تجديد العلاقة البيداغوجية ـ ذ. محمد الجيري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse16048"   L’école n’est pas une guerre entre élèves et maître, c’est une collaboration affectueuse, une lente ascension commune vers la connaissance et l’amour.  "
Henri Vincenot.

يحمل الواقع اليومي تحديات جديدة وكثيرة بالنسبة للبناءات النظرية، وتتسارع وتيرة التحولات التي يشهدها الراهن ما يفضي إلى تآكل أدوات وآليات النظام المدرسي أمام تغول التكنولوجيا وسطوة التغيرات التي تشهدها الأجيال الحالية للمتعلمين، وتحول ثقافة الشباب، وانتظارات المجتمع.لا بد من الوعي باللحظة التي يوجد فيها المشتغلون بالتربية والتكوين، ومن اعتبار الوضع العام للمدرسة والمعارف المدرسية، وعلاقة ذلك بالمحيط العام والخاص، وبل وعلاقات كل ذلك بالتلميذ، فلا حاجة للتذكير بأن العالم اليوم أضحى أكثر تعقيدا مما نظن، فالسياق المجتمعي الحالي ما فتئ يطرح على المدرسة معادلات تربوية معقدة من قبيل أفق العلاقة البيداغوجية، ومعها يصبح من الضروري مساءلة دور المدرسة كفضاء للتنشئة الاجتماعية من حيث قدرتها على إيجاد مناخ سليم لإقامة علاقات تربوية وبيداغوجية متوازنة متحررة من قبضة الماضي، مواكبة لروح العصر، وبالتالي مسهمة في تحرير الطاقات ومنتجة لفرص التحصيل والنجاح الدراسي. وما يضفي على هذه العلاقة طابعا إشكاليا كون انتظارات المجتمع من المدرسة لا تلتقي أحيانا مع حاجيات وميوله، ولذلك فإن فعل الإكراه - الذي يمارسه النظام المدرسي على زبنائه لتحقيق غاياته-، وما يولده من توتر يتحول إلى خاصية ملازمة ولصيقة بالعمل المدرسي.

سياق التجديد


إذا كان التدريس لا يختلف عن غيره من الأنشطة الإنسانية من حيث ارتكازه على عنصر العلاقات بين مكوناته، فإن الثورة التكنولوجية والإعلامية اليوم أضحت توفر إمكانات هائلة تتحول معها الفصول الدراسية التقليدية إلى فصول إفتراضية تمد المتعلم بفرص تحصيل وافرة تضاهي إمكانات الواقع  في غالب الأحيان. وأصبح ممكنا بفضل التكنولوجيا النفاذ إلى  كم هائل من النصوص والمراجع والانفتاح على كل ثقافات العالم، لقد مكنت الشبكة العنكبوتية التلاميذ من التواصل بيسر فيما بينهم، والانفتاح على بعضهم البعض، ومناقشة المواضيع التي تهمهم. وبما أن مصدر المعرفة لم يعد ممركزا ومحتكرا، فإن البحث عن المعلومة والمشاركة في اكتسابها عبر الوسائط الحديثة يتم بانسياب وحيوية، وأمام هذا الرهان الداهم تصبح مساءلة العلائق البيداغوجية الكلاسيكية مطلبا آنيا خصوصا مع اتساع الهوة بين الأجيال وتسارع وثيرة التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية.

يتسم السياق المدرسي الحالي بحدة التوترات العلائقية التي اتخذت شكلا من أشكال التمرد على التعاقد ورفض الانضباط للنظام المدرسي، ومن تجليات هذا الوضع تنامي العنف المدرسي كمؤشر دال على هشاشة الأمن المدرسي وتهافت العرض التربوي. الشعور بالامتعاض اتجاه المدرسة مرده أن التلميذ غير مقتنع بإسهامها في تنمية مختلف جوانب شخصيته، وبما أنه لم يعد يمنح أية قيمة للزمن الذي يقضيه داخل المؤسسة المدرسية، فإن انتماؤه إليها وولاؤه لها سيتضرر، وسيتحول إلى استهتار وتحدي، وهذا ما يغذي علاقة سلبية لعدد من التلاميذ بالمعرفة ينجم عنها تأثير مباشر وغير إيجابي على المدرس، فالتلاميذ يرون المنتج المعرفي الذي يقدم لهم غير ذي أهمية ولا معنى له بالنسبة لهم، ويصعب تجاوز هذه المسافة والتحكم فيها من قبل المدرسين الذين يعبرون عن امتعاض حيال تبخيس قيمة المعرفة من قبل المتعلمين وتقليلهم لأهميتها ووظيفيتها خصوصا عندما  يكونون (أي المدرسون) في بداية مشوارهم المهني.

بدل التركيز على السلطة الديداكتيكية صار من اللازم التفكير في استراتيجيات أساسية ومقبولة وتنظيمها بالخصوص للإحاطة بواقع ومستوى ردود أفعال التلاميذ Ph.Perrenoud 1999)).التحلي بنوع من التبصر المهني يمكن من امتصاص مقاومة التلاميذ وعدوانيتهم التي هي وليدة ثقافة الرفض وفتور الفضول المعرفي، ويعد فتح قنوات التواصل مع المتعلمين أمرا بالغ الصعوبة بمجرد إعراض هؤلاء عن الانخراط في انجاز المهمة المقترحة عليهم ورفضهم لكل مباردة أو توجيه، وتراهم يواجهون كل دعوة الى العمل والمبادرة بالتهرب أو الصمت أو الغش، ومن الباعث على الإحباط تمني عدد من التلاميذ عدم إدراج المادة المعينة في المنهاج الدراسي، ويترجمون أمنيتهم تلك بالتعاطي سلبا مع المعرفة دونما التعبير عن أي متعة أو رغبة في تعلمها، عاقدين كل آمالهم على نيل نقطة الامتياز فقط.

التواصل البيداغوجي

التدريس هو ربط العلاقة مع الآخر، ومنحه القدرة والجرأة على القيام بأشياء وإنجاز أعمال لم يقو على فعلها بمفرده وبشكل تلقائي، ما سيقوده بالتالي إلى التحول نحو الوضع الذي يرغب فيه (Serge Marcotte)، ومنبع صعوبة نشاط التدريس لا تحيل على عمليات ومهام نقل المحتويات والطرق الموضوعة سلفا لأن التواصل الشفهي في الفصل والتفاعلات المعيشة والعلاقات وتنوع الأنشطة داخل كل وضعية هي التي تتيح التعلم أو تعيقه (Marguerite Altet et autres, 2006 ,p31)، لذلك فإن التفكير في العلاقة البيداغوجية بصيغة التعدد - على مستوى تدبير اللحظات الديداكتيكيةMoments didactiques- التي تفيد التنوع -على مستوى حاجيات الآخر المستهدف-  سيفضي حتما الى تجويد المواكبة والمصاحبة المدرسية l'accompagnement scolaire وتفعيل أدوار الوساطة البيداغوجيةpédagogique La médiation، وتطوير العلاقات تربوية وفق هذا المنظور سيكون ملائما للتعلمات وسيؤدي إلى خلق تواصل وحوار حقيقي((C. MARSOLLIER,2004.
المدرسة لا تعمل على تكوين العقول فقط، بل أيضا بناء هوية مرتبطة بالانتماء والثقافة والمعتقد والقيم الجماعية. والعلاقة بالتلميذ يؤطرها قطبين متوازيين: قطب معرفي وقطب عاطفي، فالأول مركب يتألف من أشكال التفكير والتصورات والنوايا وأنماط السلوك والمواقف اللفظية وغير اللفظية، والثاني محيط علائقي خاص هو قاعدة لكل تعلم ومصدر لخصوبته. وبعيدا عن حسن المقاصد والطرائق المستندة على العقل، فإن التحليل النفسي يؤكد حقيقة مفادها أنه بمجرد التواصل مع الآخر تتبدى نزعات العنف والخوف من الآخر والاضطراب، وتكمن مفاتيح علاقة جيدة مع التلاميذ في درجة اقترابنا منهم,2004) C.TRIBOULET )، وتعرف  أحوالهم وحاجياتهم وخلق بيئة صفية جيدة، فربط جسور التواصل معهم يمكننا من مساعدتهم بصورة أفضل(BrunoOllivier, 1992)، وبقدر درجة حسن التواصل يحصل التعلم. ((C. MARSOLLIER,2004.
    يبقى نجاح كل وضعية بيداغوجية قمين بجعل التلاميذ يعيشون نجاحا في مهمات أو مجالات سبق لهم أن واجهوا فيها صعوبات (PENNAC, 2007)، ولكي يكون النشاط المقترح على التلاميذ مولدا للتعلم يتعين على الوضعية أن تضع المتعلم أمام تحد وأن تحثه على العمل والبحث لتفكيك هذا التحديG.DVECCHI,2002)شريطة أن يكون مستوى التحدي لا يتجاوز إمكان المتعلم وطاقته، واذا كان هذا التحدي لا يتطلب جهدا من المتعلم فهو لن يؤدي إلى تعلم جديد، وهذا معناه أن التحدي لا يجب أن يكون مبتذلا أو صعبا ولكنه قابل للتجاوز . انتقاء المفاهيم المفتا، وإثارة الرغبة في مواجهة التحدي أو جعل مادة التعلم مثار رغبة عمل يكتسي دلالة كبيرة V.Bébien ,2004))، وإذ لا يكفي الشعور بالإغراء والإعجاب الذي تثيره الوضعية من حيث الشكل بالقدر الذي يهم التوافق بين ما نرغب فيه وما نقوم به، ولكي يكون هناك تبادل تربوي يلزم أن يشعر المتعلم برغبة في مسعاه نحو تحقيق هدف له دلالة بالنسبة إليه(M.Postic). يعتبر التكيف مع متطلبات الوضعيات البيداغوجية المختلفة  والاشتغال على إنماء الحوافز نحو التعلم  وإقامة علاقة تواصل معرفية وعاطفية مجالات كفائية من شأنها أن تسهم في خلق علاقة تربوية مفيدة ومولدة للتعلم بصرف النظر عن تفاوت أعمار المتعلمين Potvin (2005) ,Rogers(1976).
التغير السريع الذي يشهده العالم يجعل المؤسسة المدرسية تفتقد شيئا فشيئا الحيوية والدينامية المطلوبة لمسايرة الركب، بل وتتحول أحيانا الى أداة إعاقة للتغيير لتقادم ما تقدمه من معارف تعجز عن فهم الحاضر واستشراف المستقبل، وفي المقابل فإن التطور التكنولوجي ومن فرط توجهه المستقبلي يتجاوز الحاضر الذي يتلاشى بسرعة أمام التدفق المتواتر للأفكار والتقنيات. وانطلاقا من التمييز بين مفهوم مجتمع المعلومات حيث تتضاعف كميات المعطيات المتوفرة ويتيسر تبليغها لأكبر عدد من الناس، وبين مفهوم مجتمع المعرفة الذي يقتضي عناية تربوية خاصة لتمكين الفرد من مفاهيم وأدوات البحث ومفاتيح الاختيار والنقد؛ أمكن القول أن التكنولوجيا مهما بلغت من مستويات التطور و الذكاء فلن تكون بديلا عن المدرس الكفء بحسه المهني وحدسه الإنساني، وحنكة الآلة لا تعوض حكمة المدرس التي تحيل على التجربة والخبرة ضمن متلازمة الوعي والفعل.المعلومة وإن كانت أداة للمعرفة، فهي ليست معرفة بالرغم من ذلك، إنها المادة الأولية لبناء المعرفة، والمدرس الناجح ينتقل بفضل خبرته وكفاءته من مستوى نقل المعارف والمهارات الذي يتساوى فيه كل من الإنسان و الذكاء الاصطناعي الى مستوى تحبيب هذه المعارف التي يطرح تعلمها إشكالا للمتعلم، وجعلها ذات معنى بالنسبة إليه، وبالتالي قنطرة لبلوغ إمكانية التعلم نفسها، فقوة الفعل الإنساني تنتصر على سطوة التكنولوجيا،وبما أن التلاميذ اليوم  يتواصلون مع التكنولوجيا أكثر مما  يتواصلون مع الأسرة ومع المدرسة، فمن الواجب توجيه التلاميذ إلى الاستعمال السليم لهذه التقنية، ليس لكونها تشكل حافزا قويا للتلاميذ، ولكن كذلك بدافع دمقرطة استخدام هذه الأداة كي لا يكون عائدها دُولة بين خاصة المجتمع.

الإكراه المدرسي

إيقاعات التعلم والاكتساب ايقاعات بيولوجية شديدة التنوع على مستوى درجة اليقظة والانتباه والجهد، يؤدي سوء فهمها من جهة وتضاربها مع الايقاعات المدرسية الى أضرار صحية وعصبية، فالزمن المدرسي عندما لا يحترم هذه الايقاعات يدفع بالتلاميذ الى الاستعانة باحتياطي الطاقة لديهم ما يولد لديهم رفضا وعزوفا عما يقدم لهم لعدم تحملهم له، ومن ثم ينعتون بعديمي الرغبة وفاقدي التحفيز أو الكسالى، وفي المقابل تمارس ضغوطا على الآخرين مصدرها الأسرة أو النظام المدرسي أو المنافسة التي تسم الفصل الدراسي وهذا يدفعهم الى تجاوز إمكانياتهم ما يولد لديهم اضطرابا يترجم باللامبالاة اتجاه العرض المدرسي أو النزوع نحو التغيب كملاذ يحميهم من هدر الطاقة ويتيح إعادة التكيفRÉADAPTATION. ولا يفعل التلاميذ ذلك احتقارا لمادة أو عمل المدرس أو شخصه، وإنما تعبيرا عن عدم جاهزيتهم للتفاعل والانخراط في لعبة لا يتوفرون على مفاتيح كفيلة بأن تعطي معنى للأنشطة والوضعيات المقترحة عليهم.

رهانات
من البديهي الإقرار بتباين المواقف وزوايا النظر إلى العلاقة البيداغوجية بين التلميذ والمدرس بالرغم أهميتها للطرفين معا، وعلى عكس المدرس الذي يبقى حرا في قراراته ومواقفه (انتباه أوعدمه/ مساعدة أو تجاهل/  مراقبة او عدمها / موقف مشجع أوموقف مستبد) فإن التلميذ يخضع لنوع العلاقة المفروضة، والتي قد تشجعه على النمو، كما قد تصيبه بالإحباط، وقياسا الى نوع هذه العلاقة يصير على حد قول "برت راند راسل" من السهل جدا كبح القدرات الابتكارية عند الأطفال، ومن الأسهل إطلاق هذه القدرات الإبتكارية.
1-    على مستوى تعلم المعرفة المدرسية :
تتغيا العلاقة البيداغوجية على المدى القصير إتاحة انخراط المتعلم في النشاط التعلمي (الحافز)، ومساعدته على الفهم والاستيعاب (تجاوز العائق) والنجاح في انجاز المهمة (الأداء) ، وتتوقععلى المدى الطويل اكساب معارف ومهارات وخبرات وهي كفايات منقولة من ثقافة شخصية متحرر.
2-    على مستوى مواقف المتعلم وسلوكه داخل الفصل الدراسي والتربية على المواطنة:
تراهن العلاقة البيداغوجية على المستوى القيمي ضمن مدى قصير على قبول المتعلم ب"بالعقد البيداغوجي" والالتزام به، والمشاركة في الأنشطة الصفية والانخراط في التعلم وتجسيد القيم المدنية (الاحترام)، وعلى المدى الطويل فإن تجويد العلاقة البيداغوجية سيؤدي إلى تنمية الشعور بالمسؤولية وتقدير المصلحة العامة، اكتساب ثقافة المساءلة وروح النقد الايجابي.
3-    على المستوى السوسيولوجي:
تتوخى كل علاقة بيداغوجية سليمة على المدى القصير استثمار الجهود من أجل مدرسة الانصاف التي تؤمن عدالة النجاح المدرسي، والاشتغال على تعلم الاستقلالية والتربية على الديمقراطية  Ph.Perrenoud 1999)) وينتظر على المدى الطويل إعمال تكافؤ الفرص لتيسير الادماج الاجتماعي وتحقيق الترقي المهني والاجتماعي تجسيدا لمبدأ المساواة في الحظوظ.
4-    على المستوى السيكولوجي:
 يثمر حسن العلاقة البيداغوجية على المدى القصير تعزيز وترسيخ علاقة الاهتمام والتحفيز اتجاه المعرفة، وإنماء ثقافة الثقة والانفتاح والود اتجاه المدرس، وكذا الشعور بالمتعة والآمان حيال مادة التعلم والمدرسة أيضا، وعلى المدى البعيد يبقى الهدف الأساس هو بناء التقدير الذاتي وتحقيق التنمية الشخصية وإعطاء معنى للحياة.

ذ. محمد الجيري
مفتش تربوي / المديرية الإقليمية تنغير