مصير الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي ما بين الجابري و أركون ـ المصطفى المصدوقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse11040كانت المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الإسلام،و التي تتطابق زمنيا مع فترة العصور الوسطى في الغرب،مليئة بالتساؤلات و الدراسات و المؤلفات العامة،إنها مرحلة التفكير العلمي و النقدي ،مرحلة المناظرات الحرة بين العلماء في الفكر الإسلامي.
كانت الفلسفة قد شهدت ازدهارا ملحوظا ما بين عامي 150-450 هجرية،غير أن هذا الازدهار و النجاح سينحسر مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري،و مع هذا الانحسار سيبدأ العقل الإسلامي في الانسحاب من الساحة العلمية في الوقت الذي بدأ فيه الغرب بالازدهار.
و من أبلغ الأمثلة التي يمكن أن نضربها بهذا الصدد،مثل ابن رشد،إذ إن مؤلفاته أصابها النسيان و الفشل في المجتمعات العربية،بينما الفكر نفسه و المؤلفات نفسها ترجمت إلى اللاتينية و حظيت بنجاح متزايد في المجتمعات الأوروبية المسيحية حتى القرن السادس عشر.
فلماذا فشل الفكر الفلسفي في الفكر الإسلامي؟لماذا فشل ما كان مزدهرا قبل القرن 13 الميلادي و انسحب من الساحة الفكرية و العلمية؟ذلك هو السؤال الذي سيقود تحركاتنا في هذا المقال.
 سؤال حاول كل من محمد عابد الجابري و محمد أركون أن يجيب عليه،كل بمنهجيته في التحليل و التفكيك.
«لقد ضرب الغزالي الفلسفة ضربة قاضية لم تقم لها بعده قائمة»هكذا كتب محمد عابد الجابري متحدثا عن مصير الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي.

و البيانات التالية هدفها تأكيد هذه الدعوى.
لم تقم للفلسفة العقلية،العقلانية،بعد الغزالي قائمة في ديار الإسلام.هذا واقع تاريخي ،و لا يمكن تفسير هذا الواقع التاريخي-بحسب الجابري- بدون و ضع كتاب " إحياء علوم الدين" و كتاب "تهافت الفلاسفة" على رأس قائمة العوامل و الأسباب.
و لكن...كيف أسهم هذان الكتابان في توقف الفلسفة في المناخ الإسلامي؟
فمن خلال كتابه الإحياء استطاع الغزالي تأسيس التصوف و تكريسه في الساحة الثقافية العربية الإسلامية،لقد أدخل التصوف بقسميه العملي و النظري إلى دائرة السنة من باب السنة :الفقه،فأصبح منذئذ مكونا أساسيا من مكونات الفكر العربي الإسلامي،و قد عمد إلى ذلك و خطط له تخطيطا.
«لقد اكتسح التصوف الساحة،و الساحة السنية خاصة،فنقل خطاب اللاعقل ليس فقط إلى مملكة البيان و البرهان،مملكة النقل و مملكة العقل،بل أيضا إلى مملكة العامة،مملكة التقليد والتسليم،مملكة الجمهور الأمي الواسع»يقول الجابري في كتابه "إشكاليات الفكر العربي المعاصر"،قبل أن يتابع:«فكانت الربط الصوفية و المشايخ و الطرق هي الأطر الاجتماعية الثقافية و السياسية التي يسري فيها و يتدفق من حولها اللامعقول بلباسه الديني الذي حوله العامة إلى قوة مادية تقف بالمرصاد لكل نهضة عقلية ».
و هكذا..
تمكن الغزالي من صد الفكر العربي الإسلامي عن الفلسفة و توجيهه نحو التصوف.
هذا عن كتابه "احياء علوم الدين" ،أما في كتاب "تهافت الفلاسفة" فقد أصدر الإمام الغزالي بواسطته فتوى فقهية ضد الفلاسفة فكفرهم في مسائل و بدعهم في أخرى.كما استطاع في هذا الكتاب أن يشغب على الفلاسفة،بل أكثر من ذلك استطاع أن يقيم الدليل على أن الفلاسفة عاجزون عن إثبات مسائل العقيدة بواسطة ما يقررونه في علمهم الإلهي.
و في هذا الصدد يقول الجابري:«نعم يمكن القول إن فتوى الغزالي بتكفير الفلاسفة مسبوقة بفتاوى صدرت من فقهاء و متكلمين و بلهجة حادة...مع ذلك يبقى كتاب تهافت الفلاسفة كتاب وحيد و فريد في الثقافة العربية الإسلامية،لم يؤلف مثله قبل الغزالي و لا بعده،وأن تأثيره في صد الفكر العربي الإسلامي عن الفلسفة لا يوازيه إلا تأثير كتابه "الإحياء" في توجيه نفس هذا الفكر نحو التصوف».
لننتقل الآن إلى صاحب كتاب "نقد العقل الإسلامي"...
إن فكر محمد أركون يتمحور حول العديد من التخصصات و المواضيع ،و التي من خلالها يهدف –من بين ما كان يهدف إليه- دراسة سوسيولوجية فشل الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي.و هو يعتبر سوسيولوجيا إخفاق الفكر الفلسفي شيئا مستحيلا التفكير فيه ضمن إطار تاريخ الأفكار التقليدي الذي يتتبع خطا متسلسلا مرتبطا بشكل عام بالأحداث السياسية الأكثر شهرة.
عند أركون فإن المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الإسلام قد اتصفت بالتفوق العقلاني و اتساع العقل و حرية البحث و الإبداع في الإشكاليات المتصلة بالقضايا الدينية الحساسة،و بدرجة عالية من التسامح و الإقبال على المناظرة.و هنا يمكن أن نشير إلى تلك المناظرة الشهيرة بين الغزالي و ابن رشد .فقد كتب الأول "تهافت الفلاسفة"،و كتب الثاني"تهافت التهافت".  و أخيرا انتصر خط الغزالي على خط ابن رشد في الساحة العربية و الإسلامية.
أركون وإن كان  يلتقي مع محمد عابد الجابري في كون الفلسفة لم تقم لها قائمة  في الساحة الإسلامية بعد كتاب "إحياء علوم الدين " للغزالي و كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة الذي ثار فيه ضد أولئك المهووسين بأرسطو،فإنه يرى أن سبب فشل الفلسفة و الفلاسفة لا يعود إلى قوة الغزالي أو صحة خطه الفكري.فالغزالي كمفكر واحد أضعف من أن يؤثر في حركة التاريخ بمثل هذه القوة و الاستمرارية.
و إذن...
فهناك أسباب بنيوية أكثر عمقا بحسب رأي أركون،و هذه الأسباب ينبغي أن نبحث عنها في الأطر الاجتماعية و الاقتصادية و تحولاتها. فلنستمع إليه:«إن غياب الفكر الفلسفي –العقلاني  من الساحة الإسلامية لم يكن في أي يوم من الأيام لا جذريا و لا نهائيا.يعود الأمر في الحقيقة إلى الغياب التدريجي للأطر الاجتماعية-الثقافية التي تتيح إمكانية وجود المعرفة الفلسفية».هكذا يلخص أركون سبب توقف الفلسفة.
و من المناسب أن نضيف هنا أن انحسار هذه المعرفة الفلسفية ليس عائدا إلى سلطة الضبط  و الهيمنة اللاهوتية كما هو عليه الحال بالنسبة للسلطة العقائدية المسيحية،أو أن يكون للإسلام موقف ضد الفلسفة،فلا يمكن لدين أن يقف أمام فكر.و إنما السبب عائد-كما أشرنا إلى ذلك- إلى التغير الذي أصاب الأطر السياسية و الاجتماعية للمعرفة في مجمل العالم الإسلامي بدء من القرن الثاني عشر الميلادي مع وفاة ابن رشد سنة 1198 ميلادية.
كيف يمكن أن نوضح فكرة المفكر و المؤرخ محمد أركون هاته؟
ينبغي الإشارة إلى أن ضعف العالم الإسلامي نتيجة تحول الخطوط التجارية عنه،و انهيار طبقة البورجوازية التجارية في بغداد و العواصم الأخرى قد أدى إلى انهيار الدعامة المادية للحضارة العقلية و  الثقافية.
للتوغل أكثر في فهم الفكرة لندع محمد أركون يتحدث من جديد:«إن الثقافة العربية-الإسلامية التي ازدهرت داخل إطار الإمبراطورية الأموية ثم العباسية كانت مرتبطة بحياة المدن،فنشاط الفلاسفة كان يتمركز في العواصم الكبرى كدمشق،و بغداد،و أصفهان،و القاهرة،و حلب،و فاس،و قرطبة.و كان يتم في ظل البلاطات الكبرى للملوك و الأمراء.و ما دامت الإمبراطورية تتمتع بقوة سياسية و سيطرة على التجارة،فإن البورجوازية التجارية استطاعت المحافظة على مستوى العرض و الطلب في ما يخص المعرفة و الثقافة».
و يمضي أركون في التوضيح،قائلا:«ولكن بدءا من القرن الحادي عشر راحت الأخطار تحدق بحياة المدن و تهددها،هذه المدن التي كانت قد ضعفت سابقا بسبب الصراع مع المحيط البدوي أو الريفي غير المسيطر عليه جيدا.و بالتالي راح الفكر الفلسفي يتراجع شيئا فشيئا لكي يترك الساحة خالية للخطاب التعبوي التجييشي للإيديولوجيا المدعوة بالجهاد».
ثم يواصل صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي الحديث«فلكي يقاوموا الهجمات الصليبية على فلسطين و هجمة العشائر التركية و المغولية على منطقة إيران-العراق لزم عليهم أن يجتمعوا حول إسلام أرثودوكسي(=صحيح)و دوغمائي صارم و لكنه فعال إيديولوجيا من حيث التعبئة و التجييش».
من أجل أن نفهم جيدا حالة الإقصاء المستمر للفلسفة في الساحة الإسلامية،فإنه ينبغي النظر إلى ما حدث فعليا على أرضية هذه المجتمعات الإسلامية بدءا من القرن 12 الميلادي.فلننصت من جديد للمفكر محمد أركون:«كانت هذه المجتمعات المهددة من الداخل و الخارج مجبرة على أن تؤسس نظاما أمنيا خاصا.إن الفلسفة النقدية لا يمكن لها الإسهام في تشييد مثل هذا النظام.على العكس إنها تهدده بالأخطار.وحدها الشريعة الصارمة و الفعالة في نفوس الجماهير يمكن أن تكون دعامة مثل هذا النظام.إنها هي التي وقفت في وجه الحركات "الناشزة" داخليا و في وجه الأخطار الخارجية المتمثلة بالغرب،ثم استمر الحال هكذا».
في ظل هذه الظروف التاريخية ابتدأت تنتشر التعاليم الدينية المكرورة في الزوايا،كما و ابتدأ الدين الشعبي ينتشر في الأرياف تحت إشراف الأولياء و الصالحين المحليين.وقد راحت هذه المتغيرات الاجتماعية و الإيديولوجية تعدل جذريا من شروط الفعالية الثقافية و الفكرية.
هكذا..
اختفى  التفكير الفلسفي من الساحة الفكرية الإسلامية،ليضل الموقف من الفلسفة (موقف الغزالي مثلا) موقفا ثابتا و مستمرا في الوعي الإسلامي حتى يومنا هذا.