مفهوم الحقيقة عند تشالز ساندرس برس : الحقيقة المجتمعية ـ مفتاح محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse08049تمهيد :
حينما يريد الباحث أن يشخص مفهوم الحقيقة عند ش. س. برس فإنه يقع في مسالك ضيقة نظرا لأن هذا المنطقي والرياضي والميتافيزيقي متعدد الأبعاد متنوع التفكير كثير الكتابة، فإذا أجمع الباحثون على أنه أهـم فلاسفة أمريكا في العصر الحديث، أو على الأقـل من أهمهم فإنـهم لا يتفقون في تشخيص آرائه وإثبات تماسكها وانسجامها.
إلا أن ما كاد الرأي يستقر عليه هو أن برس تَبَنَّـى موقفا نقديا مناوئا للميتافيزيقا التقليدية، وأنه هو مؤسس المذهب الذرائعي أو الذرائعاني، وخصوصا في أعماله الأخيرة، مع التنبيه إلى أن تحقيب تفكيره يختلف من باحث إلى آخر. على أن كثيرا من الآراء تميل إلى أن برس يتميز تفكيره الذي صاغـه فيما بعد 11907عما قبل هذا التاريخ، وما دام إشكالنـا هو البحث عن الموقف من ميتافيزيقيا الحقيقة فإننا سنَتَبَنَّـى هذا التقسيم. وسندعو المرحلة الأولى بالاسمية، والمرحلة الثانية بالواقعية مع التسليم بامتداد تفكير المرحلة الأولى في المرحلة الثانية.
I ـ المرحلة الاسمية
يمكن اعتبار هذا التحقيب قسمة كبرى يحتوي كل طرف منها على حقب صغرى. وهذا ما فعله كثير من الباحثين. ولـهذا رصدت ثلاث حقب أساسية :
1 ـ الحقبة الأولى:
الحقبة الأولى هي الكانتية (1855 ـ 1870) حيث راجع فيها المقولات الكانتية مثل العلاقة والكمية والكيفية، والجهة، وهي مقولات مستمدة من المنطق الأرسطي القديم، وهي تتشاكل مع الكلية، والإثبات، والجزم، والإمكان. ولكن مراجعته بقيت ضمن الإطار المنطقي الأرسطي فأبقى على مقولة العلاقة ومقولتي جهتي الإمكان والضرورة، ومقولة الشـيء في ذاته، ولكنه رفض مقولة الجزم، ومهما يكن فإن "كانت" مـن أهم المؤثرين في برس الذي كان يخصص ساعات عديدة مدة سنـوات لمدارسة نقد العقل الخالص، حتى كاد يحفظه2.وتبنى أطروحة "كانت" المركزية التي تدعي: أن "وظيفة الوعي هي اختزال تعدد الانطباعات الحسية إلى وحدة"3.

2 ـ الحقبة الرياضية المنطقية :
تتلو هذه المرحلة مرحلة العلائق (1870 ـ 1884 أو 1887). وقد تأثر فيها بالمنطقي "دومركان" De Morgan الذي كتب مقالة سنة 1866 حول منطق العلاقات مقترحا فيها قائمة جديدة للمقولات. وقد بعث "دو مركان" بـها إلى برس فكتب من جرائها مقالة حول وصف ترميزي للمنطق العلاقي، كما تأثر فيها بالرياضي دو بوول De Bool. وقد تجلى تأثر برس في إقامة فلسفته الميتافيزيقية ومنهاجيته الدليلية على مقـولات ثلاث أو على علاقة بين أطراف ثلاثة. وبناء على هذا التأسيس فإنه لا يمكن أن تفهم أية ظاهرة ضمن حد واحد أو حدين، أو ضمن أربعة حـدود، وإنـما في إطار علاقة بين الأطراف الثلاثة. ولذلك، فإن ما دون الثلاثة يجب أن يصير إياها، وإن ما فوقها يجب أن يختزل إليها4.والمهم أن هذه العلاقة الثلاثية المنطقية والرياضية تأسست عليها فلسفة برس الميتافيزيقية ومنهاجيته الدليلية والعلمية.
3 ـ الحقبة التطورية :
إلا أن برس لم يقف عند العلائق المجردة، وإنما منحها مستندات تطورية وتأسيسات ظاهراتية (1887 ـ 1907). ويرى بعض الباحثين أنه أنفق من حياته ما يقرب من ثلاثين سنة لإنجاز تصور انتظام كوني (كوسمولوجيا) يرى أن العالم سيرورة متصلة نحو الانتقال من العماء إلى النظام، ومن لعبة المصادقة إلى قاعدة5القانون. ومن الذين تأثر بـهم الطبيعانيون الذين من أشهرهم Agassiz, Louis وخصوصا كتابه محاولة في التصنيف (1867)، ولـهم أطروحاتـهم في نشأة الكون وتكون المخلوقات، كما تأثر بالنظرية التطورية بصفة عامة6.وما يهمنا في هذا الصدد هو تأثره بالنـزعات التطورية المختلفة التي انعكست في فلسفته الميتافيزيقية وفي دليليته. ويجده القارئ يناقش هيجل وشيلينغ رافضا الأفكـار المجردة والمنهاجية الجدلية، ولكن في الوقت نفسه يأخذ بمثالية موضوعية ترى أن نسق الطبيعة مساوق لنسق الأفكار7،والحق أن مسألة المساوقة ضاربة الجذور في الفكر البشري منذ مثالية أفلاطونية إلى الواقعية المدرسة فإلى الواقعيات الجديدة ؛ ومن ثمة فإن هناك مساوقة بين الإدراك البشري وبين الموجودات ذلك أن "كل شيء يقدم لنا هو تمظهر ظاهراتي لذواتنا"8.
II ـ المرحلة الواقـعية
تلك هي حقب المرحلة الاسمية التي اعتمدت على الفلاسفة المثاليين والـمُتَدَيِّـنين، ولعل الفقرة التالية تعكس ما قدمناه، يقول : "الكون علامة هائلة، ورمز عظيم لقصد الله يصنع خلاصاته من الواقعات الحية"9،و"الكون الشامل ليس كون الموجودات فقط، ولكنه هو الكون الشامل كله المحتوي على الموجودات باعتبارها جزءا،أي ذلك الكون الذي اعتدنا أن نحيل عليه باعتباره "حقيقة"، كل هذا الكون متشرب بالعلامـات، إذا لم يكن مركبا بصفة خاصة منها"10.
1 ـ حقبة الإرهاصات الواقعية :
قد يفهم مما تقدم أن النـزعة المثالية كانت هي المهيمنة على توجهاته الميتافيزيقية والدليلية رغم حديثه عن العادة وتحولاتـها وعـن دور المعتقدات والمقاصد والغايات في كتاباته سنة 1877، و 1878، و 1900، أي أنه بقي محصورا في نطاق الحديث عن العلامة التي تتولد منها العلامة ؛ أي في إطار الأقوال لا الأفعال، وقد يفهم آخرون أنه كان واقعيا منتقدا للفكر الميتافيزيقي منذ بداياته الأولى. ولكل من الفهمين أدلته في كتابات برس. وللخروج من هذا المأزق يجب افتراض تحقيب آخر لتطور فلسفة الرجل. والتحقيب الإبستمولوجي المقترح هو ثلاث حقب، أولاها حقبة مثالية (1839 ـ 1877)، وثانيتها حقبة مشوبة بالمثالية والواقعيـة (1877 ـ 1907)، وهي التي وقع فيها الانتقال من الشكلانية الكانتية نحو الذرائعية والطبيعانية والتجربانية، وثالثتهاحقبة واقعية11.
2 ـ الحقبة الواقعية :
إذا كانت الحقبة الوسطى مشوبة أو متشربة للمفاهيم الكانتية، ومنها الذرائعية، فإنها تشربت أيضا بالطبيعانية التي كان يمثلها أكاسّـيز Agassiz، وبالتطورية الداروينية. وكان لـهذه النـزعات العلمية أكبر الأثر في الحقبة التي أسميناها بالواقعية ؛ وهي حقبة تمتاز بنقد الميتافيزيقا والقضايا التي تتحدث عنها فرأى أنـها غير ذات معنى وعبثية، وتمتاز بتطويره للمنهاجية الذرائعية التي تبناها منذ سنة 1878 في مقالته الشهيرة : "كيف نجعل أفكارنا واضحة"، ووصل التطوير أوجه في سنة 1907. إذ يمكن اعتبار هذا التأريخ بمثابة قطيعة مع الاتجاه المثالي السابق12.
يظهر من أقواله عن الذرائعية أنه حافظ على معناها الكانتي الذي هو الفعل أو العمل، ومن ثمة أقام ترابطا بين المعرفة العقلية والغاية العقلية، ومن ثمة فإنـها أيضا "ليست مذهبا ميتافيزيقيا وليست محاولة لتحديد حقيقة ما للأشياء،ولكنها مجرد منهاجية لتحقيق معاني الكلمات القوية ومعاني المفاهيم المجردة"13.ولتحقيق هذا ‏‏التحديد فإنه اقترح قواعد تقوم على الـهدم والبناء ؛ يتعلق الهدم بالمسائل الفلسفية المزيفة، وبإبعـاد المسائل الميتافيزيقية، وأما البناء فيتجلى في اقتراح حلول للمسائل الفلسفية "الحقيقية" بالمناهج التجريبية المعتمدة على الملاحظة والاستقراء، ووسيلة الهدم والبناء هي تحليل المفاهيم الثقافية والعلمية، وهكذا حللت بعض المفاهيم العامة مثل المؤول إلى مفاهيم خاصة واقعية تقابل المفاهيم المجردة، أو توازيها. إن "المؤول الذي كان عبارة عن تحديد مجرد أنتجته علامة استبدلت به تعديلات متنوعة ناتجة عن استجابات عادية"14.
III ـ تجليات المرحلتين
1 ـ فرضية الاتصال :
يقرر كثير من الباحثين في فكر برس أنه كان ينطلق من فرضية أساسية هي : "اتصال الكون"، وهي فرضية تستلزم نتيجة طبيعية هي "انتظام الكون"15.وهذه الفرضية ليست من اختراع برس لأنـها قالت بها كثير من التيارات الفكرية القديمة والمعاصرة، وخصوصا الأفلاطونيات والفيتاغوريات. وقد يفهم من هذا أن برس فيلسوف اسماني بالضرورة. ولعل هذا ما يستشف من كتاباته الأولى ولكن كثيرا من كتاباته الأخيرة تبين أنـه صار فيلسوفا واقعيا وذرائعيا. ومع ذلك، فإنه يمكن القول: إنه حافظ على الفرضية ولكنه تخلى عن أبعادها الاسمية فجعلها مجرد افتراض تشييد علائق وترابطات واتصالات. وهذا ما أكده بعض الباحثين ومنهم ماكس فيتش Max Fish حينما قال: "الترابط ليس مذهبا ميتافيزيقيا مطلقا ونـهائيا، ولكنه مبدأ منطقي منظم معين لصنف الفرضية التي يجب أن تعالج"16.قد يفهم من هذه القولة أن برس لم يتأثر بالكسمولوجية الأفلاطونية وفرضياتـها، وإنما تأثر بإجراءاتـها الرياضية، وليس هذا صحيحا بإطلاق.
إن ما يهمنا هو أن مفهوم الاتصال، ومفهوم الانتظام ومفهوم الترابط يستند إلى تصور كسمولوجي معين يرى أن أي شيء يمكن أن يُـجَزأ بحسب مرتبته ومنزلته في النسق العام. وتبعا لـهذا يمكـن البداية من المجرد والانتهاء بالمحسوس، وهذا هو شأن الميتافيزيقا القديمة : الوجود المجرد والوجود في عالم الأذهان والوجود في عالم الأعيان، أو "عالم" الشـيء في ذاته، وعالم الظواهر؛ وإذا تبنى هذه المفاهيم فإنه بـدأ بالمحسوس وباليومي المستند إلى الإدراك الإنساني وإلى دور المجتمع والتراضـي في قبول الأشياء الحسية والمعنوية وإن انتهى إلى نوع من المطلق.
ميتافيزيقا برس تجمع بين ما في الأذهان وبين ما في الأعيان، وبين ما في الأذهان وبين ما في الأبدان ؛ وهذا الجمع هو ما أطق عليه بعض الباحثين اسم المنهاج الظاهراتي الذرائعي، فهو ظاهرتي من حيث إنه يَعْتبر الظاهرة بأنها هي كل ما هو حاضر في الذهن بطريقة مّا أو بأي معنى دون اعتبار ما إذا كان مناسبا لشيء واقعي أو غير مناسب له، وهو ذرائعي من حيث إنه يتخذ الغاية والمنفعة والعادة والمجتمع منطلقات لخلق الرموز والقوانين ؛ فهذه المنهاجية، إذن يمتزج فيها الفكري بالواقعي والتأملات الذهنية بالملاحظة المباشرة الأمنية المستمرة.
2 ـ فرضية الاقتطاع :
في إطار هذه النـزعات المثالية الأفلاطونية والمثالية الخالصة، والمثالية الوضعية، والطبيعانية والتطورية والتصورات العلمية التجريبية والواقعية اليومية فإننا سنتابع تقطيعات برس للوجود من حيث جهاته ومراتبه، ومراتب علاماته، ومراتب تأويلها، ومراتب طرق الاستكشاف، ثم من حيث البحث عن إقامة توازٍ بين ما وراء الطبيعة وبين الطبيعة.
أ ـ جهات الوجود :
1 ـ الأولانية :
انطلق برس في تقطيعاته لجهات الوجود من تصور ميتافيزيقي ورياضي في آن واحد. التصور الميتافيزيقي يتجلى في البداية بالمجرد والانتهـاء بالمحسوس، وأما التصور الرياضي فهو الابتداء بالصفر والاستمرار إلى مـا لا نـهاية، ولكن برس اكتفى بمراتب ثلاث بعد الصفـر ؛ ففي درجة الصفر ليس هناك شيء، وليس هناك داخل وخارج وقانون، وإنما هناك إمكانيات غير محدودة. وبعد الصفر تأتي مرتبة الأولانية، وهي وجود الشيء في نفسه مرتبط بشيء من الأشياء، ولكنه ممتد في الأشياء المادية17.أما الأولانية ـ إذن ـ تمثل الوجود الكيفي.
2 ـ الثانيانية :
حينما يتحقق الشيء ويصير موجودا فإنه من المرتبة الثانيانية لأن ما وجد وجد بارتباط مع شيء آخر. وما وجد بعلاقة الثانيانية هو مثل الفعل ورد الفعل، والضغط والمقاومة، وعلاقة الحال بالمحل، والصانع بالمصنوع، واللازم بالملزوم…، هو وجود يقابل العدم له داخل وخارج وقبل وبعد… إنه الوجود الفعلي المتجسد المرتبط بعالم الموجودات التي يترابط بعضها ببعض.
 
 
3 ـ الثالثانية :
ولا يكتسب الموجود هويته ووظائفه إلا بانتظامه وتبنيه من المجتمع الذي يجعل منه قانونا عاما ملزما؛ أي ثالثانيا، إن الثالثانية لازمة عن المرتبتين السابقتين، فهي تتويج لـهما أو قمة لـهما من جهة أو باعتبار، وهي مـن جهة ثانية أب لهما حيث يمكن التنقيص والضغط والإضعاف، أو التكبير والنشر والتنمية. ومن ثمة فإن كل ظاهرة تحتوي على الأولانية والثانيانية والثالثانية، وأغلب الثقافات الإنسانية هي إحدى درجتي الثالثانيـة. ولفهم هذه الدرجات يجب إدراكها في نسق كما يجب إعادة التضخمات إليه. الثالثانية نسق يتحكم في عناصره الموجودة ويستحضـر إلى الذهن ما غاب منها، والثالثانية ليست مفروضة من الطبيعة ولكنها فرضت على الطبيعة لتحديد اللامحدود كما فعل الأسلاف من الفيتاغوريين على الخصوص18.
ب ـ عناصر التدلال :
إن هذه الثلاثية الميتافيزيقية تضاهيها ثلاثية تدلالية، وهي تتكون من ثلاثة عناصر : هي الممثل والموضوع والمؤول. ويعثر القارئ على تحديدات كثيرة لكل عنصر من هذه العناصر، لكن النص التالي يقدم خلاصة ما انتهى إليه برس، يقول : "العلامة أو الممثل هو الأولاني الذي ينوب عـن الثانياني الذي يسمى الموضوع. والممثل يحدد الثالثاني الذي يدعى المؤول، وهذه هي العلاقة الثلاثية الأصيلة (…) وأي شيء يحدد شيئا آخر هو (مؤوله)، بحيث إن المؤول يحيل على موضوع، وهذا الموضوع يحيل بدوره على موضوع آخر بنفس الطريقة ؛ أي أن المؤول أصبح هو نفسه علامة وهكذا إلى ما لا نـهاية"19.إلا أن هذه القولة تحتاج إلى تفصيل وخصوصا فيما يتعلق بتراتبية العناصر. يمكن أن ينظر إلى مراتبها مـن جهتين : جهة التحليل وجهة التأليف. فمن جهة التحلـيل فالممثل ß المؤول ß الموضوع ؛ وأما من جهة التأليف الموضوع ß المؤول ß الممثل.
1 ـ تراتبية العناصر :
تلك هي عناصر التدلال، وهي عناصر يحتل كل واحد منها رتبة معينة في العملية التدلالية، إلا أن كل رتبة يمكن أن تدرج إلى ثلاث درجات من الوجهة الحسـابية الخالـصة مما ينتج عنه سبعة وعشرون درجة (33)، إلا أن برس لم يحقق هذا عمليا، فقد درج بعض الرتب ولم يدرج بعضا آخر. ومهما كان فلنذكر العناصر ورتبها ودرجاتـها إذا وجدت.
1 ـ الممثل، وله ثلاث رتب هي الكيفية والتفردية والقانونية.
2 ـ الموضوع وله ثلاث مراتب هي الأيقون والمؤشر الرمز، والأيقون ثلاث درجات هي : الأيقوم المطابق، والمماثل، والمشابه، والرمز درجتان :طبيعي وعقلي.
3 ـ المؤول وله ثلاث مراتب هي الحمليـة والقضوية والبرهانية؛ وقد درجت البرهانية إلى ثلاث، والقضوية إلى اثنتين.
يتبين من هذا أن هذا التراتب والتدريج منهما ما هو كامل ومنهما ما ناقص، ومنهما ما هو غير مذكور.
2 ـ التراتب الكامل :
ينطلق برس في بنية ثلاثية العناصر هي الأولانية والثالثانية إلا أنه يجعل الثالثانية هي المهيمنة في عمليات التوليد، ويجعل الثانيانية والأولانية منحلتين عنها. ويوضح هذا قوله: "افتراض شيء مَّـا يدور حول عنصر إدراكي معين تكمن فيه الفكرة بدون اعتبار لأي عنصر آخر"20.الثالثانية هي العنصر الإدراكي، وهو الذي يقع التوليد منه، وهذا يقتضي أن الأب يتحكم في الولد، والأكبر في الأصغر والمحسوس، والعام في الخاص، وقد أسمى هذه الثالثانية بالطبقة الطبيعية ؛ وما دامت كذلك فإنـها يمكن أن تتكون من ثالثانية أصيلة وثالثانية منحلة انحلالا قليلا، وثالثانية منحلة انحلالا كثيرا21،كما يمكن أن تنشطر الثالثانية إلى ثالثانيات على درجة واحدة من التكافؤ وكذلك في الثانيانيات والأولانيات22.
يشجع على هذا التأويل الذي اقترحناه ما نلاحظه من تماثل بين الميراث المنطقي وصنيع برس، التراث المنطقي يتحدث عن الأجناس العليا والوسطى والأنواع والأصناف، وتعكس هذا الترتيب الشجـرة الفورفورية، وبرس يستعمل الطبقات وشبع الطبقات، أو الأجناس والأنـواع والسلاسل23؛ومع وجود بعض الاختلاف فإن الآلة التصنيفية واحدة.
لنوضح هذا في خطاطات :
انحلال الطبقة الواحدة :
3
3
3
تكافؤ الطبقات :
3
3 3
3
الانحلال التراتبي:
2 2
 
1 1
 
3 ـ تصنيف التراتب الكامل :
إلا أن هذا التراتب لا يتم دائما بهذه الكيفية والخطاطة وبين عناصر محدودة، ولذلك يجب أن يرصد بين الطبقات جميعها حتى تتبين قيود الترتيب ومظاهر الانحلال والتنامي، لـهذا نقترح الخطاطة التالية :
أ- قيود الترتيب:
جهات الوجود
جهات التدلال    الأولانية
1    الثانيانية
2    الثالثانية
3
الممثل
1    الكيفية
1 . 1    التفردية
1 . 2    القانونية
1 . 3
الموضوع
2    الأيقون
2 . 1    المؤشر
2 . 2    الرمز
2 . 3
المؤول
3    حملي
3 . 1    قضوي
3 . 2    برهاني
3 .3
 
من خلال التوليف بين هذه العناصر وترتيبها تنتج عشر طبقات ؛ هي :
1 ـ الكيفية الأيقون الحمل (1.1.1) ß عاصفة ما.
2 ـ التفردية الأيقون الحمل (1.1.2) ß رسم هندسي.
3 ـ التفردية المؤشر الحمل (1.2.2) ß صرخة تلقائية.
4 ـ التفردية المؤشر القضية (2.2.2) ß ناعورة.
5 ـ القانونية الأيقون الحمل (1.1.3) ß مخطط عام.
6 ـ القانونية المؤشر الحمل (1.2.3) ß اسم الإشارة.
7 ـ القانونية المؤشر القضية (2.2.3) ß صوت في زقاق.
8 ـ القانونية الرمز الحمل (1.3.3) ß اسم مشترك.
9 ـ القانونية الرمز القضية (2.3.3) ß قضية.
10 ـ القانونية الرمز البرهان (3.3.3) ß برهان منطقي24.
ب ـ مظاهر الانحلال والتنامي :
كما يمكن أن ينظر إلى هذه البنية من حيث الأصالة والتنامي، وهي بـهذه الجهة تنقسم إلى ثلاث طبقات، الطبقة الأولى وهي الأصيلة وتتمثل في الكيفية (1.1) والمؤشر (2.2) والبرهاني (3.3)، والطبقة الثانية هي المنحلة وتتجلى في الأيقون (1.2) وفي الحملي (1.3) وفي القضوي (2.3)، وأما الطبقة الثالثة فهي المتنامية، وهي التفردية (2.1) والقانونية (3.1) والرمزية (3.2).
جـ ـ جهات العمليات التوليدية :
مقولة الكيفية الأصلية (1.1) يمكن أن تكون أولى وثانية وثالثة ؛ فالأولى هي الكيفيات المشتركة التي هي الامتداد والحركة والمدة، والثانية هي الكيفيات المحسوسة، والثالثة هي التأثيرات والانفعالات مثل الحزن والجمال… وكل ما يحصل من شيء مؤثر.
مقولة الوجود المتحقق في (الآن ـ هنا ـ أنا)، وهو يحمل من تأثير شيء في شيء آخر، وقد يكون الموجود إنسانا أو شيئا أو حدثا (2.2).
مقولة القانون العام (3.3)، وهو قانون احتمالي وافتراضي، فهو إذن يتعلق بالإمكان والمستقبل، ولا يطلق عليه اسم قانون إلا إذا صار عادة؛ على أن العادة تتجدد باستمرار ؛ مقولة الثالثانية هي مقولة الاستمرار25.
الطبقة المنحطة هي أولانية الثانية (1.2) وهي مقولة الوجود الواقعي الكيفي، وهي من حيث وجود واقعي فهو محس به ومعيش فيه وبه، ولكنه وجود أحادي، وهي أولانية الثالثة (1.3) التي هي الانفعال أو الفكر أو الإرهاص أو بداية شيء ما، وهي ثانيانية الثالثانية تعني حصول شيء أو حدث (2.3) ومعرفة محدثة بدون تقديم براهين منطقية.
وأما الطبقة المرفوعة فهي مقولة الثانيانية للأولى (2.1)، أي أن الكيفية الأولية تتجسد في موضوع متفرد كأن تصير رائحة مطلقة رائحة الوردة، وهي مقولة الثالثانية للأولى فتصير الكيفية إمكانا خالصا للفكر قد يتحول إلى قانون (3.1)، وهي أيضا مقولة الثالثانية للثانية (3.2) التي يصير فيها الإحساس رمزا متوطأ عليه.
يتبين من الرفع أنه يمكن ترقية الكيفية إلى التفردية فإلى القانونية، والكيفية المحسوسة إلى رمز متفق عليه اجتماعيا كما يمكن حط البرهان إلى القضية فإلى الحمل، والإحساس إلى كيفية.
4 ـ التراتب الناقص :
تلك هي التراتبات التي يكاد يجمع عليها جل الباحثين، ولكن هناك تراتبات وتأليفات أخرى هي في طور الإنجاز يسهم فيها كثير من الباحثين. وهذه التراتبات متعلقة بطرق أنواع الاستبدال وجهاتها ودرجاتـها، أو هي متعلقة بما يدعى "المنطق النقدي"، كما أن الباحثين اهتموا بأنواع المؤولات ومجالاتـها ومناطاتـها. وما دامت بعض المؤولات لا تعتمد على الاستدلال فإننا سنرجئ الحديث عنها بعد أن ننهي حديثنا عن الاستدلال الذي بذلت مجهودات في إعادة بنائه في أقوال برس.
أ ـ أنواع الاستدلال :
استخلص بعض الباحثين من كتابات برس ثلاثة أنواع من الاستدلال هي : الاستنباط والاستقراء والفرض الاستكشافي. وللاستنباط ثلاث درجات هي الاستنباط الاستلزامي والاستنباط الاحتمالي، والاستنباط النظري، ويتجلى الاستنباط الاستلزامي في البراهين الهندسية والجبرية، وباعتبارها براهين تحليلية فإنـها أقوى أنواع الاستدلال، ومع ذلك فإنه ليس معصوما من الخطأ، ولذلك يتلوه الاستنباط الاحتمالي الذي يقيس افتراضا على افتراض مثل الالتقاء بمجموعة من طلبة كلية الآداب ثم يفتـرض أن المجموعة التي ترافقها هي من كلية الآداب أيضا.وأما الإستنباط النظري فهو يتجلى فيما يضيفه المحلل من خطوات نظرية أو أفكار ليست في المقدمات الأصلية أو في المعلومات السياقية26.
والاستقراء يتتبع الجزئيات بطرق نظرية أو مِخْبرية، وفي ضوء النتيجة التي يحصل عليها يمكن أن يكون الاستقراء كميا أو كيفيا، والاستقراءان معا احتماليان.
وأما الفرض الاستكشافي فهو واحد، وهو استدلال يدخل أفكارا جديدة للعلم، ومن حيث إنه كذلك فقد وصفه برس بأنه "الحصن المنيع للعلم"27.
بيد أن باحثا آخر اقترح ثلاثة مستويات للفرض الاستكشافي، وهي : أولا ما تكون فيه النتيجة غريبة وغير قابلة للتفسير، ولربما تكون داخل مجال المشاكل المبحوث نفسها، ولكن على الباحث أن يجدها لأن وجودها محتمل. وثانيا ما يصعب تحديد القاعدة فيـه، إلا أنـها موجـودة في مجال ما، ولذلك فإن الباحث مضطر إلى أن يراهن على أنـها تمتد (تكون) في ظواهر أخرى. وثالثالاتوجد قاعدة إلاأن على الباحث أن يخترعها بقرار منه بناء على أسباب وجيهة28.
يتحصل مما تقدم أن التنويع الأول ودرجاته راعت التراتبية الميتافيزيقية. فالثالثانية ثلاثة أصناف والثانيانية صنفان والأولانية صنف واحد. وأما التنويع الثاني فإنه اعتبر ثلاثيات برس جزئيا، إذ يجب من حيث المبدأ أن يكوّن في كل منزلة ثلاث درجات حسب ما تتطلبه القوانين الرياضية.
إن التّنويعين اختلفا من حيث الاعتبار. فمن اعتبر التراتبية الميتافيزيقية قام بعملية الحط، ومن اعتبر التوليف الرياضي اقترح ثلاث درجات في منـزلة الأولانية للثالثة، ولو تابع لصارت الرتب تسعا، ولكن هذا التدريج تعتريه صعوبات تطبيقية، على أن من يدقق في تقسيمات الباحثين وتأويلاتـهم يمكن أن يردها إلى التقسيم الثلاثي المعروف؛ وهو الفرض الاستكشافي والاستقراء والاستنباط. ذلك أن الفرض الاستكشافي ومستوياته والاستنباط النظري والاستنباط الاحتمالي والاستقراء الكيفي تكاد تكون شيئا واحدا، وحينئذ لا يبقى إلا الاستقراء والاستنبـاط ؛ بيـد أن اعتبارنا المنهاجي يفرض علينا أن نصنع سلما ذا درجات ست؛ هي الفرض الاستكشافي والمقايسة الإبدالية والمقايسة الخلاقة والاستقراء الكيفي، والاستقراء الكمي والاستنباط29.
ب ـ أنواع المؤولات :
تلك هي تراتبات الاستدلال ودرجاته، والتأويل متوقف على الاستدلال، إلا أن التأويل يمكن أن يقسم إلى قسمين، أولهما ما تقوم به اللغة، وثانيهما ما ينجزه الإنسان.
1 ـ تأويل العلامة بالعلامة :
قد تقدم أن برس كان متأثرا في بداية حياته العلمية بتيارات مثالية متعددة الأفلاطونيات والهرمسيات والكانتيات، وبالرياضيات والمنطقيات، وكان متأثرا أيضا بالتيارات الطبيعانية والداروينية ذات النـزعات التجريدية. ونتيجة لـهذا التأثير فإن الباحث يجده يردد أصداء الاتجاهات جميعها30.يعلم الباحثون أن الأفلاطونيات والهرمسيات تقوم على المماثلة للربط بين الكلمات بالانتقال من كلمة إلى كلمة ومن معنى إلى معنى بـدون نـهاية مما يحول العالم كله إلى مجرد ظواهر لغوية31؛ويمكـن تأطير برس قبل 321900ضمن هذه المقاربة التي تحمل العلامات تعيد نفسـها وتؤول نفسها بنفسها، إلا أن تحديده للعلامة الذي هو : "شيء ما إذا عرفناه نعرف شيئا ما أكثر"33-وهي كثرة دائمة ومستمرة للحصـول على المعرفة ـ تجعله يمتاز من الاسمانيين الذين يجعلون كل معنى هو تحصيل حاصل ؛ على أن هناك مشابـهات بينه وبين الهرمسيين. وتتجلى في اقتراحه مؤولات عديدة.
* المؤول المباشر الذي هو عبارة عن علامة تؤول علامة إلى ما لا نـهاية، مؤول الممثل أو العلامة هو مؤول آخر للموضوع نفسـه، أي أن الكلام ينتج الكلام : المترادفات، البيت الثاني يؤول البيت الأول… القصيدة الثانية تأويل للقصيدة الأولى…
المؤول الدينامي هو مجرد شيء ممنوح عند الله ينـزله34على ذهن المؤول.
* المؤول النهائي متعال فهو لا يبعد أن يكون إلهاما أو حيا أو قضاء وقدرا لا دخل للإرادرة البشرية فيه، فالمؤول النهائي سائر نحو غاية محددة سلفا ضمن غائية الوجود برمتها، وكأن التدلال سائر نحو "علة غائية"، أو "مقصدية"35،في تطور ذاتي.
2 ـ تأويل العلامة بالمؤول :
إلا أن هذا الاتجاه الغنوصي الهرمسي بدأ يتخلى عنه منذ 1900 إلى أن صار ذرائعيا مخبريا ثائرا ضد الميتافيزيقا، وأثناء هذه الحقبة بدأ يقترح مؤولات أخرى متعلقة بالذات المؤولة36.وهذه المؤولات ثلاثة، هي:
* المؤول الانفعالي الذي هو عبارة عن ردود فعل نفسانية تجاه الممثل (شعور بالحمرة، التأثر للموسيقى، والاستغراب). وهذا المؤول هو أول درجات التأويل البشري للظواهر.
* المؤول الطاقي الذي يتطلب مجهودا، وقد يكون المجهود عضليا أو فكريا.
* المؤول النهائي الذي هو عبارة عن عادة أو تحول عادة؛ تلك هي التقسيمات المتداولة، ولكن هناك تقسيمات فرعية أخرى هي: المـؤول المنطقي (الأول)، والمؤول المنطقي النهائي، والمؤول المنطقـي الأخير؛ وهو العلامات الثقافية، وتحول العادات، ونـهاية أية عملية دلاليـة؛ إلا أن هذا التقسيم مخالف لمعطيات النصوص إذن؛ فهو أولى بالمؤول النهائي منه بالمؤول الدينامي. ولعل هذا ما يؤكده تقسيم بعض الباحثين إلى المؤول النهائي؛ فهو عنده ثلاث درجات؛ هي :
* المؤول النهائي الأول هو عبارة عن العادات وتحولات التي تكتسيها الجماعات بالتجربة؛ وهو المؤول الذي يعبر عن "الحقيقة".
المؤول النهائي المختص الذي هو عبارة عن عادة مقتصرة على أهل الاختصاص (الجماعات العلمية والفكرية …).
المؤول النهائي الأخير وهو الخاص بالاستدلالات المنطقية37.
 
 
4 ـ التوازي بين مبادئ الدليلية ومبادئ الذرائعية
إلا أن التحقيب السابق ومسألة الربط بين الحقبتين تطرح عدة إشكالات :
1 ـ إشكال العلاقة بين الحقب :
ذلك أن التحقيب المذكور ليس إلا مجرد تغليبات. وهكذا افترض أن الحقبة المثالية تتجلى في تأويل اللغة باللغة، سواء أكان التأويل مفردة بمفردة، أو متوالية بمتوالية، أم نصا بنص، وأن الحقبة الواقعية يتجلى فيها المجهود البشري بعاداته وأعرافه وسلوكه، وبين هاتين الحقبتين وسيط هو الحقبة المنطقية التي تأسس عليها فكر برس منذ 1860 إلى آخر حياته وإن وقع التركيز على قضايا معينة قبل 1900 وقضايا مخالفة بعدها.. فقد تحدث في 1866 عن القضايا الشرطية والجازمة وعن الموضوع والمحمول. و1897 عن قانون الاستدلال. ولكن بعد 1900 كتب مقالات عن البرهان الذي هو أساس لتوليد طبقات العلامات. ومع ذلك، فإنه أحل الآليات الاستدلالية مكانة مرموقة واعتبرها أساسا لأنه معرفة، وهذا ما آمن به إلى أن قضى نحبه38.
2 ـ إشكال التفريع :
ذلك أحد الإشكالات. وهناك إشكالات أخرى تتعلق بتفريعات المقولات والعناصر وحصرها وربطها بمراحل تاريخية محددة. وهكذا، فإذا تعرضكثير من الباحثين للمؤولات وأنواعها فإنـهم اختلفوا في أعدادها وإثبات العلائق فيما بينها، إلا أننا نستطيع أن تقترح التوازيات التالية على أساس الإشارات السابقة :
     الأولانية    الثانيانية    الثالثانية
الحقبة المثالية    المؤول المباشر    المؤول الدينامي    المؤول النهائي
الحقبة الذاتية    المؤول الانفعالي    المؤول الطاقي    المؤول المنطقي
الأبدية    الفرض الاستكشافي    الاستقراء    الاستنباط
إلا أن هناك تفريعات أخرى لبعض الباحثين تلتقي وتختلف، فبعضهم فرع المؤول الدينامي إلى :
مؤول دينامي منطقي أول.
مؤول دينامي منطقي نـهائي.
مؤول دينامي منطقي آخر39.
وبعض آخر لم يفرع المؤول المباشر ولا الدينامي وإنما قسم المؤول النهائي إلى :
المؤول النهائي الأول.
المؤول النهائي المختص.
المؤول النهائي الآخر40.
وباحث آخر جزأ المؤول الدينامي والمؤول النهائي. المؤول الدينامي عنده:
مؤول دينامي داخلي يستند إلى المعرفة الخاصة بالمؤول.
مؤول دينامي خارجي يلجأ إلى السياق الخارجي41.
وأما المؤول النهائي فهو التقسيم السابق نفسه، وقد حاول موازاة كل درجة من المؤولات بآلية استدلالية معينة مما أدى إلى التوازيات التالية:
المؤول الدينامي الداخلي = الفرض الاستكشافي.
المؤول الدينامي الخارجي = الاستقراء.
المؤول النهائـي الأول = الفرض الاستكشافي.
المؤول النهائي المختص = الاستقراء.
المؤول النهائي الآخـر = الاستنباط.
إلا أن هذا التوازي فيه تداخلات وفيه نقصان، وليصير ملائما لنظرية برس التي تقوم على مقولة الثالثانية فإنه يجب التوفيق بين هذه الاقتراحات واقتراحات أخرى،وعليه، فإن التوازي يكون كالتالي42:
المؤول المباشـر = الفرض الاستكشافي.
المؤول الدينامي الأول = الاستقراء الكيفي.
المؤول النهائي الأول = الاستنباط النظري.
المؤول النهائي المختص = الاستنباط الكيفي.
المؤول النهائي الآخر = الاستنباط الاستلزامي.
التفريع بين التمام والنقصان :
تلك اجتهادات كثيرة لملء بياضات النموذج البرسي، وهي بياضات محايثة للنموذج نفسه. فقد أقام نموذجه على حسابات رياضية قد تصل أرقامها إلى الآلاف، وأقل أعدادها ستة وستون (66)، وأقل قليلها سبعة وعشرون (27)، وما وظفه النموذج هو عشر طبقات (10) من السبعة والعشرين (27). ذلك أن توظيف النموذج كاملا يفرض تقسيم كل مقـولة إلى ثلاث درجات. وقد حاول بعض الباحثين استخلاص هذا التدريج من مقالات برس وأوراقه، ومنه ما هو تام، ومنه ما هو ناقص. التام هو الأيقون والفرض الاستكشافي والاستنباط، وقد جزئ كل منهـا إلى ثلاث درجات. وأما الناقص فهو المنطلق والموضوع والمؤشر والمؤول والاستقراء، وقد احتوى كل منها على درجتين.
يتبين من هذا أن عمليات التوليد والتدريج لم تنل كل الطبقات وبثلاث درجات حتى تحصل المطابقة بين النظر الرياضي والصناعة العملية، فليس هناك درجات للعلامة القانونية والرمزية. وليس هناك تدريج كامل للمؤشر أو تدريج ناقص أو تام للعلامة المفردة، وكل ما ركز عليه هو الثالثانية التي تتشعب إلى ثالثانيات متكافئة أو متدرجة أومنحطة إلى الثانيـانية فالأولانية، وهذا التشعب يحصل إلى الثانيانية والأولانية أيضا.
5 ـ تعديل النموذج
تلك بعضالاقتراحات لملء بياضات نموذج برس، هذا النموذج الشديد التعقيد والغموض بل (والتناقض). وقد اعترف كثير من الباحثين باستحالة إثبات تماسكه واتساقه، فهو إلى ما تقدم وصفه به غريب المصطلحات والمفاهيم مع تعدد معانيها ومصادرها، ومع ذلك، فإنه يمكن تحقيق التماسك والاتساق وملء الثغرات بعدة مبادئ، أولـها مبدأ التدريج الشامل، وثانيها المبدأ الميتافيزيقي، وثالثها تعديل النموذج بإضافة عنصر رابع.
1 ـ مبدأ التدريج :
إن كل مقولة من المقولات يمكن تدريجها إلى ثلاث درجات، وقد درج بعض الباحثين مقولات منها إلا أنـها لم تدرج جميعها، وإذا تحقق ذلك فإن عدد الدرجات يبلغ سبعا وعشرين درجة (27)، بيد أن أغلبهم رتب عناصر النسق في عشر طبقات صحيحة وعادية ومنتجة، وقد تقدمت الإشارات إليها.
2 ـ المبدأ الميتافيزيقي :
إن برس يرى أن الميتافيزيقا هي علم العلم الاستكشافي الذي يقدم إطارا عاما لوضع فرضيات عامة ولتسيير البحث، وهي المحتوية على نظرية غائية، وقد انتبه كثير من الباحثين إلى الأبعاد الميتافيزيقية في نموذج برس، وأشاروا إلى كثير من مصادرها، ولكنهم لم يضعوا اليد على المصدر الحقيقي الذي هو النظرية اللاهوتية في نشأة الكون وتطوره، وهي النظرة التي تكون نظام عقد نموذجه. وهي ترى أن الكون يتألف من عالم الأذهـان (المجردات والشـيء في ذاته)، وعالم الأذهان/الأعيان (التفرد)، وعالم الوقائع والتوقعات. لقد اعتمد برس على هذه الميتافيزيقيا في بداية حياته العلمـية إلى جانب المثاليات الأخرى الكانتية والهيجلية والتطورية وغيرها، إلا أنه قلبها وجعل عاليها سافلها وجعل نـهايتها هي البداية فركز على الواقع واليومي والتفاعل المجتمعي، ومن ثمة التقى التمثال بالتدال في الحياة الاجتماعية والثقافية الطبيعية.
بيد أن مسألة البداية تفرض نفسها في الامتداد الميتافيزيقي ولذلك التجأ إلى الرياضيات لحلها. وإذا تبنى نسقا ثلاثيا ورد إليه المتعدد ونمى إليه الصغير واتخذه أداة للعمليات التوليدية والوصفية والتفسيرية فإنه أقر أحيانا بأن العلائق يمكن أن تكون أكثر من ذلك. وهذا ما يفهم من قوله بأن "الصفر الخالص سابق على كل أولانية"43،وعليه، فإن العلائق ليسـت بين ثلاثة عناصر بالطبيعة ولكنها عملية إجرائية واقتطاعية لامتداد فرض عليه الصفر بداية.
3 ـ العلاقة الرباعية :
إذا كانت الفيتاغورية ترجح صنيعه بالانطلاق من الواحد44الذي تولدت عنه باقي الأعداد فإن المبادئ الأنطولوجية والرياضية تفرض عليه البداية من الصفر واتخاذه عنصرا قائم الذات45، أي أن العلاقة تصير رباعية. وعليه، فإنه يجب تعديل نموذج برس، وهو تعديل تسمح به أقواله نفسها من حيث اعتماده الصفر، ومن حيث تفرقته بين الممثل والعلاقة. ولتوضيح هذا نقدم الخطاطة التالية:
 
جهات التمثال
جهات التدلال    الصفرانية
0    الأولانية
1    الثانيانية
2    الثالثانية
3
الممثل
0    الموجود
0.0    الموجود في ذاته
1.0    التفرد
2.0    التوقع
3.0
العلامة
1    التفكر
0.1    الافتراض
1.1    التعليق
2.1    الاتفاق
3.1
الموضوع
2    التوهم
0.2    التلقين
1.2    التأشير
2.2    الترميز
3.2
لمؤول
3    التخيل
0.3    التحميل
1.3    التقييس
2.3    الاستدلال
3.3
 
توحي هذه الخطاطة الملاحظة العامة التالية، هي أن هذا المخطط عقد النموذج أكثر مما بسطه، إذ أضاف عنصرا آخر هو الصفر، وهذا صحيح، فإذا ما التزمنا بالرباعية فإن المجموع يكون هو 164 (65536)، كما أننا إذا حاولنا ترتيب العناصر والتأليف بينها يكون الحاصل هو واحدا وعشرين طبقة يمكن إيجاد موازيات طبيعية أو لغوية لكل واحدة منها. لكن هذه العمليات الرياضية التي هي مفيدة من حيث ترتيب الظواهر وتنزيلها منازلها فإنها قليلة الجدوى على مستوى التحليل اللغوي. لذلك، فإن المهم هو التنبيه إلى أبعاد النموذج كما يظهر على الصفحة.
إن من ينظر إلى الخطاطة يستخلص ما يلي:
أولا: أن هناك تطورا حاصلا بالانتقال من المجرد إلى المحسوس، ومن البسيط إلى المعقد، ومن العماء والفوضى إلى النظام والانتظام، وأن التعرف أو الإدراك أو الفهم يحصل بالتركيز على المحسوس وعلى الواقع ثم الانتقال إلى البحث عن القوانين العامة العميقة، المجرد المطلق العمائي هو الممثل Representamen، والمطلق القانوني المجتمعي الذي هو صياغة للعادات وتحولاتها Representamina.
 
 
 
ثانيا: أن هذه التفرقة فرضت تفرقة أجزى هي الممثل والعلاقة46، الممثل هو المنطلق الذي تتولد منه التمثلات والتمثيلات، والعلامة متعلقة بالتدبير البشري لهذا الكون؛ وهي من ثمة انقطاعية واقتطاعية ومتعلقة بالممثل الأول من حيث الوجود، وبالممثلات الأخرى المؤولة من حيث الإشارة إلى موضوع خاص.
ثالثا أن علاقة العلامة بموضوعها هي الترابط، وقد يكون شبيها أو تلازميا أو توافقيا تواطئيا، وقد تكون جميعها هي الترابط، وقد يكون شبيها أو تلازميا أو توافقيا تواطئيا، وقد تكون جميعها في الشيء الواحد، وهذا التعالق يفسح المجال أمام الباحث ليقارب العلامات الأيقونية والمكتوبات والرموز.
رابعا: أن هذه المقارنة تتم بآليات استدلالية طبيعية واصطناعية تتجلى في المنطق الفطري بما فيه من حدوس وافتراضات، وفي المنطق الاصطناعي بما يحتويه من قياسات واستقراءات واستنباطات.
خلاصة:
تلك بعض الأبعاد التي يحتويها نموذج برس، وهي أبعاد جعلت نموذجه حيا تستمر بعض مبادئه في نظرية الحقيقة والذرائعية والتداولية وفي البيولوجيا وفي علم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي بما يتناوله هذا العلم من مسائل الإدراك والتعرف والفهم. وفي نظرية الأنساق العامة، وفي نظرية التطور المعاصرة.
كل هذه الأبعاد تجعل التفاصيل ليست مهمة بقدر ما تهم الكيفية التي يجب الاشتغال بها لتشكيل مخطط تجريبي والبحث عن امتدادات النموذج. وذلك ما ننوي القيام به فيما بعد.
 
ــــــــــــ
1 ـ هناك اختلافات كثيرة في تحقيب فكر برس ؛ وتكفي الإشارة فقط إلى :
- Gérard, De Ledalle, Théorie et Pratique du signe Introduction à la sémiotique de Charles S. Pierre. Payot, Paris, 1979.  
- Brenos, Serson, “On Peirce's Pure Grammar as a general Theorie of cognition . From the thought Sign of 1868 to the semiotic Theory of asserton”. Semiotica 113-1/2 (1997), 107-157.
- T.L. Short, “What They Said in Amsterdam ; Peirce’s Semiotics Today”. (R. A). Semiotica 61-1/2 (1986), 103-128.  
2) William J.; Callaghan, Charles Sanders Peirce : “His general theory of Signs”.   (R.A). S. 61-1/2 (1986), 123-161    
3) Idem. p. 131.   
4) Richard, Tersman, Peirce’s theory of scientific discovry (1987)  pp 41- 45     
- William. J. Callaghan. Op; cit. p 130.. 
  5)    Joseph. L. Esposito, Evolutionary Metaphisics : The  Development of Peirce’s theory of categories. Athen : Ohio University Press, 1980 
-“Peirce’s Speculation on the condition of representability” Semiotica 49     1/2 (1984), 7-13.
- A. G. Jappy, Peirce’s Third trichotomy and two cases of Sign path analysis
. Semiotica 49-1/2 (1984), 15-26.
- William, Seager, “Peirce’s Teteological signs", Semiotica 69-3/4 (1988).303   314.
6) Richard Tursman, Op. cit. pp. 106 - 111.
7) Richard Tursman, Op. cit. p. 103.
8), of signs and life Semiotica 101-3/4 (1994), 175 - 240.
William. J. Callaghan. Op. cit. p. 128.
9)Floyd Merrell   op. Cit. 133
 
10) Idem.
 
 
11 ـ هذا ما ورد في القراءة التي أنجزها T. L. Shart. انظر الهامش رقم 1.
12) William. J. Callaghan. Op. cit. pp. 143 - 144. - See again T. L. Short. Idem
13) William. J. Callaghan. Op. cit. pp. 150
- Encyclopédie Philosophique universelle. Les notions philosophiques. PUF   1990, voir pragmatisme. pp. 2015-2018.
 
14)  T. L. Short. Op. cit. pp. 119 - 120.
15)  Richard Tursman. Op. cit. p. 98-103 ; pp. 87-90.
16) Richard Tursman. Op. cit. p. 103.
17 - نـزعات أفلاطونية وأفلوطينية فيضية.
18 ـ انظر هامش 15، ص 43.
19 ـ هذه الفقرة يستشهد بـها كثيرا باعتبارها أوضح فقرة تتحدث عن عناصر التدلال.
20 ـ تتحكم في هذه الفكرة نظرية الفيض والنظرية التطورية،  انظر كتاب ريتشارد تورسمان، صفحات: 37/ 42
21 ـ انظر هذا في كتاب Gérard Deledalle. Op. cit. pp. 54-64.
22 ـ هذا ما يستنتج من كلام ريتشارد تورسمان في الصفحات المذكورة أرقامها في الهامش 19.
23 ـ انظر كتاب ريتشارد تورسمان. ص 40 ـ 41.
24 ـ انظر كتاب جرارد دولودال. ص 19ـ20 ؛ وكتاب ريتشارد تورسمان، ص 51ـ53 وهناك خلاف بين المؤلفين في الترتيب، إلا أن الترتيب دولودال أدق وأوضح.
25 ـ انظر تفصيل هذا في كتاب دولودال المذكور.
26 ـ انظر تفصيل هذا في كتاب ريتشارد تورسمان. ص 57 ـ 80.
27 ـ ما تقدم، ص 81. Abduction : "Sheet anchor of science”
28 - Umberto Eco, The Limits of interpretation, Indiana University
Press, 1990. Esp. ch. 2. Unlimited Semiosis  and Drift : Pragmatism V S.  
"Pragmaticism”. P. 38.
29 ـ ستتجلى أبعاد هذه المنهاجية في الدراسات التطبيقية.
30 ـ وهذا ما أدى إلى تعدد الآراء في تأويل أقوال برس، وعدم القدرة على إنجاز تحقيب مضبوط لفكر الرجل.
31 ـ انظر كتاب "إيكو" المذكور، ص 23ـ43، وخصوصا ص  24ـ32.
32 ـ هذا التحقيب مقترح من قبل Breno Serson انظر هامش رقم 1.
33 ـ انظر أمبرتو إيكو، ما تقدم. ص 28.
34 ـ ما تقدم.
35 ـ لم نعثر على بحث في هذا الموضوع ولكن إذا اعتبر مفهوم السيرورة الدلالية العمياء الآلية الناتجة من تلقاء نفسها فإن الاقتراح الذي قدمناه يصح.
36 ـ  يمكن تسمية الحقبة الأولى "بالحقبة الدلالية"، وهذه الحقبة بـ "الحقبة المعرفية" التي لا تنفصل فيها الذات عن التأويل وتشييد الحقيقة.
37 ـ انظر في هذا التقسيم ما ورد عند إيكو فيما ذكر وفي مراجعة ت. ل. شورط فيما ذكر. ص 115/ 118.
38 ـ هذه آليات فكرية بشرية موجودة من حيث الطبيعة ومختلفة من حيث الدرجة. لذلك وقعت التفرقة في الفطرة والعقل، أو بين المنطق الطبيعي والمنطق الاصطناعي “Logica utens and Logica Docens".
39 ـ انظر بحث "برونو سورسن" المذكور.
40 ـ انظر بحث إيكو المذكور.
41 ـ انظر برونو سورسن ما تقدم.
42 ـ هذه اقتراحاتنا ستظهر  جدواها عند التطبيق.
43 ـ انظر الهامش 8. ص 176.
44 ـ انظر هذا فيما كتبه إخوان الصفا ؛ يمكن الاكتفاء هنا بما ورد لدى ابن البناء المراكشي في كتاب : "رفع الحجاب عن وجوه أعمال الحساب" المشار إليه في الفقرة السابقة. ص208-211.
45 – يتخذ الصفر فاصلا بين الأعداد الإيجابية والأعداد السلبية، انظر أيضا:
Floyd Merrell. p. 176.
46 – هذه التفرقة وردت عند ب.سورسن. وقد نبهه إليها بالاط. وهي تفرقة حاسمة لفهم ميتافيزيقا برس ودليليته. انظر ص120.
 
 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟