أنّه رفض للعولمة هو كذلك رفض للكوني وللحياة، ولإمكانيّة العيش المشترك في ظلّ حضارة عالميّة تتسع لجميع الثقافات، بل هو في الأساس يأس من الكوني ومن الحياة، فأولئك الذّين يراهنون بإرهابهم على الموت، يعتقدون في كوني يسكن في السماء، أكّد الإمام خلفهم وجوده، ووعدهم بالجنّة والخلود، ولو كان الأمر كما يقول، لبادر بالذهاب قبلهم، ولكنّ كلّما ازداد المتطرّف غباوة، ازداد يقينا بأنّه على صواب، وكلّما ازداد يقينا سارع بتفجير نفسه وقتل غيره، إذ بين صنع الغباء وتفجير الهويّات العنقوديّة، برهة من الزمن حتّى يكون الموت. ومع ذلك يبقى الأمل في الإنسان والإنسانيّة قائما، فالحياة لا تستقيم لولا فسحة الأمل والتفاؤل، وسيكون بعد الغد أمل ينتظر ، بفضل إرادة الإنسان ووعيه، وسينتصر على قوى الموت والإرهاب، ولكنّ  حتّى لا يكون الأمل وهم انتظار بلا معنى، يجب أن يكون للّراهن رهانات تجعل الأمل في الغد أو ما بعده ممكنا، وأوّل الرهانات وأهمّها، التربية بشكل عام، لأنّ التربية الوحيدة القادرة على الفعل في الذّات في البدء، وعلى مغالبة الأهواء، والتحصّن من التعفنّات، التربية على المواطنة، التربية على حقوق الإنسان، التربية الموسيقيّة والفنيّة، والتربية الفلسفيّة، لأنّه " لا دواء لهذا الوباء الجائح غير الفكر الفلسفي، الذّي بفعل انتشاره شيئا فشيئا، يلطّف في النهاية طبائع النّاس ويتقي منافذ الشرّ" على حد عبارة فولتير.

 الصّحبي بوقرّة
 مُبرّز في الفلسفة
 متفقدّ بالمدارس والمعاهد