تعلم التفلسف عند ميشيل طوزي – محسن المحمدي ورشيد أمعاز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن المغزى العميق لمقولة كانط الشهيرة:" لا يمكننا تعلم الفلسفة، بل يمكننا فقط تعلم التفلسف" هو أن درس الفلسفة بما هو مجال للحرية العقلية المتمثلة في التأمل النقدي، يقوم على التفلسف كعملية عقلية، نقدية، تساؤلية مستمرة. الغرض منها إزالة البداهة عن الأفكار المألوفة والأحكام المسبقة، والتخلص من هيمنة الحقائق المطلقة بإعادة النظر فيها وجعلها تتسم بالنسبية والقابلية للتجاوز. فالتفلسف إذن هو "المسار الذي نقطعه من بادئ الرأي (الدوكسا) إلى المعرفة (الإبستمي)" . كما أنه يعتمد على القدرات والإمكانات الذاتية للتفلسف باعتباره ذاتا مبادرة، فاعلة، منتجة، لها القدرة على التفكير الحر وإبداء الرأي وتحديد مسارها التعلمي وامتلاك سلطة تكوينها.
وهنا يبرز مفهوم التفكير الذاتي كتجسيد للحرية العقلية وللتأمل النقدي فهو يسمح للفرد بالتساؤل عن معنى وقيمة وجوده والمشاكل التي تطرحها حياته الشخصية والتزاماته الفردية والجماعية.

وبهذا المعنى يجد المتعلم نفسه –في إطار التعلم الذاتي-أمام وضعيات- مشكلة تتطلب منه إيجاد حلول لها اعتمادا على معارفه وإمكاناته وقدراته الفكرية وتجعله متورطا في البحث عن مخرج صنعه هو ولم يصنع له. مواجها لكل العوائق المتمثلة في المكتسبات المألوفة والأحكام المسبقة، موسعا لهامش مبادرته وفاعليته، وهذا ما يجعله تعلمه يتسم بالإيجابية.
تجليات التفلسف كتفكير ذاتي:
يرى ميشيل طوزي أن تعلم التفلسف يقتضي ثلاث سيرورات:
·    البناء المفاهيميLa conceptualisation : وذلك بتحديد معنى المفاهيم قصد الدرس ( الحق، الجمال، العقل، الحقيقة...إلخ).
·    الاستشكالLa problématisation : وهو القدرة على التساؤل فلسفيا حول المفاهيم وإدراك ما تنطوي عليه من مفارقات وتناقضات.
·    الحجاج L’argumentation: تقديم حجج وبراهين ومبررات تثبت أوتدحض المواقف والأطروحات المجيبة عن الإشكال.
العلاقات بين سيرورات التفكير الفلسفي (مفهمة، استشكال، حجاج):
-المفهمة: مرحلة أولى من مراحل التفكير الفلسفي التي يتم فيها بناء المفهوم (الموضوع) وإعطاؤه معنى انطلاقا من الانتقال به من المستوى المتداول إلى المستوى الأكثر دقة وضبطا وذلك بوضعه في محكات الدلالة اليومية واللغوية والفلسفية وباقي الحقول المعرفية الأخرى، خصوصا وأن المفهوم الفلسفي ليس مفهوما منعزلا قائما بذاته، بل إنه متعلق بغيره ضمن بنية شمولية تجعله يغتني من خطاب إلى آخر. هذا بالإضافة إلى أن المفهوم "كائن" تاريخي ينشأ وينمو داخل خطاب فلسفي معين. وتبقى لحظة بناء المفهوم لحظة أساسية تمكن المتعلم من "التحرر الذهني والوجداني من عوائق البداهات المباشرة والأحكام المسبقة والآراء الوثوقية".
-الاستشكال: حسب جاكلين روس J. Russ، أن نستشكل لا يعني فقط أن نتساءل بل أن نرتقي انطلاقا من مجموعة من الأسئلة المنظمة لنبلغ عمق المشكلة. ويمكن التمييز بين ثلاثة نماذج من الاستشكال:
·    نموذج التبرير الإشكالي: نجعل الإثبات والبداهة والتمثل والتعريف أشياء قابلة للشك، والطعن أي نضعها موضع تساؤل.
·    نموذج تفكيك المشكل: مساءلة السؤال نفسه والبحث عن ما وراءه من مشاكل فلسفية.
·    نموذج صياغة الإشكالية: تطرح فيه المشكلة بصيغة تعارضية، تبرز الخاصية الحوارية لفكر لا يبحث عن حلول نهائية بل عن أجوبة ممكنة.

إن مرحلة الاستشكال لحظة أساسية تتمفصل عندها لحظتا المفهمة والحجاج. فهو مناسبة لطرح تساؤلات تسمح لنا بالوقوف على مختلف التقابلات والمفارقات التي تثيرها المفهمة، وموجه للبحث عن أطروحات ومواقف فلسفية تجعلنا ندخل في لحظة الحجاج.
-الحجاج: إن عرض الأفكار والأطروحات المجيبة عن المشكل المطروح، يقتضي القيام بالمحاجة التي هي خطاب استدلالي إقناعي، هدفه التأثير على المخاطب وإقناعه بصواب أو بطلان موقف ما باعتماد مسوغات ومبررات وأدلة وحجج منطقية أو بلاغية.
وهكذا نخلص إلى أن تقديم الحجاج على أطروحة ما، دفاعا أو رفضا، لا يتم إلا من خلال الإجابة على مشكل معين يحدد العلاقة بين مجموعة من المفاهيم. فالمحاجة لا يكون لها معنى إلا في علاقتها بالإشكالية والإشكالية لا تكون ممكنة إلا بتحليل الموضوعات ومفهمتها.
انطلاقا من محطات التفكير الفلسفي هاته، تتبين لنا فعالية التفكير الذاتي القائم على المساءلة والنقد وحل الإشكالات بتقديم أطروحات أو دحضها اعتمادا على آليات حجاجية متنوعة. وهذا ما سيمكن المتعلم من بناء شخصيته وبالتالي تأهيله للانخراط في الحياة (الاجتماعية والسياسية...) وهذه إحدى الغايات الأساسية التي تراهن عليها منظومتنا التربوية.
الاستشكال عند ميشيل طوزي:
يخصص ميشيل طوزي فصلا من كتابه حول شروط طرح السؤال الإشكالي قبل الإجابة عنه، فيلح على ضرورة استبعاد الآراء والأحكام المسبقة والعفوية، واتخاذ مسافة إزاء المشكل أو السؤال المطروح من خلال خطوات منهجية منظمة تبدأ بإعداد السؤال والوقوف على مختلف مفاهيمه وعلى العلاقات المنطقية القائمة بينها، ودون إغفال "الكلمات الصغيرة" التي قد تؤثر بشكل أو بآخر على معنى السؤال كالظروف adverbes والنعوت adjectifs أو غيرها من الروابط. وحتى تسهل الإجابة عن السؤال المطروح، يشترط ميشيل طوزي تحديد الحقل الذي تثار فيه الإشكالية وكذا المشكل الفلسفي المثار من خلاله مع التركيز على طبيعة صياغة السؤال التي قد تعطينا فكرة عن طبيعة الجواب. وبعد إخضاع السؤال لكل هذه الإجراءات، يمكن الانتقال إلى البحث عن الجواب المناسب الذي يقتضي الأخذ بعين الاعتبار كل الممكنات من خلال تركيب يتجاوز ما قد يكون بها من تناقضات. كما أن السؤال ليس بالضرورة أن نجد له جوابا وذلك إما لمحدودية العقل وإما لتناقضات يستحيل دمجها في تركيب.
وما تجب الإشارة إليه، هو اعتماد ميشيل طوزي على أمثلة متنوعة من حقول champs مختلفة (فلسفة، علم نفس، علم اجتماع، إتيقا، سياسة...) هذه الأمثلة التي يستعين بها في كل مرة عند طرح سؤال من الأسئلة واضحة ودقيقة وتفي بالغرض منها. وهذا ما يجعل إمكانية التعلم الذاتي من خلال هذا الكتاب ممكنة خصوصا وأن هناك تمارين تتخلل كل لحظاته ويمكن الرجوع إلى حلول مقترحة لها.
ومن خلال قراءة هذا الفصل المترجم، نستشف البعد التعليمي في عمل ميشيل طوزي وذلك باعتماده على الأمثلة التوضيحية وعلى التدرج والتكرار والتلخيص وعلى التقويم. الشيء الذي يتيح للقارئ التعاطي مع الكتاب دون الحاجة إلى توجيه أو مساعدة خارجية، ومن ثمة فتح آفاق للتعلم الذاتي والتفلسف بعيدا عن كل رأي عفوي أو حكم مسبق.


هذا المقال هو تعليق على ترجمة سبق ان نشرها الكاتبان للفصل الخامس من كتاب – التفلسف الذاتي – لمؤلفه ميشيل طوزي .