المادّة الدينية في نسقنا التعليمي وسؤال التجديد : مقاربة تربوية ـ حسن الزهراوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse09078منطلقات:
تُعتبر مادّة التربية الإسلامية إلى جَانبِ اللّغة العربية والفلسفة ومادّة التاريخ مواد تصريف النّسَق القيمي بامتياز، وتفاعلا مع النقاش العُمومي الذي أثير مجدّدا حولَ سؤال القيّم، وتجديد المادة الدّينية في مناهجنا التعليمية، آثرنا أن نُسْهِم بهذه المقالة في الموضوع كفاعلين تربويين في المجال، يعنينا صُلب النّقاش الدّائر اليوم حول النّسق التعليمي في بلادنا، وورش إصلاح منظومتنا التربوية، وجدلّية القيم في المدرسة المغربية، ويعتبر "المدخل القيمي" مدخلا تأسيسيا وأحد هذه  المدخلات والجوانب التي ينبغي أن يشملها الإصلاح.  فأية قيم نريد؟ وأيّ مدرسة لأيّة قيم؟ ووفق أي مشروع  تجديدي مجتمعي منشود؟
إن التعليمات التي وجّهها ملك البلاد إلى وزير التربية الوطنية والشؤون الإسلامية تؤكد هذا المَنحى، وعلى وضرورة مراجعة وإعادة النظر في المادة الدينية المقرّرة في مدارسنا التي يتم صرفها وتمريرها من خلال مناهجنا التربوية التعليمية، لاسيما في ما يتعلّق بعلاقتنا بالآخر المختلف ـ الديني، وخصوصّية الهوية الوطنية المتعددة الروافد والمكونات (المكون العربي والعبري والأمازيغي والصحراوي والزنجي الافريقي.. ) وقيم الثقافة المغربية الأصيلة السمحة وعبقرية انفتاحها عن الثقافات الأخرى، في سياق دولي عولمي واقليمي مضطرب، تنامت فيه الخطابات الاستئصالية العدمية التكفيرية، ومناخ مهزوز تضخّم فيه صوت التنطّع والغلو والانغلاق، وتحولت فيه مجموعة من بلدان الجوار إلى مقابرَ جماعية يموت فيها الانسان على نحو مجاني، باسم المعبد والكهنوت الطائفي. وتتحمل الكثير من الخطابات الدينية المسؤولية التاريخية أمام هذا الوضع المتوعك المأزوم، باعتبارها إحدى الأطر الثقافية والمرجعية والرمزية  التي تؤطر وتوجّه سلوك الأفراد داخل سوسيولوجيا المجتمع.

  إن تجديد خطاباتنا البيداغوجية وتحديثها وتحيينها وتَسْييقِها مع معطياتِ ورُوح العصر، وإعادة سؤال القيم إلى النقاش العمومي، قد أضْحى  ضرورة سُوسيوتاريخية وحضارية ومعرفية لا محيد عنها، ولابدّ ممّا ليس منه بدّ كما يقول المناطقة، رغم كل التخوفات والتشنّجَات التي أبدتها التيارات المحافظة التي نعتبرها غير مبررة مباشرة بعد اطلاق الورش الإصلاحي  مع الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 2015- 2030 ، الذي ينبغي أن ننخرط فيه (ورش الإصلاح) جميعا لنحدد ونقارب بشكل توافقي  المنتظر من مدرستنا اليوم في أفق واضح المعالم ؟. مدرستنا المغربية اليوم التي تعرف تمزّقا ونزيفا وشرخا كبيرا يستدعي فعلا اعلان حالة الطوارئ وعملية جراحية تشريحية عميقة لمفاصل الداء. 
من يجدّد إذن؟ وماهي الجوانب التي ينبغي أن يمسها التجديد ما دام الحديث عن تجديد الخطاب الديني في مناهجنا ومقرراتنا حديث قديم ــ جديد ذو شؤون وشجون؟ ووفق أية آليات ومقاربات ورهانات؟ هل فعلا محتويات مناهجنا التربوية التعليمة تَتَسَاوقُ وتنسَجم مع المواثيق العالمية والقيم الكونية التي صادق عليها المغرب في المحافل والمنتديات الدولية؟  هل صحيح أن مضاميننا الديداكتيكية اليوم تَتَّسِق وتتوالف (التوليف) مع قيم المواطنةِ والتعدد والاختلاف (القيم المتعددة)، التي من المفترض والمنتظر منها أن تربّي الجيل الناشئ على "السلوك المدني الحداثي" وقيم التعدّد والنسبية في التفكير، بدل الإطلاقة والوثوقية والجَزْميّة المعرفية، ونبذ العنف والتأسيس لثقافة الاختلاف؟ أين الخلل والعطب إذن مادامت مدارسنا وأطُرنا و "براديكماتنا" الثقافية ومنظومتنا التربوية بوجه أعم، التي تشمل أيضا "مؤسّسة الأسرة" نسقُ الأنساق ومؤسّسة المؤسّسات كما يسمّيها السوسيولوجي المغربي مصطفى محسن، الإعلام، المؤسّسات الدينية..الخ  تُــفرّخ وتنتج من لا زال يؤمن "بقضاء الشّارع" وبتطبيق شرع يده في المخالف ؟ في المرفق العمومي ــ كفضاءٍ قيميّ تعدّدي مشترك يتقاسمه الجميع رغم مخالفة هذا السلوك النشاز لقانون الدولة. ألا تشكل هذه الأفكار خطرا على أمننا الحضاري والثقافي والاستراتيجي ؟. أليست مادة التربية الإسلامية من ندرس من خلالها حديث النبي (ص) "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ..الخ وفق تأويل ثقافي، وقراءة دينية سطحية مغلوطة، بعيدة عن كل تأصيل منهجي وضبط علمي، فَيَرْسُخ في ذهن المتعلم(ة) بل حتى لدى الجامعي الأكاديمي "المثقف" أن "التغيير باليد" الوارد في النصّ الحديثي يقتضي التدخل البدني الفيزيائي، ولم لا "شرعنة" العنف والزجر والسّحل على الأرض مادام الأمرُ له صلة غير مفكوكة بمَهَمة مقدسة شرعية" أي الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، كما فهمت عنده ؟ كيف نُكَرّس ثقافة الاختلاف والايمان بآخرية الآخر، كآخر ديني مختلِف منماز عن الذات بخصوصيته وهويته الثقافية والانتروبولوجية ولا زلنا ندرّس لتلامذة مدارسنا في مخْتلِف أسلاكها ومستوياتها العامة والخاصة بأن المقصود "بالمغضوب عليهم والضالين" هم اليهود والنصارى وأهل الذّمة ؟ في الوقت الذي توجد فيه تفسيرات أخرى تقول غير ذلك !  وتنصّ التوجيهات والأطر المنهجية المرجعية في المقابل على تكريس "ثقافة الاختلاف" على مستوى الشعار ؟ كيف يمكن أن تنص فلسفتنا واختياراتنا التربوية على احترام الآخر والتعايش معه في حين لا زالت حقوق الأقليات الدينية والاثنية والثقافية عندنا في المغرب  مهدورة ومبخوسة الحق، ولا تجد نفسها وثقافتها في مشاريعنا التربوية ؟ كيف يمكن الجمع بين هذه المتناقضات ؟ أليس من الحري بنا أن نترك الفقهيات والشرعيات الخلافية، والقراءات والتفسيرات المختلَف بشأنها حتى بين أهل التخصّص أنفسهم بعيدا عن المحتويات الديداكتيكية المُوَجّهة للمتعلمين الذين لم يتجاوزوا بعد مرحلة نمو وتشكل ملكتهم الرمزية وفق الـتأصيل الذي وضعه رائد المدرسة البنائية جون بياجيه؟ لماذا تتشنج التيارات المحافظة وأصحاب العمائم كلما أثير نقاش عقلاني معقول حول ضرورة تطهير وتنظيف ما يدرس لأبنائنا في المدارس التي لم يعد الكثير من تلك الأفكار الدموية المبثوثة بين دفتي كتبنا المدرسية المُدَرّسَة في معاهدنا الدينية يتماشى ومرتكزات وخصوصية المدرسة العصرية في الألفية الثالثة ؟ أليست معرفة الآخر الديني الحضاري المختلف أضحت ضَرورة وحتميّة سوسيوتربوية مادام هذا الأخير قد أصبح جزءا من تضاريس المجتمعات العربية الاسلامية؟ لقد آن الأوان إذن للسماح له بالتواجد والعيش المشترك في الجغرافيا الإسلامية وغير الإسلامية. فإما أن نجدد ونحيّن مقرّراتنا المتآكلة معرفيا وقيميّا ومنهجيا، ونشذبها وننقيها من شوائبها وتناقضاتها البيداغوجية كي نَكُون و نقاوم ونستمر وجوديا وثقافيا وحضاريا، والبناء والتأسيس لجيلٍ  تعدّدي يؤمن بالقيم والعيش المشترك، وثقافة الاختلاف، جيل سَوِيّ منسجم مع قناعاته وخياراته  المبدئية القائمة على الاختيار الحرّ المستقل، وإمّا سنحكم بالضرورة على الأجيال القادمة بالاضطراب النفسي، والتشويش في المفاهيم  والارتباك والتناقض الذي يفسر الصراع القيمي الذي تشهده المدرسة المغربية يوميا (مناهج ضد مناهج )، فلا يعقل منطقيا وبيداغوجيا أن تعطي معطى بيداغوجيا معينا، وفي درس آخر في نفس المادة  تقدم مُعطى بيداغوجيا آخر يناقض وينسف الأول ؟ والفاعل التربوي الحقيقي (المدرس) الذي يحتك بشكل يومي في ممارسته الصّفية البيداغوجية مع متعلميه هو الذي يستشعر حجم وكمية هذا التناقض المفصلي؟ ويلمس المفارقة و"البارادوكس" الموجود بين ما هو مُعْلن في المواثيق التوجيهية المؤسّسة "الفلسفة والسياسة التربوية الرسمية المتبناة" والنصوص والمحتويات المدرّسة في الكتب والمقرّرات لكن للأسف يتم ابعاد وتهميش اقتراحات هذه الفئة (الشغيلة التعليمية) والاكتفاء برمي كل اقتراحاتها في الحاويات، ويكون المدرس هو الطرف الغائب الأول الذي يتغيّب ان لم أقل تغييبه عن مراكز صنع القرار البيداغوجي ان جاز هذا التعبير.
لماذا تتشنج التيارات المحافظة، وتأخذ الأمر بحزازة مفرطة إذن حينما يطرح سؤال التجديد وتعتقد أن عالمها ذاك سينهدّ ويتطربق بمجرد اثارة سؤال التجديد والتحديث ؟ إن سؤال التجديد وإعادة النظر في المادة الدينية المقررة والمضامين البيداغوجية في المواد الأخرى أيضا يبقى سؤالا راهنيا ومشروعا له مشروعيته يفرضه السياق المجتمعي والتحول القيمي الذي نعيشه في هذه المرحلة، ومادمنا نعرف جميعا الطريقة والمقاربة التي يتم بها تأليف الكتب المدرسية (والأخير يعتبر تخصصا علميا دقيقا له هويته الابيستيمولوجية في قارة العلوم الانسانية)، التي يطغى عليها في الغالب الأعمّ؛ الارتباكُ  والخبْطُ والخلطُ والارتجال والتسرّع والمنطق التجاري، ولربّما وجدنا في هذه اللّجن التي يُعهد إليها مؤسّساتيا تأليف وهندسة الكتب المدرسية، أشخاصا لا صلة لهم بالحقل التربوي لا من بعيد ولا من قريب، ولهم من رصيدهم الأكاديمي وانتاجهم المعرفي صفر مقال !!  أم أن العلاقات الدموية العائلية تسرّبت حتى لهذا المجال الحساس؟ فالأمر يتعلق بمستقبل أجيالنا وبمستقبل الوطن برمته وبأمننا الثقافي والحضاري، وهذه حقيقة ينبغي أن نطرحها بجرأة على محك النقاش الهادئ والمسؤول، مادامت الغيرة الوطنية والشّعور بالانتماء لهذه الأرض هي التي تحركنا ولا شيء غير ذاك.
إذن لابد من التجديد أولا ووسطا وأخيرا للقطع مع الأعطاب البنيوية الابيستيمية التي تشدنا نحو الخلف وتقودنا نحو الهزيمة  والكساح والجمود العقلي أكثر مما تأخذنا نحو النصر ، علينا أن نرقى إذن بمناهجنا التعليمية الدينية وغير الدينية ونخرجها من دائرة من خالفنا فهو فاجر زنديق فاسق الى تصميم مناهج تربوية ترقى بالإنسان الى مدارج الرقي والحضارة.
إن المادة الدينية قبل ادراجها في المقرّرات والمناهج الدراسية ينبغي أن يُشْتغل عليها من قبل نخبة  نيّرة من التنويريين والعلماء المتخصصين الحداثيين بعيدا عن منطق "الماركوتينك" الذي يعرفهُ مجال تأليف الكتاب المدرسي عندنا في المغرب كما أومأت الى ذلك قبل حين، كما يجب أن نحسم في الاختيار والنموذج الذي نريد بعيدا عن المنطق البرزخي البين ــ بين، وفي منأى عن العبثية والارتجالية و المزايدات السياسية التي أدينا ولا زلنا نؤدي ثمنها غاليا. فالقضية قضية وطن ومسقبل أجيال بريئة...
إن النسق التعليمي باعتباره ورشا وطنيا ينبغي أن يكون غير خاضع لتكتيكات السلطة ورهاناتها، تستعمله ايديلوجيا لإعادة انتاج وصنع مواطن على المقاس الذي تشاء، ان الفاعلين والتربويين والمهتمين بالشأن التربوي والتعليمي يعقدون ندوات تلو ندوات لقاءات تلو لقاءات ويخرجون بتوصيات تتوصل بها الجهات المعنية دون أن يتغير في الواقع التعليمي شيء، آن الأوان لكي نتحمل مسؤوليتنا التاريخية والأخلاقية جميعا كفاعلين تربويين، أحزاب سياسية ؛ من مختلِف المواقع والطيف السياسي، مجتمع مدني، وجميع القوى الحية في البلد لإخراج مدرستنا المغربية التي أخرجت أجيالا ذهبية لا تزال أسماؤها مفخرة للبلد في الشرق والغرب من حالتها الراهنية المتوعكة التي  أصبحت تبعث عن الشفقة والحسرة في آن .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟