التربية الجديدة، مغامرة تستحق أن نعيشها مرة أخرى : فيليب ميريو- ت. محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

philippe-Meirieu لم تفِ البيداغوجيات البديلة دائما بوعودها،غير أنه  بتأكيدها على دور التحفيز واللذة في فعل التعلم،قد أثارت،واستبقت عددا مهما من الأبحاث الحالية.                             
     وعلى الرغم من أننا نستطيع تمييز البدايات الأولى لحركة التربية الجديدة منذ القرن الثامن عشر، فإنها لم تتهيكل سوى مع المراحل المبكرة في القرن العشرين .
إننا نرى فعلا في سنوات التسعينات، تطورا لمبادرات بيداغوجية أصيلة على هوامش الأنظمة التربوية،والتي انتظمت حول بعض المبادئ الأساس: “يتعلم الطفل بالممارسة” ، “ينبغي تعبئة التلاميذ حول مشاريع حقيقية تماثل ما هو موجود في الحياة” ،”تُكتسب المعارف بطريقة طبيعية-عفوية وليس عبر سلطة البرامج”،” ينبغي للقواعد والمادة نفسها أن تنبع من الجمعي ذاته بهدف تكوين مواطنين حقيقيين” ...إلخ.هكذا تكون نوع من المذاهب ، وترسخت خلال مؤتمرCalais   سنة 1921 ، مع الإعلان الرسمي عن العصبة الدولية للتربية الجديدة .
برزت التربية الجديدة- داخل قارة أوربا التي أنهكتها الحرب العالمية الاولى، وصارت تطمح إلى بناء مجتمع الأخوة- كترياق ضد كل أشكال “الترويض” المنتجِة للعدوانية والعنف،وازداد الاتفاق حول التربية الجديدة قصد انتقاد “البيداغوجيات التقليدية”،ورغم ذلك فإن تلك التربية الجديدة بعيدة عن أن تكون منسجمة:

بالنسبة لألكسندر نيلAlexander Neil ،مؤسس Summerhill* ،وكذا ماري مونتيسوريM.Montessori التي وضعت التربية الدينية في مقدمة انشغالاتها،فإن احترام الطفل لا يغطي بالنسبة لهما نفس الشيء ! بالنظر عن قرب إلى الموضوعات الكبرى للتربية الجديدة، نكتشف بسرعة أن الشعارات الأكثر توافقا حولها،لا تفضي إلى نفس المشاريع،ولا إلى ذات الممارسات التطبيقية، وهكذا يظل مفهوم المدرسة النشيطة، رغم وضعه في المقدمة، جد غامض وملتبس ، إذ يرى فيه البعض طريقة للتمركز حول العمليات الفكرية للتلاميذ، والتي اشتغل عليها بياجيPiaget بهدف دمقرطة الولوج إلى المعرفة، بينما نجد آخرين مثل فرينيC.Freinet يجعلون منها وسيلة لإرساء مدرسة الشعب المتساوية والمتعاونة، في حين أن غيرهم أمثال فرييرA.Ferrière يثمنون ويشجعون الأنشطة الجماعية للأطفال بهدف تعزيز المنافسة البينفردية ، والانبثاق السريع للقادة المستقبليين.

بين مبدأِ الحرية، ومبدأِ القابلية للتربية
إذا ما اتفقنا بشكل إرادي حول ضروة بناء مدرسة مطابقة للقياس حسب تعبيرE.Claparide فإن عنصر التفريد/الفردانية ليس له نفس المعنى، إذ أنه بالنسبة للذين يريدون من جهة التقيد والتوقف عند القدرات الفطرية للأطفال فإنهم يتخلون عنها عند مناداتهم بالتوجيه القبلي ،أما بالنسبة لمن لا يأخذون بعين الاعتبار المعطى le donné الفطري سوى باعتقاد جازم ،فيرون بأنه من الممكن دوما تجاوزه .
يبدو، في الإجمال، جيدا أن التربية الجديدة وضعت ومنحت القيمة للأفاهيم-النشاط،التحفيز،المشروع،احترام الطفل،التعاون،التكوين على الحرية- دون إرساء المفاهيم، فكل تلك الأفاهيم تؤدي، فعلا، إلى رؤى مختلفة حول التربية والمجتمع، بعضها يحمل آثار الطبيعيين الإحيائيين، والأخرى منها تحمل آثار إرادوية  تقنوية، وبعضها يتمركز حول تصور خاص للنمو،أكثر ″جُوانية)″يجب أن يتفتح الطفل بفضل وسط/ محيط يرعاه( وأخرى تتمسك بتصور يعلي من شأن ما هو خارجي حول نمو الطفل)والذي يجب تنظيمه وتيسيره بأدوات مناسبة( .
يمكننا وضع ذلك التناقض لإبراز ما يبرر عجز مردودية التربية الجديدة، ويهدم مصداقيتها، غير أنه يمكننا أيضا –مثل ما أقوم به شخصيا-اعتبار التربية الجديدة دالة عن التوتر المؤسس للمؤسسة التربوية ، والناجم عن مبدإ الحرية “لا أحد يتعلم وينمو مكان أي كان”، ومبدإ القابلية للتربية “من الواجب علينا القيام بكل شيء كي يتمكن كل طفل من التعلم والنمو” .
القيام بكل شيء دون فعل أي شيء !
يدعونا رواد التربية الجديدة، فيما قد يبدو لنا اليوم مجرد عدم اتفاق عائلي،إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار بتعقد المؤسسة البيداغوجية . ففي النهاية الطريق الوحيدة الممكنة هي القيام بكل شيء دون فعل أي شيء كما كان يقول J.J.Rousseau في كتابه Emile  ،أي وضع،وتفعيل كل ما هو ممكن حتى تتعلم الذات وتنمو من تلقاء نفسها،وابتكار،دون توقف،مؤسسات،وأوساط تربوية،ووضعيات تعلم،ووسائط ثقافية ،تسمح للتلاميذ بالتربية،والانخراط،هم أنفسهم،في مغامرة المعرفة،واكتشاف لذة التعلم،ومتعة الفهم بشكل جماعي مشترك .
هكذا نجد  مثلا عندM.Montessori أو C.Freinet التجسيد القبلي لما ستتواضع عليه الأبحاث الجديدة تحت إسم ″ وضعيات مشكلة ″ ،وإذا كانت منهجيتهم مختلفة نسبيا حيث تصورها Freinet  انطلاقا من وضعيات طبيعية،في حين تبنتها Montessori بمساعدة أدوات معدة أساسا لأجل ذلك،فإن النتيجة المرغوب في التوصل إليها هي نفسها:تجنيد التلميذ وتعبئته انطلاقا من مشروع يسمح له بتجاوز العوائق التي تعترضه أثناء عمله، قصد بلوغ المعارف الجديدة والتوصل إليها. فكل واحد منهم يمتدح ميزات القسم المتغاير،متمثلا بذلك البيداغوجيا الفارقية ،كما أن كل واحد يتخلى عن التصور التقليدي للتنقيط العددي لإحلال تقويم ينبني على ما يمكن تسميته ب " وحدات القيمة/unités de valeur "  .

التربية الجديدة،إذن في هذا المنحى،مغامرة تدعونا اليوم إلى زيارتها مرة أخرى،ليس من أجل الحث بإيمانية على مواعظ دروسها،بل كي نتشبع بديناميتها،ونساعد أنفسنا لفهم مشاكلنا الخاصة،ومن غير استعادة ساذجة  لشعارات مختزلة لتاريخها ونقاشاتها،ولكن عبر النظر إليها كوسيلة لإعادة تقييم خطاباتنا،وممارساتنا. هكذا ينبغي علينا الإنصات لكل ما يمكنه،في التربية الجديدة،أن يزعزع  بشكل ملائم يقينياتنا المستكينة: لا يكفي أن ندرس كي يتعلم التلاميذ ،أوفي القسم المتجانس بعدد يبلغ خمسة وعشرين تلميذا،-يتعلم التلاميذ-وهم يقومون بنفس الشيء،وفي نفس الوقت ليس  هذا هو النموذج الممكن بالنسبة للمدرسة.
إن الدروس،والكتب المدرسية،والبرانم،وحتى دروس التكوين عن بعد عبر الأنترنيت ليست هي الوسائل الوحيدة للتعلم ،والنقط، والتنافس بين الأفراد ليست هي الطرق الوحيدة لتعبئة التلاميذ حول المعارف.إننا لا نكون/نربي على الحرية عبر الأوتوقراطية المنهجية والإكراه التحكمي . نعم، إن التربية مهمة صعبة ، فهي تستلزم في ذات الآن مشروعا سياسيا،وابتكارا تقنيا غير منقطع لمواجهة المقاومات والعوائق. إنها تستلزم منا مواصلة العمل الذي انخرطت فيه التربية الجديدة،بوضوح أكثر،وبصرامة،ولكن بمزيد من الحسم/العزم و،لم لا، بمزيد من الحماسة المبتهجة.

النص الأصلي : Ph.Meirieu «l’éducation nouvelle ,une aventure à revisiter »
Sciences Humaines,octobre2014.                                           
*مدرسة أسسها Alexander Neil سنة 1921 بإنجلترا لتطبيق نظرياته البيداغوجية التي تتمحور حول الحرية المطلقة والسلطة المتفاوض عليها.