الرغبة في التعلم ، هل هي طبيعية؟ ـ محمد أبرقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

78679024 oكان القديس سان أوغسطين S.Augustin  يعتقد ،على غرار أرسطو ،بأن لذة التعلم أمر طبيعي .
الأطفال والرضع ،أولئك الباحثون الصغار،يبدو أنهم يؤكدون ذلك،والأكثر إثارة هو أن التعطش ،والقدرة على التعلم رغبة لا تخبو مع التقدم في العمر .
يقول أرسطو منذ أول جملة  له في الميتافيزيقا بأن جميع البشر لهم رغبة طبيعية لأجل المعرفة،وتلك الرغبة في نظر الفيلسوف طبيعية،وتبتدئ بمجرد الالتفات،والنظر،والاهتمام بما يجري ،إذ أن سماع صوت ،ورؤية حشد،يدفع المرء لمعرفة ما يحدث،وتلك كانت قاعدة الفضول المعرفي لدى الإنسان . بضعة قرون  بعد ذلك،جعل  القديس أوغسطين من الرغبة في التعلم نوعا من ”الليبيدو العلمي libidosciendi ” وواحدة من الدوافع الغريزية الضرورية لدى الإنسان إلى جانب الرغبة الحسية والرغبة في الهيمنة .يفكر من يقول ليبيدو في مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد الذي كان ينعت الرغبة في المعرفة والتعلم بépistémophilie،ويرى بأنها التعبير الأسمى عن الرغبات ،وهي بمثابة انجذاب تغمره اللذة والمتعة بغاية معرفة كل شيء،وإرادة النبش في كل شيء.

الرضع الباحثون ! :
ماذا إذن عن الرغبة في التعلم؟ لا يكفي ترديد أسماء كبار المفكرين من أجل إثبات صدقية نظرية ما،إذ كيف يمكن معرفة مدى صواب ما يقدمونه: هل ثمة فعلا،وحقيقة،تعطش لأجل التعلم في عمق بسيكولوجيا الذات الإنسانية؟ يبدو أنه بالإمكان إعطاء بعض القواد الأمبريقية بصدد تلك الفرضية .


سنبدأ من الحيوانات، نحن نعرف منذ مدة طويلة بأن كثيرا من الحيوانات قادرة على ”التعلم”،وفي بداية القرن العشرين،تأسست بسيكولوجيا التعلم على تجارب حول الحيوانات: كلب Pavlov يتعلم بالإشراط، وحمام Skinner بالإشراط الإجرائي ،أما بالنسبة لبسيكولوجيا الجشطالت فإن الفئران تجد الحل للمشكل بشكل فجائي بنباهة الاستبصار،وقطط Thorndike يظهر أنها تتعلم من خلال المحاولة والخطأ...،ونحن نعرف اليوم أن الأخطبوط يستطيع التعلم ،ليس فقط عبر التجربة،ولكن أيضا بملاحظة المجموعة التي ينتمي إليها وبشكل غير مباشر. كثير من الحيوانات يمكنها أن ”تتعلم” لكن هل بدافع الضرورة ،أم أن ذلك رغبة؟ بعبارة أخرى ،هل تعبر عن نوع من الفضول؟
يظهر من خلال بعض التجارب أن للكائنات في الطبيعة ميلا نحو الفضول الغريزي ،إذ يمكنكم وضع أجهزة تصوير داخل منتزه طبيعي وستلاحظون أن حيوان النمر يقترب منها يتلمسها ويحاول التعرف عليها موظفا حاسة الشم،والتجربة تنطبق على الإوز والفيلة والدببة،وحتى الدلافين وأصناف من الطيور،ويعتقد الباحث في علم دراسة الطيورornithologue ،البلجيكي kempenaers بأنه بعزل القواعد البيولوجية لدى الطيور آكلة الحشرات فإن مادة الدوبامين لديها )حامض أميني يُنتج على مستوى الخلايا العصبية في الجهاز العصبي المركزي( تزداد وتجعل الطائر أكثر فضولا .


الرغبة في التعلم يمكن ملاحظتها أيضا عند الإنسان منذ الفترات المبكرة من عمره،فإذا ما كنا نعتبر الرضيع كائنا سلبيا ينبغي تعليمه الأشياء الأساسية،فقد برهن علم نفس النمو بأن الطفل فاعل نشط يستثمر وسطه المادي الفيزيائي والاجتماعي والثقافي قصد التقاط جزء كبير مما يعرفه وبمفرده . يكفي ،مثلا، في موضوع اللغة،وضع الطفل الصغير وسط حوض لسني متعدد كي يتعلم بمفرده تمييز الأصوات،والكلمات وبعدها القواعد،ولا فائدة بتعليمه كيفية الكلام بشكل ضمني وغير مباشر. تمس  تلك الرغبة التلقائية العفوية في التعلم مختلف المجالات،وبالنسبة للمختص Alison Gopnik فالرضيع بمثابة الباحث المبكر chercheur en herbe  ،ولديه الرغبة في التعلم منذ الفترات الأولى من عمره من خلال اللعب،وملاحظة الآخرين،بل إن التجارب التي أجريت حول الرضع قد أنجزت بفضل  براديغم التعود ) من العادة( فالرضيع يهتم بكل ما يحيط به،ويستكشف بالبصر واللمس كل ما هو جديد،والعادة هي مصدر الملل لديه،إذ أنه ينجذب دوما نحو الجديد،وذلك ما يشهد بميول نحو التعلم بشكل شبه دائم .


حيوية لدغة الفضول:   
الرغبة في التعلم لها،إذن جذور بعيدة وعميقة لدى الكائن الحي، ولكن ماذا بالنسبة لما بعد فضول الصغر؟يمكننا أن نعتقد بأن صغير النمر عليه أن يتعلم الصيد،والطفل يتعلم الحياة وكيفية العيش بإبراز الكفايات والرغبة في نفس الآن،ولكن بمرور الزمن يمكن لتلك الرغبة أن تتراجع وتضعف حدتها،وتتوارى كي تختفي بشكل تام، غير أنه يكفي ملاحظة الأقارب للتأكد بأن لدغة الفضول لا تخبو مع التقدم في العمر . نهتم بالأخبار للحصول على معلومات جديدة حول العالم،أحد جيراني يهتم بالسيارات القديمة،ولا يتوقف عن جمع الوثائق حول النماذج العتيقة ،وصديق آخر قرر متابعة دروس في اللغة الأنجليزية وإن كان عمره على مشارف الخمسين،نتعلم الكثير أيضا في مجال العمل وبصورة دائمة،وحينما يتملكنا الشعور بمعرفة كل شيء فإن الممل يغمرنا فنبحث برغبة جديدة عن التغيير.


خلال ،ما يسمى بالفترة الثالثة من العمر)ما بعد60 سنة(يمكن للرغبة في التعلم أن تنطفئ،في حين أن كبار السن هم من يملؤون قاعات المحاضرات والجامعات. لقد صار العمر الثالث من الحياة زمنا ننخرط فيه ضمن سلسلة من الأنشطة : حياة جمعوية-رياضة-أسفار-علاقات..،والدراسات أيضا،إذ في كل سنة، خلال فترة امتحانات الباكالوريا نجد أشخاصا في العقد السادس والسابع وربما أكثر ضمن المرشحين ! ففي شهر يونيوه2013 أكبر مترشح للباكالوريا كان في عمر 91 سنة،بينما أكبر شخص حاصل على شهادة جامعية عليا يبلغ 97 سنة وهو استرالي الجنسية ،إذ نال شهادة الماستر في العلوم الطبية ،وهو ما يثبت أن الرغبة في التعلم تبدأ مبكرا وتستمر لفترة طويلة من حياة الإنسان .
لماذا يواصل بعض كبار السن مسار التعلم؟ من غير شك كان أرسطو على حق حين قال بأن الرغبة في التعلم مدونة في عمق بسيكولوجيا الإنسان ،وربما أيضا ،وبحكم الانتماء للنوع الإنساني الذي يجعل الفرد،وفي كل لحظة من عمره،ممتلكا للقدرة على الارتماء في المستقبل والمراهنة عليه .
التعلم،ليس فقط مراكمة معارف من الماضي ،إنه أيضا وعدٌ من أجل الغد. 


المقال الأصلي Elise De Villeroy, le désir d’apprendre est-il naturel ?Sciences Humaines .N.257,2014,pp.36-37.