الفلسفة والانتحار ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02047" السعادة شيء مستحيل قطعا، لأن الجسد مثقل بعديد الآلام، والروح التي تتشارك والجسد في نفس الآلام تعاني هي الأخرى، وفي نهاية المطاف تمنع الثروة من تحقيق آمالنا المتعددة، من ثمة وانطلاقا من هاته الأسباب ليس للسعادة أي وجود حقيقي."
ـ هيجسياس دو سيرين ـ 
" من يعلم الناس الموت، يعلمهم كيف يعيشون."
ـ مونتين ـ
" التفكير في الانتحار تعزية جبارة، إنها تساعدنا على مرور سلس من ليلة سيئة."
ـ فريديريش نيتشه ـ 

    يضعنا سؤال الانتحار فلسفيا أمام بحر من التناقضات والإشكالات التي رافقت الإنسان منذ ظهوره إلى الساعة، لدرجة أن البعض اعتبره خاصية يشترك فيها كل إنسان، وإن كان الاختلاف يتأسس على الانتقال من التفكير فيه إلى تنفيذه، علما أنه بقي غالبا من المسكوتات عليها، نظرا لألغازه من جهة أولى، وعدم التمكن من الإحاطة ـ منطقيا ـ به من جهة ثانية، وإن عمل عديد المهتمين بسبر أغواره عل غرار عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركهايم، فقد استعصي على الفهم بما أنه يضعنا أمام جواز الشيء ونقيضه في نفس الآن، لذلك كان من الأجدر أن نربط فعل الانتحار بجانبه الفلسفي في الإنسان، بدل الوقوف عند أسبابه الاجتماعية أو النفسية...

    ما الانتحار أولا؟ هل هو حرية أم قيد لما هو خارجي؟ هل هو موقف من الوجود والحياة بصفة عامة، أي اختيار ناتج عن تفكير فلسفي؟ على غرار انتحار عديد المفكرين من قبيل الفيلسوف والرياضي الفرنسي الشهير ألبير كاروكو(1971)، والفيلسوف الألماني والتر بنيامين(1940)، والفيلسوف الإغريقي أنبادوقليس(424 ق.م)، والروماني سينيك(65)، والفرنسيين جيل دولوز(1995) والألماني هينريخ رايس، والفرنسية سارة كوفمان(1994)... أم أنه هروب من الواقع المرفوض واستسلام تام جراء الأسباب الميكانيكية المذكورة آنفا؟ إلى أي حد يعتبر فعل الانتحار إقداما وشجاعة؟ وبأي معنى نعتبره نتاجا لضغوطات نفسية dépression، من قبيل حالة الممثل الأمريكي روبن وليامز، والرسام الهولندي الشهير فان غوغ، والأديب العالمي إرنست همنغواي...؟
    عندما يقدم شخص ما على فعل الانتحار، لا شك أنه تطلع إلى حياة جديدة وبنفس جديد، لهذا قد نجد وبكثير من المجازفة تبريرا لما قام به عظماء بصموا أسماءهم على تاريخ الإنسانية عامة، ولهذا أيضا قد توجد عوامل أخرى كان لها كبير دور في هذا الأمر، يؤكد الفيلسوف الإغريقي هيجسياس دو سيرين في نفس المعرض أن الحياة دوما وجب ربطها بالسعادة، وبما أن هاته الأخيرة مجرد وهم صنعه الإنسان هربا من الحقيقة، فإن للموت أفضلية على الحياة مادام مصيرنا الموت في نهاية المطاف دون التمكن من فهم وإدراك السعادة، أو حتى إيجاد تعريف لها، وبما أن الأمر يسير على هكذا منحى، فإنه من المنطقي ومن الأفضل الموت بدل العيش في وهم سينتهي إن عاجلا أو آجلا، دون الحديث عن فصيلة الحكماء الذين لا يفرقون بين الحياة والموت بما أنهما وجهان لعملة واحدة، وعليه فالإنسان خاضع دوما لقوة خفية تسمى peisithanatos، وهي القوة التي تدفع بالإنسان نحو الموت، فلنتأمل الحروب التي تصنع من خلالها الأمم أمجادها، أليست دفعا بالجنود إلى انتحار مشروع؟ على العموم وقَّعَت فلسفة دو سيرين لنفسها بدايات أولى نحو تملك الشجاعة والخوض في هذا الأمر، وإن كانت عاقبته كبيرة حيث منع الملك بلوطيمي الثالث تداول كتابات فيلسوفنا لأنها دفعت بالعديد على وضع حد لحياتهم، وأَمَرَ في نفس الآن بنفيه إلى أن توفي في ظروف سيئة.
    يضعنا فعل الانتحار فلسفيا أمام معنى آخر، وهو الإسراع نحو الموت بما أنها مصير كل فرد منا، إنها إعادة لسؤال العلاقة بين الوجود واللاوجود، فهل يدل الموت طوعا على السفر نحو اللاوجود؟ لهذا قد يكون هذا الفعل إقداما نحو اكتشاف ما خفي، وبحثا عن معنى الحياة كلاوجود، والحال أن هذا الأمر يحيلنا إلى فلسفة هايدغر التي قسمت حياتنا إلى وجودين، وجود أصيل وآخر مزيف، الوجود الأول وجود منسي بما أنه قائم بالضرورة على هيمنة الميتافيزيقا التي قتلت فينا كل معاني الحياة، وأسقطتنا في ثنائية التصنيفات البليدة، ووجود أصيل يترنم بالكلمة ويعطي للغة حقها كحارسة له ـ الوجود ـ وبما أن إنسان الأزمنة الحديثة قد نسي وجوده وانغمس في وجود من حيث هو موجود، فإن وجوده غير موجود إلا بما هو موجود، فأنّى له طعم الحياة انطلاقا من هذا الامر، وهل بإمكانه الركون إلى وجوده الأصيل حيث المعنى في ظل ما حصل للإنسان وما يحصل له أيضا، من ثمة فهايدغر لا يفكر لا في الانتحار ولا في الموت بما أنهما ليستا حاضرتين لدى الإنسان بما أنه حي، أي أنه لا يمكن فهمهما إلا ونحن ميتين، بقدر ما يروم إلى مقاربة هذا الإشكال انطلاقا من زاوية أخرى، فالموت ليس إلى وضع حد للدازاين dasein، إذن يعدو الانتحار هنا اختيارا فقط لطريقة الموت وليس تحكما فيها. بما أن ولادة الإنسان تعني موته في نهاية الأمر.
    وقد يعني الانتحار حرية وإنهاء لمهزلة الحياة، الإنسان ميت لا محالة، والإنسان كائن فرضت عليه كل الأشياء، حياته وولادته ووطنه ووالداه واسمه وديانته وجنسه وثقافته، فبأي معنى يمكن هنا الحديث عن حرية للإنسان والموت هو الآخر مفروض عليه إن عاجلا أو آجلا، من ثمة فلا غرو أن الإنسان حر في اختياراته، وأن مسألة الحرية وعلى غرار السعادة ليست إلا وهما من خلاله صنعناه كي نحفظ ماء وجه الحياة، وعليه قد نثير هنا إشكالية مفتوحة حول جواز أو عدم جواز فكرة الانتحار، بما أنه إذا كان جائزا فإن كل الأشياء، وإذا لم يكن جائزا فإن كل الاشياء غير جائزة كما أكد الفيلسوف الشهير فتغنشتاين.
    والحال أنه ليس يمكن مقاربة سؤال الانتحار دون الإشارة إلى منطق فلسفة شوبنهاور التي تعود بنا إلى النظر للحياة كخطيئة توجب تجاوزها، حيث لا يتأتى هذا التجاوز إلا وفق خاصية العود الأبدي* le retour éternel، إذن فالإرادة هنا إرادة نفي للحياة كخطيئة وهكذا دواليك، حيث يصبح الانتحار حرية ونفيا لإرادة الحياة وهو الأمر الذي جر على شوبنهاور ويلات فلسفة التشاؤم وإن مكان في ذلك مغالاة كبيرة بطبيعة الحال.
    لا شك أن أوربا الحربين العالميتين وضع الإنسان الأوربي بصفة خاصة والعالمي بصفة عامر أمام سؤال الوجود، وأمام العدمية التي وصل إليها العقل الأوربي، الذي بدأ كمخلص للإنسان من التبعية الدينية والتاريخية، إلى مصنع للدمار والقتل بدون وجه حق، هكذا صنعت الدول المنتصرة قوتها على حساب عدد القتلى مما جعل أوربا بصفة عامة تدخل في فخ العدمية الإرتكاسية، لهذا أعاد الفلاسفة المعاصرون فكرة الموت تحت مجهر التأمل والتنقيب، فهذا فيلسوفنا الكبير سارتر ينظر إلى فكرة الانتحار من خلال الإنسان العبثي الذي لا ينتحر أبدا، إنه يسعى إلى الحياة دون الوقوع في الريب، أي أن الإنسان العبثي هو الذي يحيا الحياة خارج منطق الترتيبات، إنه ذلك الإنسان الحر الذي يصنع ماهيته بنفسه خارج منطق الأوهام والأمل والمقبل أيضا، من ثمة فهو ينظر إلى الموت بافتتان والحق أن هذا الافتتان تحرر الفرد من كل الضغوطات فتجعل منه كائنا حرا بالضرورة، آنئذ وآنئذ فقط تعدو الحياة بالنسبة إليه منطق عيش وليس دعوة إلى الموت. 
    لقد عمل الفلاسفة دوما على مقاربة فكرة الانتحار كتعبير عن الغرابة التي يعاني منها هذا الكائن في العالم، والحال أن الانتحار انتحارات، انتحار هروبا إلى الأمام أي فرارا وتعجيلا بموت محتوم ينتظرنا، ثم انتحار ثان الغرض منه فهم الموت كمحرك لفعل التفلسف، ثم انتحار ثالث يمكن اعتباره انتحارا يخص الذين تعرفوا على الحياة من جانبها الخفي، أي إرادة الحياة كموت وقلق وجودي وأزمة أنطولوجية، لهذا فإنه لا يسعنا إلا الوقوف عند حالة فان غوغ الذي قرر وضع حد لحياته، لكن قبل أن يقوم بهذا الأمر قام بخلق عمل فني بهي بعنوان :" حقل الغربان" حيث يترجم لنا وضعية الإنسان في وجوده، وكيف أن دواخله هواجس وغموض من الصعب سبر أغوارها، زيادة على أن الإبداع صوت للصمت وخيط فاصل بين الجنون والعاقلية، بين الوجود واللاوجود، وبين الإرادة الحية والسر الميت.    

ـــــــــــــــــــــــ
* نشير هنا إلى فكرة العود الأبدي انطلاقا من فلسفة كل من أنكسماندرس أولا ثم فيتاغورس ثانيا، حيث تؤكد على منطق الحياة كخطيئة وأنه يتم تجاوزها تأسيسا لحياة أخرى، تتحول بدورها إلى خطيئة وهكذا على ما لانهاية، للإشارة فقد استلهم كل من هذين الفيلسوفين نظرتهما للعود الأبدي انطلاقا من حكمة الهند والصين، عكس العود الأبدي في فلسفة نيتشه الذي لا يتحدث على عودة العوالم بشكل ابدي، وإنما على عودة الهوية كاختلاف، والأيقونة كسيمولاكر.