العدالة عند باسكال: القوة (ملكة العالم)، و المخيلة ، و العادة ـ حميد الساكر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse15047من النافل القول بادئ ذي بدئ، أنه لا يمكن أن نفصل الآراء السياسية لباسكال عن سياقها التاريخي_السياسي الذي أنشأها، و تأسيسا على ذلك، سنعمل في الجملة الأولى من هذا القول على استعراض هذا السياق، على أن نتحرى في ذلك أوجز القول و أخصره، لنصرف الاهتمام في الجملة الثانية لاستعراض آراء باسكال السياسية من خلال "الخواطر"، و المرتبطة هاهنا بالمفاهيم السالفة الذكر، على أن نعمل في الجملة الأخيرة على بلورة خلاصة ممكنة لهذا القول.
 إذا كانت الحرب المدنية هي أسوء المآسي بالنسبة لباسكال، فذلك يمكن أن يرد ، بشكل جزئي، إلى أن أحزمة البنادق قد احتدمت ما بين (1648-1652 ) ،كما أنه إن كان يدافع بمرارة عن الأخلاق المسيحية، فلأن " لويس 14" ، بدعم اليسوعيينJésuites، حارب "بوررويال" الذي كان يُتصور كمكان للنقاد وللعداء، و للاستقلال المطلوب ضدا على سلطته الشخصية المطلقة.[1]
من جهة أخرى، هناك كتابين اثنين أثرا بشكل كبير في باسكال: " المحاولات"Essais" لمونتين، و بالخصوص[ " الدفاع عن "وريمون سبوند"Raymond Sebond ]، و" مدينة الله" للقديس أوغسطين. الأول، يذهب إلى أن القوانين و العادات هي نسبية و مستقلة عن كل عقلانية، ذلك أن " مونتين" يندرج ضمن تيار الشكوكيين الجدد « Néosceptique »لعصره، الذي يعيد التساؤل حول الوصية الأرسطية، المتمثلة في  اكتشاف عالم جديد و حروب الأديان[2]، أما الثاني؛ فيعيد فكرة أن المدينة الحقيقية الوحيدة هي المدينة المسيحية، أي مدينة الله.


هاته الحزمة من الأسباب و من التأثيرات دفعته إلى القيام برفض ساخر "Cynique" لكل سياسة عقلية، فهذا التصرف الشكوكي بالضرورة لا يمنعه بقدر ما ينشئ نظرية سياسية، ضد أو رغما عن كل عقلانية،  حيث نجد في "الخواطر " جانبه المحرض، أي  فكرة أن العالم هو:" مستشفى المجانين"[hôpital  de fous][3]، في  سياق  حديثه عن كتابات كل من أرسطو و أفلاطون في " السياسة" و " الشرائع"، فالإنسان مُفسَد بالخطيئة الأصلية، و هو لاعقلاني و غير قابل التعقل déraisonnable، و تبعا لذلك فالعدالة متعذرة الحصول بالنسبة إليه.
توجد عدالة بالذات و التي لا يمكن للمرء أن يكتشفها، و لا تنشأ إذن هاهنا في المجتمعات، وكل ما يمكن أن ننشئه هو فقط ما يمكن أن يسميه المرء"حكمة " maxime" ، ذلك أن "الأعم لكل تلك التي تكون  بين الناس"، أي حكمة  من رتبة ثان، و الغالب حول حدود موجود سلفا، و فهي ليست كونية و لكنها ضرورية.
 إن التمسك بالتقاليد بالنسبة لباسكال يكمن في نقده الشكوكي للقانون الطبيعي[4]، حيث أنه، حتى إن وجدت قوانين طبيعية كونية في الواقع الإنساني، فهذا لن يكون إلا نتيجة الصدفة، إذ أن الصدفة وحدها، باعتبارها تعارض هاهنا العقل، تزرع القوانين، حيث لا توجد هناك إذن أية طريقة لتأسيس القانون في العدالة: القانون العادل هو وهم، و كل قوة هي قبل كل شيء اغتصابUsurpation .
و تأسيسا على ما أسلفنا ذكره، لا تكون العدالة  صالحة  إلا  بالاتفاق أو  العادة، فالأكثر يقينا  بالنسبة للناس المحكومين بالعيش في منزل المجانين هذا، هو التمسك بما  هو موجود سلفا، حيث أنه بواسطة هذه العادة المحافظة، التي ترفض الفوضوية جذريا،  يمكن للناس تجنب الحرب المدنية و المحافظة على السلم، الذي هو" الخير الأسمى". [5]

علاوة على أن طول عمر قانون ما ليس حجة على أنه أكثر عدلا، أو يقترب أكثر من العقل من قانون آخر، فهو لا يجني أبدا أدنى حكمة  من خلال الاستعمال، أو بإثبات أنه أكثر فعالية من غيره في تنظيم رغبات و أهواء الناس، حيث أننا داخل المجال الخاص للفعل، بدون إمكانية تؤدي إلى القانون. وتبعا لذلك فإن سن عدالة إنسانية، غير كاملة دائما و لكنها ضرورية، داخل المجتمع من أجل حفظ السلم المدني، هو في حاجة إذن، إلى التأسيس على الرغبات و الأهواء الإنسانية الأكثر تطرفا، من أجل كسب بعض الفعالية: المخيلة و القوة هما ضامني العدالة الاجتماعية.

إن " المخيلة هي ذلك الجزء الخداع في الإنسان[...]، مربية الخطأ و الكذب هاته[...] هذه القوة الجميلة عدوة العقل، التي تحب السيطرة و الهيمنة عليه لتظهر مبلغ اقتدارها في كل شيء[..] وهي التي تجعلك تؤمن و تشك و تنكر العقل، تعلق الحواس، و تجعلها تحس".[6]
 فالمخيلة، بالنسبة لباسكال، مرتبطة بالجسد، و هذا الأخير هو مكمن الخطيئة، كما أن آثار المخيلة جد قوية، هذا ما فهمه الفاعلون السياسيون، الممسكين بالأجهزة التنفيذية و القضائية، و اللذين طوروا ببراعة التقنية السياسية لتطبيق الصورة الجسدية. حيث  يستعملون كل الوسائل في خدمتهم من أجل ضرب مخيلة الشعب، إذ أن تمظهر قوتهم يعوض  بشكل مفيد شرعيتهم:

" قضاتنا عرفوا جيدا هذا النظام، أزيائهم الحمراء، فرائهم[...][7] .
 وفي ما  يجري مجرى هذا الكلام، يمكن أن نستحضر أن السمة الأساسية للتعقل هي أن يحاول فهم ماضي الوضع الوقائعي وحاضره في مسار الترابط العلاقي للوقائع، لكي يمدد، من خلال عملية إسقاطية نحو مستقبل ذلك الوضع الوقائعي، وكأن العقل يقوم بعملية تنبؤ سابقة لأوانها. و لا يمكن أن تتم هذه العملية دون تدخّل الخيال. وهذا يعني أن التعقل ليس فاعلية لكيان مفترض مستقل يدعى عقلاً؛ إذ إن هذه الملكة غير مستقلة عن المناخ الثقافي الذي تنحت في أحضانه مكوناتها في حدود معينة. لعله في حالات معيّنة لا تتدخل الصور في تكوين العبارات والأحكام؛ لكن الصور والكلمات والعبارات مترابطة ملتحمة من حيث المبدأ، وتفعل كلها في نسيج شبكات مهفومية وفي تكوين نماذج قصد اصطياد أطراف العالَم واكتشاف ترابطاتها" .[8]

و يذهب باسكال إلى أن رجال الحرب هم الوحيدون الذين لا يحاربون  من أجل الفوز بالعظمة ، أي أنها لا تمثل مسعاهم الأقصى لأنهم يستعملون القوة، أما الملوك فهم مدعومون بالاثنين: العظمة و القوة، يقول باسكال:
" ليس لديهم لباس  فقط، لديهم القوة" [9].
فالقوة في الواقع، هي الضامن الآخر الضروري و الذي لا غنى عنه للعدالة: إذا كانت العدالة و القوة متنوعتان، فيجب مع ذلك ربطهما لأن: " العدالة بدون قوة ضعيفة، و القوة بدون عدالة مستبدة".[10] وعلى أساس هذه النتيجة يؤسس باسكال برهانه، الذي يقود  إلى البديل التالي : يجب " أن يكون ما هو عادل قوي، أو أن يكون ما هو قوي عادلا".
_الحل الأول يحيل على ما يسميه المرء اليوم " الجهاز القمعي للدولة"[l’appareil répressif d’Etat]، أي وضع نظام قمعي في خدمة العدالة( الجيش، الشرطة، المحاكم ...).
و لكن هذا الحل غير صالح لان للقوة تفوقا كبيرا على العدالة، فهي واضحة و لا تناقش، و لا يمكن أن تؤدي إلى الحرب المدنية.( يجب التذكير هاهنا، أن حروب الدين هي أحيانا نتائج بشكل مباشر للخلافات[Controverses].
و تأسيسا على ما أفردناه، فالخلاصة الوحيدة الممكنة هي: " لا يمكن تقوية العدالة، برر المرء القوة، من أجل أن تكون القوة و العدالة معا، و أن يكون السلم، الذي هو الخير الأسمى"[11]، ذلك أن العدالة الوحيدة داخل المجتمع البشري، هي عدالة مؤسسة باتفاق خالص، وحسب تقنية تنطوي على قوة الصورة و المخيلة، هي إذن، وفي الواقع، عدالة الأقوى. عدالة التأسيس هاته مبررة باستحالة حصول الناس على العدالة الحقيقية، عدالة الله، إذ أن العالم الإنساني هو، بسخرية و تراجيدية، مكان القوة السخيفة: القوة هي "ملكة العالم، لا الرأي[12]".
و هذا هو تقريبا نفس  الطرح الذي  يذهب إليه "ثراسيماخوس" في كتاب "الجمهورية" ، ذلك أن العدالة  هي تحقيق مصالح الأقوى، بمعنى أن العدالة بالنسبة لجميع المجتمعات هي عدالة الأقوى، أي  الحكم القائم، ما دام أن الحكومة هي  الأقوى:
" فقال: إذن فأصغ إلى...إني أعلن أن العدالة ليست إلا صالح الأقوى"[13].

   فالحكومات تقوم بوضع القوانين لصالحها، وبذلك فما هو مشروع عادل بالنسبة للرعايا، و أي خروج عنه هو خروج عن العدالة و القانون. وهذا ما قد ينم، إلى حد ما، أن باسكال قد قرأ كتاب جمهورية أفلاطون و تأثر بالأفكار السياسية التي يناقشها، و خاصة تلك المتعلقة بالعدالة.

[1] Magali Bessone, LA JUSTICE, GF Flammarion, paris, 2000. p.61.
[2] Ibid, p. 61.
[3] Pascal, Pensées, Texte établi par Léon BRUNSCHVICG, GF, Paris, 1976. Pensée [331_ 533], p .144.
[4] Magali Bessone, LA JUSTICE, GF Flammarion, paris, 2000. p. 62 .
[5] Pascal, Pensées, Texte établi par Léon BRUNSCHVICG, GF, Paris, 1976. Pensée [299-81], p .138.
[6] Pascal, Pensées, Texte établi par Léon BRUNSCHVICG, GF, Paris, 1976. Pensée [44-82], p .72-73.
[7] Ibib. p .74.
 [8]    أ.د. بنّاصر البُعزّاتي، ’تداخل التعقل والتخيل‘؛ ضمن: يكوّن المعارف (دور القياس التمثيلي)، تنسيق د. بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات رقم 117، ط1، 2005، ص 33-55، ص ص 39 40.
[9] Ibib. p .75.
[10] Ibib. p [103-298] .p .137.
[11] Ibid.
[12] Ibib. p [554-303] .p .138.
[13] أفلاطون، الجمهورية، دراسة و ترجمة د.فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر، الإسكندرية، مصر،2004 ، [338]، ص 191