هل دقت أجراس موت التراسل؟ - منير كوبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسفي أيامنا هاته أصبح الناس يشككون في جدوى وقيمة التراسل بالبريد العادي، ومبررهم في ذلك أن انتشار الشبكة العنكبوتية "الانترنيت" والهواتف النقالة سهل على الناس إمكانية التواصل بشكل أفضل، وأسرع، وأنجع مما كان عليه الأمر فيما مضى من الزمن، وهو ما يقضي بالضرورة على التواصل الكلاسيكي الذي كان محققا بالتراسل العادي. إن هذا الخطاب الذي قرع أجراس نهاية الإنسان الذي كرس واقعها في وقت من الأوقات، يجعلنا نستوقف الفكر عند لحظة استفهامية أساسية وهي: بأي معنى نفهم نهاية التراسل؟ ألا يستتبع هذا القول الحكم بموت إنسان التراسل، وليس التراسل وحده؟ وبعبارة أخرى، إلى أي مدى حررت الانترنيت والهواتف النقالة إنسان هذا الزمان من قيم التواصل الكلاسيكي بالتراسل؟
نحتاج لمعالجة هذا الإشكال الانكباب على تجلية الأبعاد التي تنطوي عليها موطنات الفتح الجديد، في خطوة أولى، وفي خطوة ثانية، سيكون من الضروري تعميق النظر حول الحياة الفعلية لموت المراسلة الكلاسيكية.
1- الانترنيت والهاتف النقال: أهما فتح جديد؟
أي فتح أكبر من الفتح الذي وطدت أقدامه الشبكة المعلوماتية والهواتف النقالة التي غزت مختلف أوجه الفعل الحياتي بالنسبة إلينا، حتى أكثر الأشياء حميمية والتي تمسنا في صميم وجودنا؟ يبدو الأمر في الظاهر فتحا وهو في الحقيقة غزو، لأننا لم نستشر في رغبتنا في توطين هذه التقنيات الجديدة في التواصل، والحمولة العنفية التي يحويها "الغزو" تحيل على إمكانية تهديد وجود إنسان حامل لقيم ومسلكيات في النظر إلى ذاته، وإلى العالم، وإلى الآخر، تماما كما حدث مع الصحون المقعرة، فبمجرد أن ظهرت صيرت المغاربة غرائز بلا ضمائر، ودون أن تكون لهم الحصانة الكافية لدفع خطر التخدير الذي تمارسه عليهم، وهم في وضعية استلاب شبه مطلقة.

وتأتي الانترنيت والهواتف النقالة كموضة جديدة لتتحالف مع موضة الصحون المقعرة ما دام هدفها واحد و غايتها وحيدة: جعل العالم قرية صغيرة، وتقريب المسافات بين الناس والأوطان، وتوصيل الأفكار والمشاعر للآخرين في لمح البصر، وهذا ما يشهد به عامة الناس. فإذا كانت الرسالة التي يكتبها المغربي لصديقه الفرنسي مثلا تستغرق أسبوعا تقريبا ليتوصل بها هذا الأخير، فإن رسالة الكترونية إلى هذا الفرنسي لن تستغرق سوى لحظات، وهو واقع تحقق بفضل الانترنيت، فقطعت بذلك حبل الوصال بين الإنسان والبريد العادي، وتدعو بالتالي هذا الإنسان إلى تقدير حجم الفارق بين استغراق رسالة أسبوعين وبين استغراقها في شكلها الالكتروني لحظات تعد بلمح البصر.
لقد حررت الانترنيت ومعها الهواتف النقالة الإنسان من ربقة الزمان والمكان وحدودهما الفيزيقية لتخلق حبلا تواصليا جديدا يدفع للاعتقاد بأن التراسل العادي أصبح من ظلال الماضي الذي إن تشبث به إنسان فكأنه ألف التخلف واستمسك بتلابيبه، إذ كيف يمكن لامرئ أن يفضل هذا الثوب البالي من التراسل على آلة تمنحه إمكانية لتوصيل الفكرة والشعور في أي حيز مكاني (الحافلة، الشاطئ، الحمام...)، وفي أي حيز زماني، حتى في الأوقات المتأخرة من الليل والساعات الأولى من الفجر، حيث يتعذر الاتصال بالآخر وإخباره بخبر مستعجل، بعد إغلاق مخادع الهاتف أو قبل أن تفتح أبوابها؟ لذلك سميت هذه الآلة بالهاتف النقال أو المحمول، لأن صاحبه يحمله معه أينما حل، ويلازمه في كل وقت. في أي مكان كيفما كان، أصبح بمقدور الإنسان أن ينشئ رسالة تخترق حدود الزمان لتصل في لحظة، بل أصبح بإمكانه، تبعا لهذه الوضعية، تبادل عشرات الرسائل القصيرة مع مخاطبه، وهو ما يعجز البريد العادي عن تحقيقه بحكم المسافات الفيزيقية الفاصلة بين المرسل والمرسل إليه، ووسائل النقل التقليدية التي تعتمد لإيصال الرسائل لمن أرسلت إليهم. إن طابع المباشرة الذي يمتاز به نمط التواصل عبر الهواتف النقالة والانترنيت رسخ لدى العامة الاعتقاد بأن زمن الانتظار، انتظار الرد والجواب قد ولى إلى غير رجعة.
وفي زمن يقدر فيه الوقت بالمال، خاصة في دول الغرب التي تبجل قيمته، أي قيمة الوقت، أصبح رهان الوقت استثمارا حقيقيا بعد أن غدا هو الآخر قابلا للتثمين، مثله مثل أية بضاعة تجارية رائجة في السوق، ولعل المثل المغربي الدارج "اللي فاتك بليلة، فاتك بحيلة" أصدق في هذا المضمار. فكيف لا تشكل الانترنيت والهواتف النقالة واجهة هذا الاستثمار، وهي الضامنة لربح هذا الرهان بعد أن أريد لها أن تكون أدوات تشكيل موضة جديدة في التواصل؟
هكذا يخلف الخطاب الالكتروني الخطاب المكتوب بخط اليد والمختوم بالبريد العادي. غير أن سؤال الخلافة الذي تطرحه هذه الموضة الجديدة من التواصل، وتوطدت تجلياتها في مسلكيات وقيم الإنسان الحامل لها، والمهووس ببهرجتها، لم تقض في الحقيقة على إمكانيات استمرار الخطاب التراسلي العادي، ولو أنه تقنية تواصلية غدت، مقارنة مع الانترنيت والهواتف النقالة، "كلاسيكية ومتخلفة". ذلك أن معمل التاريخ الحديث ذي الصلة أساسا بالماضي القريب، ماضي الاتصال في بلادنا على الأخص، أنتج عدة حقائق أكدت على أن ظهور التلفزة، كتقنية جديدة في الاتصال والتواصل مع أكبر كثلة جماهيرية ممكنة، لم تلغ بحال دور الكتاب في خلق مد تواصلي بين صاحبه والمتلقي في مختلف مناحي الحياة، وهو ما فند منطقيا كل الطروحات التي كانت رائجة ذلك الوقت، حول انتهاء صلاحية زمن الكتاب، وانصرام وظيفته في وجودنا الثقافي والاجتماعي.
والأمر نفسه انسحب كذلك على الإذاعة والسينما، فالتلفزة لم تستطع أن تقطع الصلة التي تجمعهما مع متلقي خطابهما، لأن نبض الحياة فيهما أقوى من هيكل الموت الذي بشر به ظهور الشاشة الصغيرة.
2- المراسلة بين واقع الخطاب وواقع الفعل:
ومثلما لم تقض التلفزة على الكتاب والإذاعة والسينما بعد أن سلبت هذه القنوات الاتصالية رمز وجودها وهي المعرفة والصوت والصورة، فكذلك لن يكون بمقدور الشبكة العنكبوتية والهواتف النقالة أن تقضي على التراسل وإن كان قد خسر رهان الوقت والمباشرة في التواصل. إلا أن ذلك لا يعني أن المراسلة قد فقدت كل مقومات وجودها، لأن المراسلة لم تراهن في الحقيقة على الوقت، بل راهنت على تحرير الإنسان وإسعافه على انكشاف وجوده واكتشافه لذاته بكل ما تحمله من طواقم الإحساس والإبداع والتفرد، بل وتجلية بعض الأبعاد المعرفية والوجدانية التي تنكشف كزيادة في الوضوح بخصوص فكرة أو موقف، وكتعرية للذات من خلال إفشاء أسرار خاصة تمس بشخصية صاحبها وبقيمتها لدى الآخر، خاصة إذا كان متلقيا على الأعم. فكم من أديب أو فيلسوف أو عالم صرح في رسالة خص بها أحد أصدقائه أن فكرة ما جاءت في إحدى مؤلفاته لم يكن صاحبها، أو أن مفهوما معينا ليس إبداعا أصيلا منه يستحق أن ينسب إليه، إذ أخذه عن غيره، أو أن اكتشافا كان يفخر بنسبته إليه هو في الحقيقة اكتشاف غيره. وكثيرا ما تأتي الرسائل في شكل رد شبهة أو تهمة مثلما فعل نيتشه حين بين، على خلاف ما نقل عنه، أنه لم يلحد يوما ولم يكفر بربه الكنسي، على الرغم من لهجة السخرية والتهكم التي تشتم من كتاباته عن القيم المسيحية، إذ يقول في خطاب بعث به إلى صديقه بيتر جاست: "المسيحية أفضل عناصر الحياة المثالية التي عرفتها حقا. ولقد تتبعتها منذ حداثتي في جميع أنحائها، وأعتقد أنني لم أصرف عنها قلبي طيلة حياتي. وقصارى القول أنني منحدر من سلالة تتألف كلها من رجال الكنيسة المسيحيين"(1). ولنقرأ كذلك ما جاء في رسالة اختطها المحلل النفساني النمساوي فرويد وهي موجهة منه إلى حايم كوفلر عضو مؤسسة إعادة توطين اليهود في فلسطين: "أظن أنه لا يمكن لفلسطين أبدا أن تصبح دولة يهودية، كما لا يمكن لللعالمين المسيحي والإسلامي على حد سواء، أن يظهرا يوما استعدادا لوضع أماكنهما المقدسة في عهدة يهود"(2). هذا الذي نتحامل على يهوديته، ونعتبره سبب كل الشرور التي عرفها العالم لأنه أشاح الوشاح عن محرك التاريخ في نظره وهو الجنس، ها هو يسجل، ودونما مواربة، تحفظاته على الصهيونية، لم يكن التاريخ ليكشف عنها لو لم يصرح بها فرويد في رسالته.
إن هذه الأمور وغيرها مما تطالعنا به رسائل الفلاسفة والأدباء والمثقفين تجمع في الأغلب الأعم في مؤلفات خاصة بعد وفاتهم كشاهد على زمن مضى، لكن حفيفه ما يزال يخترق الأفاق. وتبعا لذلك، يخطئ من يبخس قدر الرسائل العادية مادامت مشحونة بحمولة معرفية ووجدانية خصبة دلاليا، وهذا ما يجعل من الرسائل عادة ذلك الوجه الآخر لذات إنسان ولشخصيته، الوجه الحقيقي الذي قد لا نعثر عليه في إطار العلاقات التي ينسجها مع الآخرين.
إن الأمر هنا لا يتعلق حصرا بالجانب السلبي للذات من مشكلات عائلية أو عاطفية، أو حقائق تحط من قيمة الذات فيما لو تعرف عليها الآخر، وتزعزعت صورتها لديه، بل يتعلق الأمر أساسا بمواقف ومشاعر إنسان وجد فيما كتب محاولة لفهم ذاته، وتعريتها أمام نفسه، وفي تأكيدها على إنسانية الإنسان تتجاوز ظرفية الوقت والمباشرة اللذين يلازمان الانترنيت والهواتف النقالة.
إن المراسلة، فوق ذلك كله، مناسبة سانحة للكتابة والتأمل في هواجسها. فكل رسالة هي موضوع يحدد منذ البدء الغاية من الكتابة ويفرضها على صاحبه، وهذا ما يستدعي جهدا وبحثا عن الأسلوب اللائق والعبارات التي قد يوظف فيها رصيده اللغوي والمعرفي، وكذا التفكير في الروابط التي تحيل موضوع الرسالة مفهوما غير قابل لأن يثير التباسا لدى المرسل إليه. نستشف هنا أن الكتابة والتفكير توأمان لا يفترقان، حتى لو كان الموضوع بسيطا يتعلق بطمأنة المرسل والمرسل إليه على صحته وسير عمله... الخ. فالكتابة تعيين لموضوع أو قضية تتطلب من المرسل تحديد ملامحها وتجلية أبعادها، بغية تحقيق تواصل أفضل مع المرسل إليه. فلا غرابة إذن في عزوف كثير من الناس عن المراسلة، لأن هاجس الكتابة يمنعهم من ذلك، رغم وجود رغبة تحترق داخلهم، إلا أنها رغبة تنسف بمجرد طرح هذا السؤال: "ماذا سأكتب؟" ليحس بشلل أو بخواء في فكره، ويشعر بعجز عن الكتابة، فيضع القلم على الورقة، وينسحب إلى مأرب يقضيه. لذلك وجد أغلبية الناس في الهاتف النقال الفانوس السحري للانفلات من هاجس الكتابة وهو ما يدل على أن الثقافة الشفوية مازالت قيمة على اللاشعور الجمعي للمغاربة، وما الملايين من المنخرطين في شبكة الهاتف النقال إلا أصدق برهان على ذلك.
وهكذا تتجاوز المراسلة مستوى التعارف والتواصل البريء إلى أن تتجسد في صورة وثيقة أو وثائق تسعفنا على استجلاء التكوين النفسي للمرسل إليه وبنيته الذهنية ومستواه الثقافي وسلمه القيمي الذي يحكم سلوكاته ومواقفه. فقد يحصل أن يكتب مغربي رسالة طويلة لفرنسي يرد عليه برسالة لا تتجاوز في خطابها بضعة أسطر، وفي هذا دلالة واضحة بين عالمين، عالم المغربي المتخلف، عالم يهدر فيه الوقت ويبخس قدره، لا يحترم المواعيد، ولا يفي بالوعود، أقواله أكثر من أفعاله، كلامه كثيره لغو وقليله فائدة. في حين أن عالم الفرنسي يقدر في الإنسان إنسانيته، ويقدس الوقت الذي يملكه، واقعي في تفكيره وسلوكاته. لذلك تجد أن ما يعبر عنه المغربي في فقرات يختصره الفرنسي في أسطر، وكأن لسان حاله يقول: "خير الكلام ما قل ودل"، وهو مبدأ يجعلنا نستشف تنزيلا ته العملية من خلال المحادثات أو الرسائل التي يتبادلها هواة الدردشة عبر الانترنيت.
إن الإنسان يعتقد أن الانترنيت والهواتف النقالة تحرره من هاجس الكتابة وأرق التفكير، وتجعله سيدا على الزمن، متحكما بزمامه، بعدما كان عبدا لاستيهامات البياض المنغرسة بين ثناياه. ولكن دون أن يدري يضع نفسه بين بياضات هذا الزمن، والتي تجعل مصيره الانطولوجي والمعرفي والوجداني بين يدي أداة تقنية كالهواتف النقالة، تحول حياته إلى جحيم وقلق دائم بدونها. فعوض أن تكون هذه الأداة خاضعة لإرادته، تصبح مخدومة من طرفه.
لقد غدت هذه التقنية المنظار الذي ينظر من خلاله الإنسان إلى ذاته، وإلى العالم، وإلى علاقته بالآخرين، وهي إلى جانب ذلك، المرجع الذي يقيس به درجة تقدمه، وتقبل الآخرين له، وقدرته على التكيف مع محيطه. إنها العصا السحرية التي تحل له جميع المشاكل، فعوض أن يسافر لعيادة أحد أبويه وأقربائه، والاطمئنان على صحته، يكتفي بمها تفته متمنيا له الشفاء العاجل، وبدل أن يلتزم بموعد اجتماع عليه أن يحضره ينسل من هذا الالتزام باعتذاره عبر الهاتف وينتهي المشكل.
وهكذا أصبح من السهل التنصل من الالتزامات و المسؤوليات المفروضة على الإنسان أو التي يتحملها هذا الأخير. وهذا ناتج عن قهر هذه الآلة التي يتصور أنه يصب ما يعانيه من عنف مادي وقهر رمزي عليها في الواقع، لأن الهدف الذي صنعت الآلة لأجله ليس نفسه الهدف الذي يحفز الناس على استخدامه، فالتواصل يستحيل إلى لا تواصل لما تنطبع العلاقة بين طرفين بقيم الكذب والنفاق والاستغلال، وهنا تحيى أخلاق العبيد لتتلاشى القيم الإنسانية العليا، لاسيما عندما يتعلق الأمر بعلاقة بين طرفين مختلفين من حيث الجنس (ذكر وأنثى)، وفي واقع أصبح يقنع بنموذج واحد من هذه العلاقة، وهي الصداقة المقنعة أو ما يسمى في التعبير المغربي الدارج "التصحيب" أو "المصاحبة". فالرسائل الالكترونية، وحتى الرسائل العادية، لا تخرج في هذه الحالة عن نطاق ممارسة لعبة متفق على قواعدها سلفا، حتى ولو أقنع طرف - أنثى في الغالب- نفسه بوهم حب الآخر له. وسواء كان شعور المرء حقيقيا أو مزيفا فإن الخطاب التراسلي يتخطى كل حدود الزمن الطبيعي لينغرس في أعماق الزمن النفسي، ويتوشح مصير المرء الوجودي بإيغال الديمومة في كينونته.
قد يعاب على التراسل أنه حاجز أمام الاتصال المادي المباشر بين طرفين، بل قد يعاب عليه أنه تهرب من المواجهة، ورغبة في التخفي والخوف من إظهار الحقيقة الشخصية التي تتلبسها الذات، والواقع أن هذا يصدق على الانترنيت والهاتف النقال أكثر مما يصدق على المراسلة العادية، فهناك فئة "تحاول أن تفكك نفسها بالكامل ويتحلل أشخاصها من أجسادهم وشخصياتهم عن طريق تفضيل الاتصال من خلال الكومبيوتر عن الاتصال الاجتماعي وجها لوجه"(3).
إن للتراسل طقوسا تحتفي دوما بنبض الحياة فيه، وتطفح بحس إنساني يغترف من التعاطف والاستزادة المعرفية، فهما شرط كل تواصل بين ذوات يتلاشى في لغة التواصل بينها الإحساس بالزمن الفيزيقي لتذوب كليا في زمن سيكولوجي تؤثثه المشاعر في رهافتها وقوتها الإشراقية، وهو ما تصر عليه البرامج الإذاعية التي تتخذ من المراسلة والتراسل وسيلة الوصل وعنوان الاختراق في ذات الوقت لحدود الزمن والمكان، لأفئدة وعقول هواة التراسل بشكل رئيس. فكيف تموت المراسلة وهؤلاء مازالوا يتعبدون في محرابها؟ وكيف للانترنيت أن تقضي عليها وهي نفسها توظف كوسيلة نقل بديلة عن البريد العادي من خلال البريد الالكتروني مثلا؟ إن ما يجب استخلاصه من كل ما تقدم هو ضرورة البحث في الخطاب التراسلي وطقوسه الاستيتيقية، ففيها لا في غيرها تنكشف الإلهة التي يعبدها الإنسان، وخاصة إنسان التراسل.

 

الهوامش:
1- فؤاد كامل عبد العزيز، فلاسفة وجوديون، الدار القومية للطباعة والنشر، مصر، بدون، ص 24.
2- انظر "رسائل فرويد"، ترجمة نسرين ناضر، مجلة مدارات فلسفية، العدد 13، 2006، ص 219.
3- هيتا هايري وماتي هايري، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين، سلسلة عالم المعرفة، العدد 301، ص 179.