السنة الكونية بين الفطرة والتحديات الوضعية ـ حمزة بوحدايد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse18035بداية البدايات رسمت لنا أعمق تجليات بناء الحضارة الإنسانية انطلاقا من مخاض عسير في الصراع الإنساني، الذي حدث في الواقع اليومي للإنسان، رغبة منه وبحثا عن البقاء وتوفير حياة كريمة، هكذا وجد أول البشر نفسه في مجال صارعه وقاومه وتحداه،  فذاته تعاني، تقاتل، تكدح وتعمل ثم تحارب لتحقيق نفسها وحماية مصالحها. فالحضارة بنيت على أكتاف المقاتلين وتصادم الذوات،  مما ولد انفتاح المنغلقين عنوة وجلب أسس قوم لبناء ذات قوم آخرين ، فكانت الأمم بهذا تتسابق حول امتلاك أنجع الوسائل الحديثة في التفوق والعلو والإحساس بالقوة، غير أن صراع "الإنسان ألأول" مَهّد لمنطلقات ومسلمات إنسانية وفطرية طبعت ذات الدماغ الذي تأمل لأول مرة ليخطط ويتحضر ويتجاوز طبيعته الأولى  ويحاول أن يتقدم، فتشكلت لنا معالم الوعي الدماغية للإنسان الأول وترسبت في عروق دماغه لتطابق فيما بعد ماهية ما نصطلح عليه "بالفطرة"، التي تشكل عليها الدماغ، لتصل الفطرة لتُميز أدوار الناس ووظائفهم في الحياة تحقيقا للاستمرارية والوجود وتجنبا للقتل والإبادة والتوحش، غير أن تطور البشرية في امتدادها التاريخي خلق لنا صراعا عكس لنا بداية تحلل الفطرة وأوجد معضلة "الإنفصام" في الذات البشرية، وهو "صراع الفطرة الدماغية مع العقل المبدع"، كما نعلم جميعا أن العقل الوضعي بنى نفسه وفق صيرورة طويلة، كانت ملامحها الأولى من أوروبا في تجاذبها الطرف مع الكنيسة والسلطة و تقسيم الأدوار في الحياة فيما تُعرفه الماركسية "بالطبقية"، وكذا الأنوار التي تحدت رموز التعاقد الذي وضعته "الحضارة" الأوروبية. عموما أين وصل الصراع اليوم بين الفطرة و"عقل الوضعية" اليوم؟
أولا: الغرب

كما قلنا سابقا الفطرة في تطورها تعرضت لانتكاسات كثيرة، جعلت الكثير ممن عرفوا بالعقلانيين والتنويريين ينتقدونها ويشكون في علميتها وأسسها بل حتى وجودها، ولعل ما اصطلح عليه في الفهم التاريخي ب"عصر الأنوار" هو بداية القطيعة مع الفطرة في تعبيرها الشامل، الذي ستسخره أيدي القساوسة والأباطرة في بناء جامد يجعل الناس آلات حبيسة لمصيرها وقدرها، لقد تمت أدلجة "الفطرة" بالدين و السياسة والاقتصاد، فانقسمت معالم العالم الأوروبي إلى طبقات: أسياد، أقنان، إكليروس، فلخدمة دوام هذا المجتمع استغلت الفطرة ، هذا ما سيدفع فئات خاصة من المجتمع لتبحث وتفتش عن أساس هذه الفطرة، بحثهم ذاك ساعدهم لبناء جديد قائم على التجربة والإحساس، فالتجربة دفعتهم ليسألوا ماهية الفطرة ووجودها فوصلوا إلى خلاصة مفادها: أن الفطرة غير موجودة، هي ضرب ميتافيزيقي سخر لخدمة الأنظمة الطبقية والتراتبية المجتمعية، فهي لا تعد  سوى صناعة دينية وسراب تهدف لربط الإنسان ووضعه أسيرا لطريق يخدم مصالح رجال الدين والحكام وملاك الأراضي ، وبالتالي سيمهد هؤلاء المجددون لقطيعة مع الفطرة، لكنهم لم يستطيعوا أن ينهوها، لأنها ذات كائنة وإفراز إنساني، وبالتالي ستبدأ المواجهة بين الفطرة والوضعية التي ستنتقل لمرحلة ستُفعل فيها بشكل كبير وجديد ، هذه المرحلة هي مرحلتنا الآن. أين وصل مستوى الصراع بين الفطرة والوضعية اليوم في "الحضارة الغربية"؟
لعل مجموعة من القضايا التي تنخر البنية الأخلاقية للمجتمع الغربي تبين لنا إلى أين وصل الصراع بين الفطرة والوضعية التي اعتمدت أساسا على الحس والتجربة  وقطعت بشكل مطلق  مع أي معنى للجوهر، في تحديد سير الإنسانية ـ المابعد حداثية ـ ، فلا داعي للذكر هذه القضايا التي تقصيها البنية الأخلاقية وتعتبرها إخفاء للحداثة في الغرب، التي وضعت نصب أعينها مفاهيم إقصائية في بناء هذه الحضارة الغربية التي أضحت "النموذج" الذي يقتدي به الجميع وأصبحت مثالا لتقدم والرفاهية، عند هذه النقطة أتذكر نظرة المؤسسين  الأمريكيان الأولان: ماديسون وجفيرسون الذين كانوا يعتبرون : ماهية الحقوق وسيلة لغاية الرفاهية، عكس ما يجب أن تكون هذه الحقوق غاية في حد ذاتها لأن محركها هو" التيموس"(1) بمعنى أن هذه الحقوق هي مطلب فطري للإنسان، وليس تحديا وضعيا صرفا لتحقيق ملذات جسدية وقتية تنزل حتى بمعنى الحقوق إلى وضع سفلي  لا قيمة له، لعل هذا التعبير الذي قدماه ، يعتبر أبرز تعبير عن قفزة الوضعية بداية من هؤلاء المؤسسين اللذان  وضعا أسس بلاد العام السام التي تكون الآن من يحمل مشعل الغرب  ويشّعه في العالم ضد ، ما ينعتونه " بالرجعية الفكرية"، وهذه الرجعية باختصار هي "الفطرة" حسبهم.
إن تطور العلوم والثورة التكنولوجية والعمق المعرفي العلمي، لم يكن نتيجة للقطيعة مع الفطرة في تبني العناصر الوضعية، بل كانت الحداثة استمرارية فطرية لرغبة الإنسان وحاجاته ، غير أن ما حدث هو ربط الوضعية بالحداثة واعتبار الفطرة مانعا لهذه الحداثة، وما رد هذه الفكرة لاعتبارات تاريخية حينما استغلت الفطرة لصالح توجهات ومصالح جهات معينة، فكان هذا القطع هو قطع مفاهيمي بين الفطرة والحداثة لأن الاثنتان تلتقيان في العمق الإنساني وإرادته نحو الأفضل، هكذا انطلق التياران ليحدث تحديا بين الماهية الأخلاقية في علاقتهما بها فبينما تعتبر الفطرة أنها والأخلاق جسد واحد، فيما تعتبر الوضعية أننا يمكن الفصل بين الاثنان وليسوا بمفهومين متحدين. فحسبهم يمكن أن تكون "وضعيا" لكن بأخلاق. هذه الوضعية تجعلنا نطرح ما قدمه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في كتابيه"شرود ما بعد الدهرانية: النقد ألانتمائي للخروج من الأخلاق" وكذا  كتاب "بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين" اللذان عالج مفهومان هما: الدهرانية ومابعد الدهرانية على اعتبار أن المفهومان صورة من صور "الدنيانية"، وهي أخراج مجالات الحياة عن الدين، فالدهرانية تختص في إخراج الأخلاق عن الدين، وهذا ما ينعته الأستاذ طه عبد الرحمن "بالمروق"، إذن هنا نلاحظ ونقف عند ما تحاول  بعض من اتجاهات الوضعية  القيام به لمعنى الفطرة في إدراكنا لها وهو ما سيصدر لباقي  المحيط العالمي، تحت اسم "العولمة ": وهي بمعنى أننا متقدمين فهلم للحداثة هلم لثقافة  هلم للعلم هلم ...
ثانيا: المحيط الثالثي أم المحيط التبعي أو التقليدي ورجعي(نموذج العالم الإسلامي)
المحيط الثالثي ذيل الذئب الذي يجر قافلة الحداثة التي يربطها ويقاربها من نظرته الفلسفية القائمة على أسس المتعة والمادة دون أدنى مراعاة لتعقل الأخلاقي وركائز الأنسجة التي وضعت مطلق " الفطرة" في البناء للإنسان في إنسانيته ومراعاة لفضله على باقي الكائنات التي لم تعرف ملكة "التفكير"،  ففي اعتقاد الفلسفة الليبرالية كتيار قائم الذات (حقيقة لا يجب أن نفهمه على أساس أنه يتبنى الحرية، بل على العكس تماما ، هو لا يفهم أن الحرية ملكة فطرية من خصائص ماهية الفطرة، ويستدل بالعصور الماضية،  لكن ما حصل للحرية في هذه العصور، أنه قد تم كبتها بطبيعة البنية التحتية التي كانت سائدة قبل  عصر "الإنعتاق" أي "الأنوار")، فهذا التيار يعتقد بكون أن الأخلاق ما هي إلا إنتاج للبيئة، وهنا نستحضر الحتمية الجغرافية عند مونتسكيو ، التي  حاول هذا التيار أن يستقي من تراثه في فهم مغلوط لصيرورة التاريخية لتشكل الأخلاق، التي لا تحدده البيئة أكثر مما كانت نتيجة لأسس فطرية تشكلت مع التاريخ، وأيضا قد نتنافى مع ما قاله فولتير"أن كل من المناخ ونظام الحكم والديانة، هي العوامل الثلاثة المؤثرة في تشكيل عقل الإنسان"(2)، فهذا الفهم هو فهم انطلق من معنى إدراكي باستحضار وجود الإنسان، لكن التساؤل الذي يفند هذا الطرح: هو لماذا لم تمكن نفس العوامل الثلاثة الكائنات الأخرى في بناء عقل لها؟ لقد انطلق فولتير من فكرة أن المجال أسبق على تشكل الإنسان، وهذا تساؤل آخر. وبالتالي نخلص أن أساس تشكل الأخلاق هي نفسها الأساس الذي تشكل عليه العقل أي أنها هي والعقل نفسها وأي محاولة لتجاوزها بنفي الفطرة لاعتبار أنها وليدة المجال، هو أمر يطرح إشكالية الكائنات الأخرى وقضية السبق بين الإنسان والمجال، وهو أمر تم حسمه على اعتبار أن العلوم أثبتت بأن حادثة عمر البشرية  بقياس عمر الأرض ذاتها(3)، وما دون الأرض لا يخضع للمكان والزمان الإنساني، إلى جانب هذا يمكن أن نضيف أن أساس الحتمية الجغرافية بوضع المجال كمؤسس للبنية الفوقية هو أمر ينطلق من رسوب دينية للمسيحية واليهودية ، بل في الواقع كل التيارات التي نعتبرها اليوم تتناقض فيما بينها وتحمل صراعا،  أصلها التاريخي هو بداية واحدة، ولعل أبرز ما يدعم هذه الفكرة القائلة هو ما قاله أحد المفكرين الأوروبيين بأن "الشيوعية فكرة مسيحية أصابها الجنون". كخلاصة من كل هذا أن العالم الثالثي يجتر رسوب دخلت عليه عنوة باسم الحداثة فسقط  في عالم التقليد، فأصابه التيه بين الماضي وحاضره  فخرج من واقعه الانطولوجي ليجعل نفسه متدليا في عاصفة التحديات التي  تواجهه وتواجه معنى الفطرة بين مقلدين تقدميين وآخرين متأخرين كما يسميهم الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتابه"المدخل لتأسيس الحداثة الإسلامية"، وبالتالي أصبح الكل مقلد بين من يسقط ماضي المجد بالنسبة للذين ينظرون لمرحلة الازدهار عند المسلمين في مسمى "المقلدة التقدميين"، وكذا إسقاط معنى الحداثة عند الغرب بالنسبة "للمقلدة المتأخرين"، هكذا أصبح الرهان الفطري وأيضا الأخلاقي عندنا هو رهان تصورات ماضوية من فترات الازدهار الذي عرفته الفطرة، أو رهان  رغبة مقلدة في البقاء كذيل لذئب الحداثة الغربية التي تقيم حاجزا بين الفطرة والحداثة لاعتبارات تجهز على أسس العقل والتجليات الإنسانية.
أخيرا الغرب، أقام حاجزا ليجعل القيم بضاعة، ووضع قطيعة عن طريق استغلال معطيات فلسفية وتصورات فلسفية وعلمية معينة في محاولة إيجاد سندات الملكية العلمية لأصله التاريخي لأجل تحديد معالمه الحاضرة وخطواته المستقبلية والقيام بتأصيل كل ما يريد أن يقوم به بتوجيهه المعطيات التاريخية لصالحه ومحاولته القطع مع الفطرة لكونها تتصادم ومنظومته الحالية التي تبيع الأخلاق في معرضها، وبالتالي يحاول أن يجعلها (الغرب) نتاج لمفاهيم: التخلف، الدين، الرجعية، الاستغلال، الطبقية، العلمية، التقليد...، غير أن الحقيقة أن الغرب قام بأدلجة الألفاظ لتسير في اتجاهه ووضعه الذي يدعي بأنه علمي وحداثي، لكن هذه الألفاظ يملئها بالمعنى الذي يريده هو، غير أنه لا يكتفي بهذا بل يجر قطار العالم معه "الثالثي، نموذج، العالم الإسلامي مثلا"، ليجعله في انفصام وتقليد يقتل أي مجال للإبداع فيه، قد يجعل(الإبداع في هذا العالم) منظومته نموذجا للحداثة الحقيقية، إذ حاول التوفيق بين "معالم التشكل الدماغية" المتشخصنة في الفطرة والأخلاق، وكذا استفادته من التيارات العلمية والفلسفية المتعددة وبمجابهاته لتحديات الوضعية لاحتوائها مع الأسس الفطرية. عند هذه النقطة يمكن لنا الحديث على أن السنة الكونية تسير في اتجاه تقدمي توافق فيه بين المركب الإنساني : العقل+الأخلاق+العلم، في بناء نموذج حداثي عالمي.


(1): فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط:1،1993، ص14
(2): مصطفى أبو ضيف أحمد، منهج البحث التاريخي بين الماضي والحاضر، مطبعة النجاح الجديدة، ط:1987، ص104
 (3): المرجع نفسه،ص12