عوائق التنوير في مشروع النهضة العربية الإسلامية - حيرش بغداد محمد*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس عادة ما يتم الأخذ بسنة 1798م كبداية لمشروع النهضة العربية، التي حاولت تغيير واقع الإنسان المفتقر للعلم والتفكير العقلاني والممارسة الديمقراطية.  من الجلي أنه على ما يزيد من قرنين مرا على محاولة تحقيق ذلك، ما زالت الكثير من إشكاليات النهضة لم تحل لأنه مازال المفكر العربي إلى الآن يطرح نفس الإشكاليات النهضوية حول الدين والفلسفة، الدين والسياسة، وقيمة المعرفة العقلانية مقابل المعرفة الدينية، وطبيعة العلاقة المفترض إقامتها مع الغرب. حيث يقول برهان غليون: <<...بل أن العديد من المثقفين انتبهوا إلى أننا عدنا نطرح اليوم نفس المشكلات التي كان يطرحها منذ أكثر من قرن جيل النهضة.>>()، ويظهر أن العائق المركزي الذي أدى إلى الفشل في تحقيق النهضة، والذي انتبه إليه من انصب اشتغالهم على نقد مشروع النهضة، يتمثل في ميل المفكرين إلى اتخاذ المواقف التوفيقية، وقبول الحلول الوسطى. هذه التوفيقية أو كما سماها نصر حامد أبو زيد بالتلفيقية تجنح في آخر المطاف إلى التمسك بالماضي وبالدين أساسا. وقد اكتفى رجال الإصلاح بتقليد المرحلة الأولى من الحداثة الأوروبية. كما رأى بن مزيان بن شرقي() في كتابه "التاريخ والمصير". لأن المستوى الأول من الحداثة الغربية كان يتجه إلى استرجاع التراث الإغريقي، أما المستوى الثاني فعلى العكس اتجه إلى المستقبل بعد تطور العلوم التجريبية. وهذا ما يفسر أن العرب بقوا حتى سنة 1967م يريدون تغير أحوالهم باسم مشاركتهم السابقة في الحضارة. وميل مصلحي النهضة إلى الماضي لم يكن عفويا بل كان نتيجة ما تعرضوا له من ضغوطات جعلتهم يقدمون تنازلات و ترضيات للاتجاه السلفي. إذا ما هي الأسس الفكرية التي بني عليها مشروع النهضة العربية الإسلامية، وما حقيقة العوائق التي حالت دون أن يحقق أهدافه؟
اuالالصة بية ممثلcolor: #800000">1- في مفهوم الحداثة:<خالصة لوu>اbr /> الحداثة نمط حياتي يتجسد فيه مستوى وعي الجماعة حسب جون بودريار. وهي عكس عالم التقاليد، لأن مصطلح حداثة/Modernité مشتقة من الكلمة اللاتينيةModernus" " وتعني "الآن" أو الزمن الحاضر. في حين أن التقليد يرجع إلى الزمن الماضي، والأصل ""Modus يعني يقيس، لذلك هناك ارتباط وثيق بين الحداثة والعقلانية والعلم. يقول ألان توران: << فكرة الحداثة تغير الله من مركز المجتمع وتستبدله بالعلم، تاركة الإيمان الديني داخل الحياة الخاصة، ولا يكفي حضور التطبيقات التكنولوجية حتى نتكلم عن الحداثة، يجب بالإضافة أن يكون النشاط العقلي محميا من الدعايات السياسية أو المعتقدات الدينية.>>(). إن منشأ الحداثة في الغرب مرتبط بتغيير العلاقة التي كانت موجودة بين الدين والحياة السياسية والاجتماعية، بحيث تم زحزحة المعتقدات الدينية من مركز الحياة ليحل محلها العقل والعلم. بعد أن عانى العقل من الممارسات السياسية والدينية السائدة في العصور الوسطى، والتي فرضت عليه وصاية محاكم التفتيش.
اوdiv>

 كما أنه من الضروري التمييز بين الحداثة والتحديث، لأن التحديث إجراءات عملية ذات طابع اجتماعي وسياسي تفرضها ضرورات حيوية. كما فعل مثلا محمد علي عندما شرع في تحديث الجيش والتعليم وبناء الصناعة الآلية، وإرسال البعثات العلمية إلى الخارج. أما الحداثة  فهي التأسيس المعرفي  للتحديث بالانتقال من المجال التطبيقي إلى المجال النظري ومجال الوعي. لذلك فإن الحداثة نمط حضاري يرتكز على الإيمان بقيمة العقل والعلم، واتخاذ موقف خاص من كل ما يمكن أن يعيق بروزهما.اbr /> الحداثة في أوروبا ارتبطت بالتنوير. فما هي الأنوار؟ سؤال طرحه إمانويل كانط، ونجد الإجابة عنه في كتاب" فلسفة الأنوار" لإرنست كسرر:<< ما هي الأنوار؟ هي خروج الإنسان من ضعفه المسؤول عنه، ضعفه الذي يعني العجز عن استعمال فهمه عندما يكون تحت توجيه الآخر، وهو المسؤول عن هذا الضعف،لأن السبب لا يمكن في عيب الفهم ولكن في قلة القرار والشجاعة في استعماله عندما يكون تحت توجيه آخر..>>(). هذا الآخر لا يمثل إلا في التقاليد والماضي، والشجاعة تكمن في إمكانية ممارسة التفكير النقدي أمام ما هو جاهز. فكما أن العالم الفلكي كوبرنيك أحدث ثورة فلكية حينما فشل السابقون في إحراز أي تقدم لتفسير حركة الأجرام السماوية بافتراض أنها تدور جميعا حول الشخص الملاحظ. عمل كوبرنيك على جعل الشخص الملاحظ يدور وأن تظل النجوم ثابتة. وهي الفكرة التي انطلق منها كانط في نقده للعقل النظري بأن جعل الفكر بمقولاته يدور حول الموضوع و يؤطره، وبهذا الشكل أنشأ نظرية معرفة جديدة تعطي "للقبلي" قيمة في تحصيل المعرفة. كما عمل كانط في مجال نقد العقل العملي على إبداع أخلاق جديدة بعيدا عن الدين وعما هو نافع أو ضار.
لقد ارتبط مشروع النهضة العربية الإسلامية بفكرة التقدم أي محاولة الارتفاع من حالة المدنية الدنيا إلى الحالة العليا. أي من حالة متأخرة على حالة متقدمة. ويميز برهان غليون بين الحداثة وبين النهضة على أساس أن الحداثة تحصل في المجتمعات العربية الإسلامية بشكل عفوي وتلقائي، ونتيجة التفاعل الحضاري يتم انتقال أنماط السلوك والمنتجات الغربية. في حين أن النهضة مشروع وإستراتيجية تتمثل في القدرة على الاختيار بين البدائل، ورسم طرق لكيفية الدخول في الحضارة، وذلك من أجل خلق وعي جماعي. إلا أن أنماط السلوك والمنتجات المادية التي تنتقل إلى العالم العربي تعكس عملية التحديث وليس الحداثة. وتتمثل الإستراتيجية التي قام عليها مشروع النهضة على أساس إصلاح الدين مما لحقه من خرافات جعلت الجماهير تميل إلى الاتكال والجمود، وفي نفس الوقت التأكيد على أهمية العلم والعقل كما فعل الأفغاني و الطهطاوي. يقول برهان غليون: <<...وكأن الأفغاني يكمل هنا الطهطاوي في تبريره وتشريعه للاقتباس من الغرب حين ذكر أن الاختراع ليس كفرا وإنما هو علم...وميز بذلك بين الاختراع النافع والبدعة الفاسدة التي تؤدي إلى الضلالة، والضلالة تؤدي إلى النار.>>(). وهذا الإصلاح يعبر كذلك عن المصالحة بين الدين والعلم، وأصبح الرهان على عدم تعارضهما هو محور عمل رجال النهضة من الإسلاميين. في حين أن الحداثة الغربية قامت على أساس الفصل بينهما، معيدة الاعتبار للإنسان كمركز للعالم ومحور له. وأصبحت الفلسفة تفكير في الوجود خارج مفاهيم اللاهوت، مؤسسة العقلانية كذلك على الفصل بين الدين والفلسفة. ويرى سبينوزا مثلا أن هدف الكتابات المقدسة هو الطاعة لا العلم، لأنها تتوجه إلى شعوب ما زالت في مرحلة الطفولة، وأنه حتى الرسل يقاسمون شعوبهم الأخطاء العلمية. فماذا يهم إذا كان "اليسوع" يجهل الفلك أو كان سليمان يجهل الرياضيات؟ يقول براشفيك في توضيحه لآراء سبينوزا: << أيضا فإن ميدان العقل وميدان الإيمان منفصلان تماما، ولا يوجد بينهما أية نقطة تواصل، مما يؤدي إلى عدم الصراع المتخوف منه، لا اللاهوت هو في خدمة الفلسفة، ولا الفلسفة في خدمة اللاهوت، وإذا جعلنا اللاهوت موضوعا للتفكير العلمي، فإننا نحكم على أنفسنا بأن  نراكم تأويلات مرهفة و الاستحواذ على الدروس المشكوك فيها أو المزورة من أجل إيجاد في الكتاب المقدس تخيلات غير مقبولة خاصة بأفلاطون أو أرسطو.>>(). بمعنى أن محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين تؤدي إلى محاولة إيجاد التأويلات التي تظهر النصوص الدينية بمظهر علمي وفلسفي. في حين أن هذه النصوص لا ترتقي إلى هذا المستوى، فهي تتواصل مع الإنسان ذو قدرات محدودة وكأنه ما يزال في مرحلة الطفولة. وهكذا فإن هناك اختلافات كبيرة بين أسس الحداثة الغربية وأسس النهضة العربية الإسلامية.
اuالالصة بية ممثلcolor: #800000">2-الخلفيات التاريخية لانتكاس التنوير:<خالصة لوu>اbr /> يركز محمد عابد الجابري في دراسته للتراث على مرحلة "إعادة التأسيس" أو "عصر التدوين الجديد" الذي تحقق في المغرب والأندلس وتجاوز بكثير تناقضات الفلسفة الإشراقية في المشرق. والتي كان من نتائجهاغ"استقالة العقل" وتكريس التصوف واللامعقول. ويعتبر ابن رشد في نظر الجابري مركز العقلانية بالإضافة إلى إبن باجة و إبن حزم و الشاطبي...إلا أن نصر حامد أبو زيد يعيد النظر في المنجزات الفكرية و الطروحات العلمية لابن رشد. يقول في شأن ذلك: << وهو الذي اضطر-أي ابن رشد- تحت ضغط الخلافة الإسلامية وسيطرة الخطاب الغزالي والأشعري إلى تقديم الكثير من التنازلات و "الترضيات".>>(). ويتميز ابن رشد بالمقارنة مع الفلسفة الإشراقية أنه أقام نظاما معرفيا يبدأ من الجزئيات ليصل إلى الكليات. أي أن المعرفة تبدأ من عالم الحس ليصل إلى عالم ما بعد الطبيعة، عكس أبو حامد الغزالي الذي يبدأ من النص ذو المصدر الإلهي ليصل إلى عالم الحس. والنص الديني لا تعرف دلالته الحقيقية إلا من خلال "المعراج الصوفي" الذي يقرب العارف من الله (عالم الملكوت© النص © عالم الحس). ورغم ذلك فإن ابن رشد استلهم المعرفة الإشراقية عندما اعتبر أن الله "نور" بهدف تعليم العامة. في حين أن المعرفة البرهانية تقتضي القول إن الله "عقل خالص". وعلى اعتبار أن العامة لا يحق لهم الإطلاع على المعارف البرهانية والفلسفية فسيظلون يتمسكون بتلك المعرفة الإشراقية. وبذلك فإن ابن رشد يخدم العرفان أكثر مما يخدم البرهان. بالإضافة إلى أن تقسيم الناس إلى عامة وخاصة ذو أصل صوفي، فهناك من يمتلك القدرة على التأويل وبالتالي على العروج وهم  الخاصة، وهناك من ليس لديهم هذه القدرة وهم عامة الناس. والغريب أن ابن رشد يأخذ بهذه القسمة، وبدل العمل على نشر الفلسفة أغلق الأبواب في وجهها عندما اعتبر أن باب البرهان مغلق أمام العامة، وهو عائق أمام انتشار المعرفة وعالميتها. لذلك يقول أبو زيد: << رغم أن ابن رشد حاول أن يكشف تهافت التهافت، ويستعيد للبرهان مكانته في مرجعية التأويل، فإنه لم يسلم هو نفسه من علامات التراجع التي كانت واضحة في الثقافة التي ينتمي إليها.>>(). مع العلم أن ابن رشد يمثل مرجع أغلب الخطابات "التنويرية" لمشروع النهضة، وحتى المفكرين العرب المعاصرين. فكيف يمكن والحالة هذه الارتكاز على مرجعية "عقلانية " خضعت هي نفسها إلى ضغوطات الخطاب النقيض وقدمت له الكثير من التنازلات؟ هذا ما جعل أبو زيد في كتابه "النص، السلطة، الحقيقة " يتكلم عن سلفية دينية من ممثليها: الحنابلة، الأشاعرة، الصوفية، حسن البنا، رشيد رضا،...ويتكلم كذلك عن سلفية تنويرية ومن بين ممثليها: المعتزلة، ابن رشد، الطهطاوي، الأفغاني، محمد عبده،…فكل هؤلاء يدخلون في نطاق السلفية وإن تعددت الصفات المضافة إليهم. لأن عند كل هؤلاء تسود "التلفيقية التبريرية" التي شملت مجمل نشاط العقل العربي. وهذا مخالف للحداثة حسب جابر عصفور، فلا يجب على الوعي الحداثي أن يتحول من جذرية رفضه إلى المهادنة والمصالحة. يقول جابر عصفور: <<  الوعي الحداثي وعي ضدي، لأنه يضع نفسه وواقعه وتراثه وحاضر الآخر وتراثه موضع التساؤل والشك وليس موقف القبول والإذعان.>>(). الحداثة بهذا الشكل هي ضد كل تقليد للآنا أو للأخر.

اuالالصة بية ممثلcolor: #800000">3- تلفيقية مشروع النهضة العربية الإسلامية:<خالصة لوu>اbr />     يطرح عبد اللهغالعروي ثلاثة نماذج لثلاثة أنماط من الشخصيات والتي لكل واحد منها نظرة خاصة إلى الغرب. فهناك "الشيخ" أو رجل الدين الذي يقيم تعارضا بين الغرب والشرق وبين الإسلام والمسيحية مثل محمد عبده. وهناك "السياسي الليبرالي" الذي ينظر إلى أساس الغرب كحامل لقيم الحرية والديمقراطية مثل لطفي السيد. وهناك أخيرا "التقني" الذي يماثل بين الغرب والتقنية ويأخذ بمنجزاته التقنية والعلمية كسلامة موسى. ويبقى نموذج الليبرالي السياسي هو الذي يتمثل الحداثة بشكل صحيح. يقول بن شرقي بن مزيان: << رغم هذا فإن النموذج الذي يلقى صدى في نظر العروي عند العرب وفي الحقل الثقافي والسياسي العربي يبقى الأنموذج السياسي الليبرالي لا لشيء سوى لأن الشيخ غامض جدا، وداعية التقنية مفرط الإدعاء.>>(). الواضح أن مشروع النهضة في ارتكازه على فكرة الإصلاح الديني ارتبط بالشيخ. حيث يؤكد أبو زيد ذلك بقوله: << إن الرواد الأوائل للنهضة في معادلتهاغالتوفيقية وفي مختلف مراحل حياتهاغوموتها كانوا دائما رجال الدين وأئمته.>>(). مما أدى إلى عدم الوصول بمشروع النهضة والحداثة والتنوير إلى غاياته القصوى. و بدل اتخاذ المواقف الحاسمة في الإجابة على مشكلة الإنسان والتاريخ مال الشيخ إلى التوفيق بين الذين والعلم، إلى حد الميل الكامل إلى الدين. وأنه حتى فكرة التوفيق بين العلم والدين والقول بإمكانية الأخذ عن الآخرين لم تكن مقبولة من طرف المؤسسة الدينية. يقول أبو زيد: << حين قالوا بذلك التوفيق بين طرفي معادلة النهضة، فإنهم أقيلوا عن الأزهر وصودرت كتبهم، وأنهم تراجعوا خطوة أو خطوات- سواء بالصمت أو بالرضا .>>(). وهذا ما يفسر أن الخطاب السلفي الذي يحاول تغير الواقع بحد السيف لا بقوة الكلمة هو مجرد تطوير لخطاب مؤسسي حركة "الإصلاح الديني".اbr /> إن تضمن حركة الإصلاح للاتجاه السلفي "المنغلق" يعود إلى أن المصلحين كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده دعيا إلى مناهضة الغرب ومقاومته مستعين بأسلحته المادية والفكرية. وخاصة بعد أن تحول الغرب من "الخصم المتفوق" إلى "العدو المنتصر" مظهرا أطماعه الاستعمارية. أما بالنسبة لمشكلة الإنسان والتاريخ، فإن محمد عبده ظل متمسكا بمسألة قدم الكلام الإلهي وأزليته بطريقة ضمنية. وبالتالي استبعاد كون "الوحي" واقعة تاريخية قابلة للتأويل الإنساني. وهذا ما جعل عبده لا يحسم في العلاقة الموجودة بين الحرية الإنسانية وتدخل الإرادة الإلهية في صنع العالم، وبالتالي عدم القدرة على نقل الفرد من مرحلة الوعي الديني الغيبي على مرحلة الوعي العلمي بالظواهر الاجتماعية و الطبيعية معا. كما حدث بالنسبة للنظرة الغربية التي ألغت القدرة الإلهية في توجيه الأحداث التاريخية، وتأكيدها على مسؤولية الإنسان وحريته تجاه تلك الأحداث التاريخية، فالحقيقة المطلقة ليست أزلية، ولا خارج متناول البشر وهذا ليس موقف أبو زيد فقط بل كذلك موقف عبد اللهغالعروي.اbr /> هكذا يبقى الإصلاح مقيدا بالموقف التبريري والتوفيق بين المتناقضات لأسباب نفعية برغماتية تخدم السلطة السياسية. ويظهر هذا بوضوح في طرح محمد عبده لفكرة "المستبد العادل" ودوره في تحقيق الحداثة، كوصي على الجماهير بسبب نقص وعيها. وتظهر هنا المفارقة عند الجمع بين الديمقراطية والقائد الملهم الذي يكون بيده خلاص الناس وتطورهم. في حين أن سبينوزا في معالجته لنفس الفكرة، أي إمكانية وجود ولو لفترة قصيرة نظام حكم استبدادي يخلص الناس من التجاوزات السياسية الممكن حدوثها خلال فترة الحكم الديمقراطي. فإن سبينوزا يرفض ذلك من منطلق "أكسيومي" باعتبار أن مبادئ وفرضيات نظرية معينة لا تصلح إلا داخل تلك النظرية. يقول: << العلاج الأول الذي يظهر للفكر، هو أنه كل خمس سنوات، يقوم دكتاتور مطلق لمدة شهر أو شهرين، دكتاتور يكون له الحق في فتح تحقيق حول أفعال النواب  والموظفين لمحاكمتهم و أخذ القرارات، وبعد ذلك إعادة الدولة إلى مبدئها ولكن من أجل حماية الدولة من الآفات التي تهددها، لا بد من تطبيق العلاجات التي تتلاءم مع طبيعتهاغوالتي يمكن استنباطها من مبادئهاغالخاصة.>>(). إنه لا مجال هنا للجمع بين المتناقضات. إن فكرة "المستبد العادل" قائمة على أساس أن المجتمع لا يستطيع إصلاح نفسه بنفسه، فلا بد له من إرادة خارجية تمارس الاستبداد ليس ضده ولكن من أجله، بحيث هناك نوع من الاحتقار للجماهير. وهذا ما يؤكد عليه أبو زيد: << ومن الضروري الإشارة هنا إلى بعد من إبعاد خطاب النهضة لم ينتبه له كثيرون حتى الآن.هذا الخطاب عدا استثناءات قليلة لأفراد ظلوا مهمشين- كان خطابا نخبويا سلطويا بالأساس، اعتمد على النظر للناس والجماهير نظرة متعالية بسبب جهلها الناتج عن فقرها المادي.وهذا الخطاب في بعده الديني الإصلاحي بصفة خاصة ساهم بشكل مباشر في إفقار الجماهير، إفقارا روحيا حين وصم ممارسات الجماهير الدينية الاحتفالية وعقائدهم في الأولياء والشفاعة الخ...بوصفها عقائد وثنية.>>(). فوصف هذه الممارسات الاحتفالية بأنها وثنية، يؤدي إلى إخراجها من دائرة الإسلام، وأن منعهم من هذه الممارسات يجردهم من الوسائل التي تتناسب مع وعيهم وتوصلهم بالله.اbr /> هذه النظرة الخاصة إلى الجماهير ستجعل الذين جاؤوا بعد مصلحي النهضة كرشيد رضا، وحسن البنا، وسيد قطب وغيرهم يتجاوزون توفيقية مشروع النهضة التي نشأت تحت ضغط الظرفية الدفاعية والاحتماء بالذات. ورأى هؤلاء المتأخرين أنه لا يمكن أن تقبل "الحاكمية" نظرية  "التعاقد الاجتماعي". لأن الجماهير مازالت بحاجة إلى الوصاية السياسية والدينية، وهذا ما جعل حسن البنا في رسائله يدعو على اعتبار "الخلافة" شعيرة إسلامية. يقول: << ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان من الخلافة وما يتصل بها وبيان ذلك أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرهاغو الاهتمام بشأنها.>>(). ولا يتردد في أن يصف "الإمام" بأنه ظل الله في الأرض. وفي المجموعة الثانية من الرسائل ينتقد الفصل الذي حدث بين الدين والسياسة في الحكومات الحديثة معتبرا أن ذلك إفساد للدوق الإسلامي في رؤوس الناس. لأن كثير من القوانين التي تعمل بها المحاكم تتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام. وهنا يكمن في رأيه التناقض بين الدستور الذي يعتبر أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وبين القوانين حيث يقول: << وأحب أن أنبه إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التي تسير عليها المحاكم، إذ أن كثيرا من هذه  القوانين منه ما يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام...>>(). وقد طرح كذلك رشيد رضا فكرة "الخلافة" بدون وضع أي حدود بين القدرة الإنسانية والقوة الإلهية. وفي رأي الطاهر بن عيسى الذي قدم لكتاب الخلافة لرشيد رضا. فإن هذا الأخير أهمل دراسة التاريخ، وتحدث عما يجب أن يكون. يقول الطاهر بن عيسى: <<  فالتاريخ الصحيح بالنسبة له يتقلص ليغطي فقط مرحلة الخلفاء الراشدين أما ما عداه فهو خاطئ.>>(). إن هذا الموقف يخلو من النظرة النقدية، لأنه حتى الخلافة الراشدة عرفت الفصل بين السياسي والديني، ومهدت بشكل ما لظهور دولة الملك السياسي. فإهمال دراسة التاريخ يهدف إلى "التعالي" بالتاريخ و استعباد الإنساني وإبقاء حضور الإلهي ليحتفظ بكل مثاليته التي يطمح البشر إلى محاكاتها.اbr /> إذا كان عبد اللهغالعروي يصف الشيخ بالغموض، فإن علي أمليل يصف خطاب المصلحين بـ "قلق العبارة" و"قلق المفاهيم". هذا القلق الذي له علاقة بالتردد المستمر بين الدين والليبرالية، الحاضر والماضي…بحيث تصبح وظيفة المثقف الجديد حسب العروي هي "زحزحة" و "خلخلة" الإيديولوجيا السائدة المعادية للتاريخ، وللنسبية في مجال المعرفة، والإرادة في مجال التاريخ. وهذا ما جعل أبو زيد يطرح "التثوير" بدل "التنوير". يقول: << والحقيقة أننا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية في حاجة إلى ما هو أكثر من التجديد، نحن بحاجة إلى " تثوير" فكري.>>(). لأن الحداثة لا تقوم على المهادنة  والمصالحة بل على الرفض الجدري بالعودة إلى السؤال الذي ظل مضمرا في مشروع النهضة والمتمثل فيما يلي: كيف حققت أوروبا تلك النهضة الهائلة من ظلام عصورها الوسطى إلى نور التقدم؟ والإجابة أن ذلك تحقق بنقد التراث والعقائد. وهذا ما لم يسمح به الموقف التلفيقي في مشروع النهضة العربية الإسلامية، لأن الخطاب "التنويري" إذا ما وجد نفسه بين الخطاب الإستشراقي والخطاب السلفي، يميل إلى الدفاع عن التراث بدل نقده. وفي مقابل الحوار الذي كان قائما بين الخطاب السلفي والخطاب التنويري الليبرالي في المرحلة الأولى من النهضة، يظهر في المقابل العقاب" التكفير". كما حدث لعلي عبد الرازق، عندما ظهر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925م. وينقسم بذلك التراث من جديد إلى تراث الفرقة الناجية (الأشعرية في الأغلب) في مقابل الفرقة الضالة كما يرى جابر عصفور.اbr />  إن إقامة الحداثة على عملية "التثوير" الفكري التي لا تترك مجالا للمصالحة بين العقل  والدين. وتقيم علاقة صراعية بين الاتجاهات العقلانية والإتجاهات التراثية. كل ذلك يتضمن مخاطرة كبيرة تنبته لها الغرب. مما استلزم نقد الحداثة الغربية التي كانت قائمة على أسس عقلانية، عندما طرحت ما بعد الحداثة التي ترفض شمولية الأفكار والنظريات الكلية في التاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية. لذلك يقول على حرب:<< والقول أن العقل التنويري الحديث هو أمر لا عودة عنه، يعني التعامل مع مفردات العقل والتنوير و الحداثة  والتقدم، بمعايير العقل اللاهوتي ذي الطابع المطلق و الثبوتي.>>(). فالحداثة تبقى مشروع غير مكتمل حسب بول ريكور. ونقد الحداثة الغربية بدأ مع كل من نيتشه و فرويد اللذين أكدا على مبدأ الرغبة في الإنسان مقابل العقل. يقول آلان توران: << بداية من نيتشه و فرويد، توقف الفرد على أن يكون متصورا كعامل، كمستهلك أو كمواطن، أو أن يكون مجرد كائن إجماعي، بل أصبح كائن الرغبة، مسكون بقوى لا  شخصية وبلغات، ولكن كذلك كائن فردي، خاص...>>(). وأصبح يتم الإعلاء من شأن الجمالية، والتفكير في جعل الحياة تحفة فنية. كما أن الفلسفة النقدية مع هوركيمر"Horkheimer" وأدرنو"Adorno" أظهرت أن العقلانية التقنية التي تطورت عن العلم هي عقلانية السيطرة لأن العقل أصبح خاضعا لصيرورات الإنتاج ولمعايير الصناعة. كما تم نقد الفلسفات التي ضحت بما هو خاص في الإنسان لصالح الأنساق الكلية، التي تجعل العقل والرغبة يتنازلان أمام مبدأ الواقع والتقنية الذين يجعلان الفرد مجرد وسيلة. ويرى محمد نور الدين أفاية أن النظرية النقدية جعلت العودة إلى "اليوتوبيا" كشكل من أشكال الحرية والفكر آخر السبل لممارسة الرفض أمام هيمنة الحداثة التقنية. لأن المجتمع "اللاقمعي" يسمح بسيادة "الإيروس" الذي يحد من هيمنة العقل التقني. وهذا ما جعل جان بودريار يتكلم عن مفارقة الحداثة قائلا :<< فهي تدمير وتغيير ولكنها أيضا ازدواجية ومساومة وخلط...>>(). الازدواجية والمساومة والخلط في الحداثة تظهر بوضوح وجلاء في الكتابات المعاصرة للفلاسفة الغربيين أمثال جون باتوتشكاJan" "Patocka  في كتابه "أزمة المعنى" الذي يحلل فيه موقف أستاذه ماساريك"Masaryk" ، بحيث نلمس في مواقفه العودة إلى الدين المسيحي. معتبرا إياه وسيلة للعلاج الأخلاقي و الاجتماعي لما أصاب الحضارة الغربية من نزعة تدميرية متجلية في الحروب، أو الاتجاه نحو الانتحار الذي يتزايد عند الشعوب غير المؤمنة. وينتقد كذلك نيتشه الذي ركز على النزعة الذاتية التي تقدس الجسد، وتقدس الهنا الأرضي. يقول باتوتشكا: << إن نيتشه بنزعته الذاتية وبالهنا الأرضي يحاول أن يدحض ميتافيزيقا هدف الحياة الإنسانية والتخلص من الطريقة التي تكونت بها بواسطة كانط الذي أعطى ميله للميتافيزيقا توجها جديدا بعد انهيار الأنطولوجيا اللاهوتية وبالنسبة لنيتشه فإن الهنا الأرضي لن يفرض نفسه كما عند كونت مثلا بوسائل التطور العقلي الهادئ، لأن الهنا الأرضي مضطر للصراع من أجل عمق الإنسان...>>(). فقد انتقد كانط الدين في البداية لكنه عاد في الأخير لإثبات قيمته. لأن الهنا الأرضي وحده غير كاف لتحقيق الخير المطلق. أما "كونت" فقد رأى أن التطور العلمي يهيئ للمرحلة الوضعية التي تجعل الإنسان يؤمن بالعلم أكثر متجاوزا المرحلة اللاهوتية والميتافيزيقية، لكن بدون أن يحيل "كونت" إلى "الصراع" كوسيلة لذلك. إلا أن "نيتشه" كان نقده تدميريا وخاصة للأسس التي تقوم عليها الأخلاق المسيحية واليهودية. بحيث جعل من شروط الحكمة أن يكون الإنسان مقاتلا وعنيفا. ففي هكذا تكلم زردوستروا يقول: "غير مكثرتين، ساخرين، عنيفين، هكذا تريدنا الحكمة: إنها امرأة، إنها لن تحب أبدا إلا مقاتلا." في حين أن "الصراع" حسب "مساريك" لن يولد إلا إرادة التدمير الذاتي والعنف. فلا بد من العودة إلى الهنالك، لأنه وحده يعطي للإنسان قاعدة ميتافيزيقية وأساسا أخلاقيا.اbr /> يرى كذلك آلان توران أن علاقة الدين بالحداثة في العالم الغربي مازالت قائمة. رغم أنه عند دخول العالم الغربي في الحداثة فإن الذين تفجر، لكن أجزاءه لم تختفي تماما. وفي الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن الكتاب المقدس (الإنجيل) معترف به كأساس ديني لضمان احترام الدستور. وأن الفكرة التي تراعي ضرورة إستناد الحياة الاجتماعية على القيم الدينية المشتركة تبقى قوية وفاعلة.
يمكن القول أخيرا أن مشروع الإصلاح لم ينجح. لأنه لو نجح لما حصل الاحتلال كما رأى ذلك عبد اللهغالعروي. لكن هذا ليس مبررا لممارسة النقد التدميري الشامل على مشروع النهضة، بالقول أنه يغلب عليه الطابع التوفيقي والتلفيقي. ولا يمكن استبدال علاقة المصالحة بين السماء والأرض بعلاقة أخرى مبنية على الصراع والعداوة أو "الثورة" بمفهوم نصر حامد أبو زيد، بهدف محاكاة لحظة التنوير الغربية. إن مشروع الحداثة عبر تطوراته التاريخية أعاد بناء الحداثة على أسس المصالحة والمهادنة مع الدين. لذلك يبقى رواد النهضة العربية الإسلامية متحلين بالجرأة والشجاعة الفكرية إلى حد ما. يقول العروي: << إذ أرى أن فكر النهضة يتصف قبل كل شيء بحرية الرأي و الاختيار، بالجرأة على الاجتهاد و اعتباره واجبا دينيا وطنيا وأخلاقيا. نلمس هذه الجرأة عند الجميع، عند فرح أنطون ومحمد عبده، عند يعقوب صروف والكواكبي...>>().

االصة بية ممثلcolor: #800000">مراجع البحث:<خالصة لbr />
 االصة بية ممثلcolor: #000000">  برهان غليون – اغتيال العقل- دار التنوير للطباعة والنشر- ط2، 1987. ص202.اbr />  بن مزيان بن شرقي باحث جزائري من جامعة وهران، قسم الفلسفة بالسانيا.اbr />   Touraine Alain- Critique de la modernité -Fayard.1992.p24.اbr />   Cassirer Ernest - La Philosophie des lumières- Traduit de Lallemand et présenté par: Pierre Quillet. Fayard, 1966. p178.اbr />    برهان غليون– اغتيال العقل- دار التنوير للطباعة والنشر- ط2، 1987. ص 188.اbr />   Brunschvicg Léon- Spinoza et ses Contemporains- P.U.F.4emeédition, 1951. p 15.اbr />   د نصر حامد <خالصة لالصة بية ممثلcolor: #000000"> أبو زي<خالصة لالصة بية ممثلcolor: #000000">- الخطاب والتأويل- م.ث.ع – ط1، 2000. ص26.اbr />   المصدر السابق . ص 66.اbr />   عصفور جابر – هوامش على دفتر التنوير- م.ث.ع- ط1، 1994. ص 75.اbr />   بن شرقي بن مزيان – التاريخ والمصير- دار الغرب للنشر والتوزيع- ب ط ، 2000. ص 70-71.اbr />   أبو زيد نصر حامد – النص، السلطة، الحقيقة – م.ث.ع – ط1، 1995. ص 49.اbr />   المصدر السابق. ص 50.اbr />  Spinoza. B  -Philosophie et politique- Textes Choisis par: Louis Guillermit P.U.F .1ere édition, 1967.p 99.اbr />   أبو زيد نصر حامد- الخطاب والتأويل – م.ث.ع- ط1، 2000. ص 228-229.اbr />   البنا حسن – مجموعة رسائل، ج1 – مكتبة رحاب ( الجزائر) – ب ط ، ب س.  ص 284.اbr />   البنا حسن- مجموعة رسائل، ج2-مكتبة رحاب( الجزائر) – ب ط ، ب س. ص 69.اbr />   رضا رشيد – الخلافة – تقديم: الطاهر بن عيسى- موفم للنشر-ب ط، 1992. صXII..اbr />   أبو زيد نصر حامد- الخطاب والتأويل- م.ث.ع- ط1، 2000. ص 232.اbr />   حرب علي – الإستلاب والإرتداد- م.ث.ع- ط1، 1997. ص 16.اbr />  Alain Touraine -Critique de la modernité-Fayard-1992.p155.اbr />   أفاية محمد نور الدين-الحداثة والتواصل- إفريقيا الشرق – ط1، 1991. ص 118.اbr />  Jصة Patocka- la crise du sens, Tome 1-traduit du Tchèque par: Erika Abrams Edition OUSIA, 1985.p 200.اbr />   ثربل داغر وآخرون- عصر النهضة- م.ث.ع- ط1، 2000. ص 279.<خالصة اوdiv>
----------------- اوdiv>
*  االصة بية ممثلcolor: #ff6600">الاسم الكامل: حيرش بغداد محمداbr /> الجنسية: جزائريةاbr /> تاريخ الميلاد:25 سبتمبر 1972.اbr /> 1/ ليسانس فلسفة من قسم الفلسفة بجامعة السانيا- وهران
2/ 2003 ماجستير فلسفة حول القراءة النقدية للتراث وعائق التكفير-نصر حامد أبو زيد نموذجا-
3/ أحضر حاليا للدكتوراه حول "حقيقة النزعة المثالية الألمانية".  اbr /> 1/ 12 سنة في التعليم الثانوي.
2/  حاليا بمركز للأبحاث في الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC).<خالصة لbr /> <وdiv>

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟