التلميذ و"المعنى" - نور الدين العمارتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انفاس1 – المعرفي والمعنى:
في كتابه التربية الوظيفية كان إدوار كلاباريد قد أكد بأنه لا يكفي القول بأن مهمة المربي تتمثل في تنمية ذكاء مرباه، لأن السؤال الأساسي يبقى هو "إلى أي حد يمكن القول بأن اكتساب المعارف يستجيب لهذا الهدف؟" وفي نفس الاتجاه سار ديوي عندما اعتبر أن "كل درس ينبغي أن يكون جوابا"، والجواب لا يمكن أن يكون إلا نتيجة تحريك لحاجة معرفية سبق وأن طرحت بشكل صحيح وبدرجة كافية من الإدهاش والتساؤل. وتوالت النظريات والتجارب بين مغال في نزعته المعرفية (العقلية) المغرقة في شكليتها والمتقوقعة حول الطابع المنطقي/المجرد للأفكار وبين من ينظر إلى المعارف لا كوسائط شكلية، نهائية وجاهزة، بل كحياة متجددة تحرك الإنسان ويبدعها الإنسان في مغامرة لا تنقطع وتفاعل لا يفتر.
إن المقاربة المعرفية/العقلية (Le Cognitif) تعرف اليوم تجدرا وتحولا يسير نحو إعادة الاعتبار للبعد الثقافي لفعل التعلم. فحتى لدى أكثر البنائيين صرامة بدأنا نسمع عن شيء اسمه "سيكولوجيا ثقافية"، وعن أهمية أن يكون لما يتعلمه الفرد معنى يحرك الرغبة في الدخول إلى المعرفة وتمثلها انطلاقا من خلفية ثقافية موجودة سبقا. إن المعرفي (العقلي) بدأ يتجه اليوم إلى ما يصطلح عليه بما وراء المعرفي (العقلي) Le Metacognitif، أي التحليل الذي تقوم به الذات المتعلمة لوظيفتها الثقافية الخاصة قصد إيجاد نسق تفسيري Système Explicatif يتناسب مع المشكلة المطروحة أمامها، لأن اكتساب معارف جديدة يعني –كما يقول جيوردان Giordan- "إدماجها في بنية تفكير موجودة مسبقا ومكونة من معارف خاصة سابقة على الوضعية التربوية".
إن التعلم بهذا المعنى، يصبح عبارة عن تشغيل لقدرات محددة على معارف محددة ولا مجال للحديث عن قدرات عامة قابلة للتحويل (Transfert) أوتوماتيكيا. وبهذا تعد المعارف في اختلافها قابلة للرسوخ البنيوي La prégnance كإضافات حقيقية وليس كوسائط شكلية ترسخ قدرات متعالية على المعاني الحقيقية لوجودها وانتقالها وتطورها.


لكن رغم كل الاجتهادات على مستوى التجارب والنظريات، تظل المدرسة عموما (باستثناء بعض التجارب القليلة التي أظهرت فعاليتها) مستسلمة لروتينيتها ومصرة على تقديم المعارف وكأنها نتائج نهائية وجاهزة للتعلم. ويظل التلميذ يبحث عن معنى لما يتعلمه فلا يجده، لكنه يقبل بدوره نزولا لرغبة لا يحسها ولا يفهمها إلا "كواجب" أو كعبء ضروري.
2 – المهنة: تلميذ!!
لقد أظهرت تجربة "عمر القبطان" التي قامت بها مؤسسة البحث في الرياضيات (IREM) في الثمانينيات، أنه ليست القدرات العقلية للتلميذ هي التي ينبغي وضعها موضع شك ما دام هذا الأخير لا يقوم سوى بتكريس "مهنته كتلميذ" و"ينسجم مع معايير التلميذ الجيد حتى ولو كان الثمن هو تقديم صورة غير ذكية عن نفسه".
لقد سبق لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن بين كيف أن النسق المدرسي يستند على ممارسات مستبطنة تهيمن على نمط التفكير والأفعال وتعاش كأشياء غير قابلة للتساؤل بحكم البداهة. إن الهابيتوس (Habitus) المدرسي يستدعي الإجابة عن كل الأسئلة المطروحة وعلى مختلف طلبات المعلمين وانتظاراتهم. وهكذا يدخل التلميذ في "تواطؤ" يقوم على أساس "تسهيل التعايش داخل فضاء مغلق، ضمان احترام البرامج والمقررات، والاستعمال الجيد للوسائل، و(تكريس) سلطات المعلمين". ولكن ليس كل التلاميذ يقبلون باللعبة، فوحدهم –كما يقول جيوردان- "التلاميذ الذين فهموا بأن المدرسة تشكل جواز مرور اضطراري نحو وضعية مريحة في المستقبل يقبلون الانخراط في اللعبة"، الشيء الذي لا يمنع في أغلب الحالات من إبداء التلاميذ لمللهم لدرجة قد ينتهي معها –كما سبق لمارتين فورنيي أن صرح في إحدى مقالاته- درس حول اكتشاف الجهاز التناسلي لثديي صغير إلى مباراة في تطاير الفئران فوق الرؤوس. سواء أقبل التلميذ الدخول في اللعبة أو العكس، ففي كلا الحالتين يبقى هذا الأخير يبحث عن معنى للدور الذي وجد نفسه مضطرا للعبه وعن معنى لهذه المعارف التي تقدم له كنتائج نهائية مطلوبة لذاتها وليس كتجربة إنسانية نتجت عن مخاض من الأسئلة والدهشة ومغامرة علمية في تاريخ من التجارب والقطائع والصراعات والأحلام.
3 – الدهشة والتساؤل:
في إحدى رسائله إلى أراطوستين يقول أرشيميد: "إنه لمن السهل عندما نكون قد اكتسبنا بعض الأسئلة فنتخيل بعد ذلك إمكانات البرهنة عليها، من أن نبحث عن هذه الأخيرة بدون معرفة سابقة". إن أية معرفة سابقة –خلافا لما ذهب إليه الجشتالتيون- تعد، إذا ما أحسن تحفيزها، خلفية فكرية وثقافية مهمة للدخول إلى المعارف لأنها تقوم بعملية ربط حقيقي بين الذات والمعرفة انطلاقا من سؤال مركزي، وهو كيف يؤسس الفرد علاقته بالمعارف وكيف تصبح هذه الأخيرة مؤسسة وقائمة؟ فكما تولد المعارف، وتنتقل وتتطور في مغامرة لا تنتهي، تؤسس الذات المتعلمة كذلك نسقا يمفهم العلاقة بالمعرفة ويعطيها معنى يجعلها تنبني وتترسخ وتتحول. فالذات المتعلمة تبحث دائما عن نسق تفسيري يناسب الأسئلة المطروحة عندها أساسا وليس "الأسئلة المثارة –في أحسن الأحوال- عبر خدع بيداغوجية قد تدفع التلميذ إلى مواجهة جهله"، لكنها لا تولد لديه أسئلة حقيقية نابعة من انتظاراته الخاصة. إن دور المدرسة يصبح بهذا المعنى هو إثارة الدهشة والتساؤل لدى التلاميذ وذلك انطلاقا من ربطهم بمعارف حية يجدون فيها إجابات عن حيرات وأسئلة يحسون أنها نابعة من إلحاحاتهم. إن المعنى الذي نعطيه نحن الكبار للمعارف لا يمكنه أن يتحول مباشرة، وحدهم المتعلمون يمكنهم إعطاؤها معانيهم الخاصة ويكيفونها مع انتظاراتهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا باستثمار هذه العلاقة الخاصة وتهيئ المتعلم ضمن وسط مساعد ومحرك للرغبة والدهشة وعبر برامج تترجم حقيقة ما يحتاج إليه الأطفال ويحفزهم على العمل والإبداع.
في إحدى حواراته، يفصح ج.برونر J.Bruner عن هواجسه الشخصية، في وقت كانت فيه السلوكية béhaviorisme هي سيدة الأبحاث السيكولوجية، وكان المختبر بفئرانه وحيواناته معبد الدراسات التي كانت تحاول البحث عن وظائف نفسية معزولة عبر إشراطات شكلية وخارجية، وكان الأدب من رواية ومسرح… ملجأه الوحيد للاقتراب من الفرد كمبدع للأفكار والأحداث والأحلام. "منذ اللحظة –يقول برونر- انطبعت في ذهني فكرة أن هناك طريقتين لمقاربة الإنساني: الأولى مقاربة علمية-موضوعية، شكلية وعقلية-والثانية أكثر أدبية، ذاتية، تأويلية وتسمح بالدخول إلى العالم الداخلي للناس".
إن السرد باعتباره أحد الأشكال الكونية والقوية للخطابات والتواصل الإنساني، يشكل مدخلا جد مهم لولوج المعارف وطريقة جد فعالة في توليد الدهشة والتساؤل. يقول برونر: "إن السرد شكل من أشكال الخطابات التي تحتوي عدة مكونات: فرد في حركة، نظام تعاقبي من الأحداث، "ورطة" تضع الفرد وجها لوجه أمام مشكلة، وضعية غير منتظرة، أشياء غير عادية، عجيبة وغريبة…".
إن الطابع التأويلي للسرد يجعل المتعلم يدخل في علاقة حوارية وتفاعلية مع الأحداث والأفكار والأشخاص، الشيء الذي يولد لديه أسئلة تجعله ينكب على المعارف كنتاج لمغامرة إنسانية وكحاجات دائمة لدى الإنسان للاكتشاف والإبداع والتقدم. وهكذا لن يعود أرشميد مجرد مكتشف لنظرية بل كذلك ذلك المغامر الذي جعل من مجرد رغبة للملك سيراكوز في معرفة إن كان تاجه من الذهب الخالص، قلقا معرفيا أدخله في مغامرة علمية أغنت عطاءات الإنسان وتطلعاته، وأراطوستين، ذلك المنبهر والمتسائل عن معنى ذلك الظل الذي ينبعث من الأهرام قبل أن يعرف أنه بذلك سيتمكن من معرفة حساب محيط الكرة الأرضية، وروسو ذلك الجريء الذي "حاول فهم جذور اللامساواة بين الناس"... لقد كنت أومن دائما أن مسرحية، كمسرحية بريخت حياة غاليلي مثلا، تصلح أن تكون مسرحية تعليمية للأطفال بامتياز لأننا نجد فيها كل شيء عن غاليلي: من الإنسان الذي يجد صعوبة في توفير اللبن اليومي.. إلى العالم (المربي) الذي يشرح لتلميذه الصغير (أندريا) كيفية دوران الأرض وعلاقاتها بالنظام الكوني.." ويمكن أن نجعل من أعمال روائية سينمائية ومسرحية.. مماثلة مداخل جد مهمة للتعلم دون أن يفهم من هذا دعوة مني إلى جعل الأدب مجرد شكل ديداكتيكي للتعلم، فهذا لا يعفي المدرس من مسؤولية إبداع وابتكار وضعيات ووسائل محركة ومحفزة على المبادرة والإبداع وأن يغير تدخلاته باستمرار مع كل حالة إخفاق أو انحسار. كما أنه لا يعفي كذلك من ضرورة التفكير مليا في التوجهات القوية للبرامج التي نريدها لأطفالنا حتى تكون محركة، ولها ما يكفي من المصداقية الاجتماعية والسياسية، لأننا في أول وآخر المطاف نسعى إلى تكوين مواطن حر وقادر بالفعل أن يكون نافعا لنفسه ولجماعته ولوطنه وللإنسانية جمعاء .