الرقمية: سند محايد أم نمط ثقافي – سعيد بنكراد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسيورد أفلاطون في  " لو فودر "(  le phedre   ) حكاية تشير إلى البدايات الأولى للكتابة، فقد عرض الإله توت ( ويسمى هرمس أيضا ) على الفرعون اختراعا غريبا اندهش له الحاضرون. وكان الأمر يتعلق بتقنية جديدة للتواصل والحفاظ على المعرفة وتداولها أطلق عليها الكتابة. وستكون هذه الوسيلة المستحدثة رديفا جديدا يضاف إلى الذاكرة، وربما سيحل محلها، أو على الأقل سيحد من نشاطها ودورها في تخزين ما أنتجته الخبرة الإنسانية في مسيرتها الطويلة. وكان رد الفرعون صريحا وقويا وعنيفا.
لقد رفض هذه الأداة الجديدة ودعا إلى تدميرها والقضاء على آثارها. فهذه التقنية الجديدة تشكل في نظره خطرا على مستقبل البشرية وعلى قدرتها على الاستمرار في تخزين المعارف بنفس قوة الذاكرة. فهي من جهة تجمد الفكر وتشل حركته وتأسره في علامات خرساء لا يمكنه الخلاص منها أبدا (1)، وستحل، من جهة ثانية، محل الذاكرة، والذاكرة هي العضو الأساس في الوجود المادي والرمزي للإنسان على حد سواء. فهي، بالإضافة إلى دورها التخزيني، تعد أداة مثلى في الحفاظ على النوع البشري ذاته، فالتذكر مدخل للوجود الرمزي وممر أساسي نحو إنتاج الثقافة وتداولها خارج إكراهات المكتوب الماثل أمام العين بشكل مباشر. وهي بذلك خاضعة، شأنها في ذلك شأن باقي أعضاء الجسد الإنساني، للتطوير والتمرين والتكيف، فالبدائل الاصطناعية قد تمنح الأعضاء قوة إضافية، لكنها مع مرور الزمن ستضعفها وتحولها إلى مُنفذ كسول للوظائف.
ومن المستبعد أن يعيد التاريخ نفسه لا على شكل ملهاة ولا على شكل مأساة، إلا أن الموقف من الإلكترونيات عامة ومن الأنترنيت خصوصا لا يختلف في الكثير من جوانبه عن الموقف من الكتابة كما سبق أن عبر عن ذلك الفرعون في العهود القديمة. فالذاكرة، التي هي الآن الكتاب والمكتوب والمطبوع والـمُخَزَن في مكتبات ومستودعات للكتب وفي رؤؤس الكائنات الإنسانية، تبدو مهددة بآلة افتراضية بلا قلب ولا روح، آلة قادرة على اكتساح كل شيء في طريقها، استنادا إلى ما تقدمه الشاشة مباشرة وما تخزنه الأقراص لتسلمه للجميع بأبخس الأثمان. فبجرة " نقر " يمكن التحليق، دون رقيب، في كامل أرجاء المعمور متخطين حدود الزمان والفضاء ورقابات الدول ومخابراتها وعيونها المدسوسة في كل مكان.


إن الأنترنيت يمكننا، من خلال إمكاناته التقنية الهائلة، من التزود بكل معارف الدنيا وأخبارها وعاداتها وثقافاتها، وهو بذلك يمكننا من التخلص من ضيق الفضاء وهشاشة اللحظة.
وكما تشير إلى ذلك الوصلات الإشهارية ( في المغرب وفي كل ربوع الأرض أيضا)، فقد أصبحت التقنية الرقمية وسيطا مفضلا عند الطالب والباحث والتاجر والصانع والطبيب والطباخ والمخبر والإرهابي، والطفل الصغير، وهو كذلك أيضا ( وهو ما لا تقوله الإرساليات ) عند الباحثين عن لذة افتراضية تقيهم شر الأمراض، أو عن زوج من " بلاد تموت من البرد حيتانها" . لقد اندثرت فجأة، وبدون سابق إنذار، كل الأشكال القديمة للتواصل، لتحل محلها وسائط جديدة ميزتها السرعة والفعالية والانتشار الواسع والمردودية السريعة.
فلم تعرف البشرية في تاريخها الطويل، بدءا من اللحظة التي تحول فيها الصوت إلى حامل رمزي يعين ويصنف وينتج المعاني المجردة، إلى ظهور الكتابة وبعدها الطباعة التي عممت الخبرة الإنسانية وأذاعتها، وإلى ظهور كل الأسناد التعبيرية المرافقة للغة، كل هذا الكم الهائل من الأشكال التواصلية: هناك فائض في المعلومات والمعارف، بل هناك ما يسميه الغربيون حاليا " إفراطا في التواصل " قد يصبح في حالات كثيرة غيابا لأي تواصل( وهو كذلك فعلا). ولا يشكل البريد الإلكتروني الآن سوى صيغة تقليدية بسيطة للتواصل قياسا إلى الحالات التي يقدمها التحاور وجها لوجه بالصوت والصورة.
استنادا إلى هذا، لا يمكن للأنترنيت أن يكون مجرد وسيط، أي مجرد سند تقني موضوع في خدمة الثقافات والمعارف، وفي خدمة الاقتصاد والحرب والتجسس، وفي خدمة الجنس والدعارة أيضا، وسيط محايد يقوم بدوره ذاك في استقلال كلي عن المضامين التي يحملها ويروج لها وينشرها في كل أرجاء المعمور. إنه أكثر من ذلك، بل هو على النقيض من ذلك  طريقة في الوجود ونمط في الاجتماع وسبب من أسباب انبثاق علاقات إنسانية من نوع جديد، علاقات تستوعبها السرعة والبساطة في كل شيء : في التنافس الاقتصادي ونشر المعارف والاطلاع على الأحداث وتصريف العواطف والانفعالات.
إنه يذكر بظهور الهاتف المحمول، بل هو أوسع منه مدى وأشد تأثيرا. فالمحمول ذاته لم يكن في بداياته الأولى سوى صيغة تواصلية عن بعد أُضيفت إلى الهاتف الثابت والتلكس والفاكس وأشباههم، إلا أنه تحول بسرعة فائقة إلى طريقة جديدة  في " قياس حجم المسافات " وسند مرئي للتحكم في الزمن وإدارته وفق هوى يولد وينمو ويموت سريعا. إنه رسم على أخاديد الشاشة لكم انفعالي يتجسد في " القلوب " وفي " السيوف " و"الوجوه العابسة أو الضاحكة " التي حلت محل الكلمات وقلصت من حجم التمثل وانفتاح واجهات الانفعال الإنساني.
إنه بكلمة واحدة صيغة " تواصلية " تختصر كل شيء. لقد أصبح شكلا جديدا في " الحب " وطريقة جديدة في تصور "الروابط الأسرية" ومعاملات التجارة وأرقامها. لقد قضى بذلك، أو كاد، على كل العلاقات القديمة ( الزيارات العائلية واللقاءات الحميمية ) كما قضى إلى الأبد على الرسائل بكل أنواعها (تستوي في ذلك رسائل العشق ورسائل التعازي والتبريك وتبادل الأخبار ) وعوضها ب" ميساجات " تختصر كل شيء بما فيها العواطف، ووحدها الرسائل الإدارية واستدعاءات الشرطة استمرت في الوجود، ربما لتذكرنا أن للسلطة زمنا آخر لا يعرف سره إلا العارفون بخبايا التحكم في الكائنات والأشياء عن بعد وعن قرب.
وهذا بالضبط ما تشير إليه الإحالة الضمنية لعنوان المقال: لا يمكن قطعا الفصل بين السند ومضمونه. لقد أصبح للأسناد الإلكترونية المستعملة في نشر المعرفة وتداولها أساطيرها الخاصة، تماما كما كان لآلات الطبخ والغسيل والتبريد أساطيرها أيضا :  فلم تكن تلك الآلات مجرد بدائل محايدة. لقد ساهمت في تحرير المرأة من إكراهات العمل الجسدي المتواصل، ومكنتها من الالتفات إلى جسدها ومحيطها، كما منحتها فرصة جديدة لتنظيم حياتها وفق المتاح الزمني الذي وفره استعمال الآلة.
وهو ما يصدق على تكنولوجيا المعلومات أيضا، فالتعاطي مع الأنترنيت من زاوية كونه ثقافة معناه النظر إلى أسناده المادية باعتبارها قوى حية لها تأثير على المضامين وعلى الأشكال التي تصرف بها علاقات الإنسان مع نفسه وغيره ومع أشياء عالمه. وهذا أمر ليس بالجديد، فقد تنبه مارشال ماك لوهلان منذ ما يقارب الأربعين سنة إلى هذه الحقيقة وحذر من خطورتها. فالوسط الذي تُتداول من خلاله الإرسالية هو ما يحددها في نهاية الأمر وبدايته، فالمعلومة تأتي إلى المستهلك عبر الوسيط المادي، لا من خلال مضمونها المستقل فقط. (2)
لقد قضت الطباعة على النسخ على الورق أو اللوح أو الحجر، فابتلع النسيان النساخ والكتبة واندثرت ثقافتهم وطريقة عيشهم ولم يبق منها سوى ما يذكره عنهم المؤرخون والمهتمون بتاريخ الكتاب. وظهرت الآلة الكاتبة فتشابهت الخطوط، فكانت البدايات الأولى للانفصال التدريجي عن الخط وقدرته على الكشف عن نوايا الكاتب ونفسيته، وقدرته على التعبير عن الانفعالات الإنسانية. لقد كان الخط مثوى لروح الكاتب، ففيه يودع أفكاره وفيه يودع جزءا من انفعالاته. أما الآن فقد اختفى من على وجه الصفحة ذلك الارتعاش والتردد والحرف المدغم والرقيق، واختفى التشطيب والحذف والزيادة والحواشي، لتحل محل كل ذلك آلة صماء  عمياء تكتب كل المضامين بنفس الحياد ونفس البرودة : شيء ما ضاع واختفى ولا يمكن استعادته إلا من خلال ما تركه لنا الأسلاف من مخطوطات يجاهد البعض على نقلها هي ذاتها إلى عالم الرقن المحايد.
بل يمكن القول إن الأمر يتعلق بتصور جديد لمفهوم الحقيقة ذاتها. فعندما ينتفي " المركز " المؤسس والموجه وتسقط كل المراجع، وتنتشر الإحالات في كل الاتجاهات تصبح كل الحقائق ممكنة، حقائق متساوية في الوجود وأشكال التجلي والحظ في الانتشار. لذا لم يعد من الممكن، في زمن التحولات المتتالية، الاحتفاظ بفكرة واحدة لمدة طويلة، فكل شيء أصبح نسبيا، ولا يمكن أن يوجد أو يفهم إلا محاصرا بالمقامات، إنه يحيى في السياقات المتجددة باستمرار. وقد تساوت في ذلك كل الحقائق: حقائق الصغار والكبار، وحقائق الدنيا والآخرة على السواء. فالأنرنيت يحتوي على كل ما يحتاجه الإنسان وما لا يحتاجه، فهو لا يجيب عن الحاجات فحسب، بل هو خالقها أيضا.
فإلى جانب المواقع المخصصة للمعرفة والعلم الرصين، هناك مواقع للذة وعالم الجنس الافتراضي، ومواقع للتنابز الديني وفتاوى التحريم والتحليل وكل ما له صلة بالوجود الإنساني في الأرض وفي السماء. بل إن الأمر في هذا المجال الأخير قد تجاوز كل الحدود، فقد تعددت الفتاوى المبثوثة على الأنترنيت لدرجة أن النصوص المقدسة ذاتها لم تعد قادرة على توحيد أحكام الشرع وقواعد الفعل كما كانت تبدو عليه الأشياء قديما، فمن السهل الانتقال من الحلال إلى الحرام أو العكس، يكفي في ذلك تغيير الموقع والإبحار في موقع آخر أقل تشددا أو أكثر تسامحا من سابقه. لقد ألقي بالمواطن المسكين ضمن دوامة من الأحكام الشرعية التي نادرا ما يستطيع تبين صالحها من فاسدها.
ها هو الأنترنيت يحرر المؤمن من سلطة فقيه الحي والقرية والمدينة، ويحرره من المرجعية السياسية المتحكمة في الشأن الديني أيضا. بل أخذت النخوة بعض اليساريين في بلادنا فراحوا يدافعون بحماس قل نظيره عن المذهب الواحد، فالإسلام ديننا والمالكية مذهبنا. ربما فعلوا ذلك حنينا إلى إيمانهم السابق بعبقرية الحزب الوحيد الذي لم يتخلصوا منه إلا مع سقوط أسوار برلين تحت أقدام لبرالية اقتصادية همجية تدك في طريقها كل الخصوصيات وتبشر بحزب أمريكا الوحيد راعيا لكل الشعوب. لقد اكتشفوا في التعدد السياسي رحمة تقي من شر التسلط في السياسة، ولم يكتشفوا في وحدانية التمثيل المذهبي الديني مسا بالفضاء الاجتماعي الذي يحتمي به الفرد هربا من كل الإكراهات.
ولهذا يخطئ من يعتقد أن الدخول إلى الفضاء الافتراضي للمعرفة الذي يقدمه الأنترنيت هو دخول شبيه بتصفح كتاب أو موسوعة أو أي سند آخر. إن ميزة هذا الفضاء الأساسية هي" الإحالات المتتالية " التي لا يمكن أن تتوقف عند حد بعينه. فهي أخطبوط يمد أطرافه في كل الاتجاهات. فبالإمكان أن يجوب " المبحر " كل أرجاء العالم من خلال " روابط " تجمع بين كل شيء ضمن تتابع وتشابك لا حد لهما. إن الأمر يتعلق بتفاعل دينامي بين المخزون المعرفي الموزع على جزئيات فضائية لا يمكنها أن تستمر في الوجود إلا إذا ارتبطت بجزئيات أخرى، وبين متلق مسحور بالتنقل، وكل نقلة عنده لا تقوم سوى بتنشيط أطرافا من ذاكرته والمضي بها في هذا الاتجاه أو ذاك.
فلا وجود، داخل شبكة الإنترنيت، لشيء مفصول ومعزول ويتم تداوله سرا، فكل شيء موجود في ارتباطه بشيء آخر. يكفي أن تدخل الشبكة لتجد نفسك فجأة ضمن " دوامة " تفترض إحالات متتالية لا نهاية لها، والبداية ذاتها ليست سوى حالة افتراضية خاصة بالمبحر لحظة الإبحار، فكل شيء يمكن أن يكون بداية، فالبداية حرة، ولكن لا شيء يمكن أن يكون نهاية إلا ضمن اختيار انتقائي طوعي هو ذاته لا يملك من ختام سوى ما يقدمه هذا الاختيار دون سواه. لقد تحول العالم كله إلى شبكة ممتدة في كل الاتجاهات. فبعد أن كان الافتراضي عالما للوهم والاستيهام والعوالم المنفلتة من كل الإكراهات، أصبح الواقعي مشروطا بحالات الافتراض الذي تجسده في كل عملية إبحار، فخرائط الدول ذاتها تقدم من خلال نماذج مصغرة أو مصورة قد تغنيك عن الزيارة الحقيقية.
إننا في واقع الأمر نخرج من العوالم " الواقعية" لنلج عالم الافتراض في كل المجالات. وهو عالم متملص من كل أشكال " الحميمية " الدالة على الثبات والاستقرار على حالة تطمئن إليها الذات وتبعث في الروح السكينة والهدوء، شأنه في ذلك شأن كل عالم غير متحيز في فضاء بعينه. وبين حالة الافتراض والواقع لا تشتغل إكراهات الحاضر المادي في مقابل الموجود المرئي من خلال وسائط سريعة التبدل من حيث الشكل ومن حيث المضامين، باعتبارها حدا فاصلا بين عالمين لحالة إنسانية واحدة، بل هناك سلسلة من القطائع بين مجتمع " متماسك " موجود ضمن ثقافة واحدة محدودة من حيث الوجود والامتداد، وبين " كونية " ( أو إن شئتم " عولمة " ) تعيشها كل ساكنة المعمور كافتراض لا يتحقق إلا لكي يخلق سلسلة أخرى من الافتراضات الجديدة التي تغطي على ما يعيشه الفرد كوقائع يستعصي عليها التسلل إلى ذهن أنهكه عالم الافتراض.
إن الشيء الوحيد القابل للإبلاغ في عالم الأنترنيت هو حالات التغير المتتالية التي تصيب المعارف والأسناد الحاملة لها في الوقت ذاته. وكلمة " إبحار " وحدها كافية لأن تقنعنا بأن الأمر لا يتعلق برحلة آمنة تبدأ وتنتهي بلا خسارات، بل هو تيه في محيطات وفضاءات بلا قرار ولا بداية ولا نهاية. لا وجود لمن يهدي، فالبوصلة الموجِهة ذاتها لم يعد لها من معنى ما دامت الاتجاهات الأربعة المألوفة قد انفجرت في اتجاهات فرعية لا متناهية تحتوي على توجهات هي ذاتها يمكن أن تصبح مصدرا لاتجاهات جديدة.
من سمات " النص المترابط" ( والتسمية لسعيد يقطين) أو " التشعبي " ( والتسمية لمحمد أسليم) التشظي والتفكيك والترابطات التي لا تحتكم لأي سياق سوى السياقات التي تفرزها الإحالات المتتالية ذاتها. وهي سمة تجمع بين هذا السند الإلكتروني البارد وبين حرارة الظواهر التعبيرية الإنسانية. ويتعلق الأمر بمبدأ يحيل على قضيتين أساسيتين في تشكل الوقائع الإبلاغية ونمط إنتاجها للدلالات:
- ما يعود إلى النص وصيغ تكونه وترابطاته الممكنة مع نصوص أخرى.
- ما يعود إلى الدلالات وانتشارها داخل فضاء نصي ما.
فقد  اكتشفت الشعرية الحديثة في النصف الثاني من القرن الماضي فكرة الترابطات الممكنة بين النصوص ( مقولة التناص الشهيرة ). وهي الفكرة التي بدأت تشكك، بهذا الشكل أو ذاك، في مقولة النص ذاتها، مادام كل نص ليس، في واقع الأمر، سوى استعادة لجزئيات نصية مستوحاة من نصوص أخرى محيطة أو سابقة. فلا وجود إذن لنص خالص مكتف بنفسه لا يحيل سوى على عوالم هي من صلب بنائه، ففهم هذا النص يقتضي بالضرورة استحضار دلالات مستوحاة من نصوص أخرى.
وهذا ما تجسده الآن فكرة " النص المترابط أو التشعبي " الذي سار بهذا التصور إلى حدوده القصوى من خلال تكسير الإحالات الخطية والتتابع المسترسل، ليحل محله التشعب والترابط بين كل " نصوص " الشبكة (2). فكل نص هو إمكان لمجموعة من النصوص الضمنية القابلة للتحقق مع أدنى تنشيط لذاكرة جزئية نصية من خلال جرة " نقر ". بل هناك من ذهبت قناعاته بعيدا في هذا الاتجاه من خلال التلويح بظهور عصر أدبي جديد سيقتل النص والمؤلف على حد سواء (3). وسيصبح التأليف جماعيا، سيكون بإمكان عشرات " المؤلفين " الاشتراك في كتابة " رواية " واحدة عن بعد، رواية لا تتحدد من خلال تتابع منطقي خطي للأحداث، بل مشروطة في وجودها بالإمكانات السردية التي يشتمل عليها كل حدث يتم تمثيله.
وهو أمر يجب أن نأخذه بكثير من الاحتراز والتحفظ. إذ من المستبعد أن تقبل به ذائقة العصر، وفي جميع الحالات لا يمكن أن يقبل به منطق العمل الفني ذاته. فالفن في أبسط تعريفاته هو القدرة على الفصل والعزل من أجل بناء عالم " اصطناعي " لا تحكمه نمطية الواقع وتشعباته، بل يندرج ضمن إمكانات التداخل بين عوالم التخييل ومتطلبات الواقع. فكتابة رواية مثلا لا تتحقق من خلال إنتاج عدد لا محدود من الملفوظات ضمن تتابع لا يتوقف عند حد بعينه، بل مرتبطة ببناء عالم استنادا إلى عدد محدود من الملفوظات. فالتحكم في الإمكانات وتوجيهها هو أصل الفن، أما إطلاق العنان للانفعالات لكي تسير في كل الاتجاهات فذاك لعب قد يستهوي البعض ولكنه لا يمكن أن يشكل عملا فنيا جديرا بهذه الصفة .
وفي الفترة ذاتها، واستنادا إلى موروث فكري إنساني قديم كان يشكك في كل الحقائق النهائية والجاهزة ( الهرمسية والغنوصية وكل تيارات اللاعقل )، ظهرت إلى الوجود فكرة الإرجاء والإحالة النهائية المؤجلة تعبيرا عن رفض كلي لأي معنى نهائي يمكن أن تحتويه واقعة تعبيرية متضمنة في كيان يطلق عليه النص. فالنصوص تحولت إلى ذرائع للبحث، في ذاكرات منتشرة في كل شيء، عن معاني جزئية وناقصة تحيل على بعضها البعض فيما يشبه التوالد السرطاني، بتعبير إيكو، وذاك ضمن تتابع وتداخل وتشابك لا حد لهم ولا نهاية. حينها سيكون من العبث البحث في نص ما عن مدلول نهائي أو غاية قصوى ما دام وجود كل نص مرتبط بقدرته على التناسل مع نصوص أخرى، وما دام كل معنى ليس موجودا إلا في ارتباطه بمعنى آخر ضمن إحالات متبادلة. والخلاصة أن البحث في النص عن معنى هو في واقع الأمر تدمير له وتفكيك لمكوناته وتحويله إلى أشلاء مترامية في كل مكان وتلك هي مصادر اللذة القصوى.
استنادا إلى هذا التشظي اللامتناهي للنصوص وللمعاني، هناك " من استبق الأحداث وأطلق رصاصة الرحمة على العهد القديم معلنا عن ميلاد الرقمية الحديثة التي ستغير من مفهوم المعنى المحدود القابل للقياس. وبذلك فقد أعد مراسيم وداع بلا أسف تليق بالكتاب الحالي في هيئته الورقية الذي لم يشكل، في واقع الأمر، سوى قوسين في تاريخ البشرية، مثلما كان الحجر والألواح الطينية ورولو البردي مجرد محطات في تاريخ الكتابة أفضت إلى الكوديكس الحالي الذي لن يكون بالتأكيد المحطة النهائية لتجسيد الإنسان لذاكرته وفكره " (4). سنخرج، مع الأسناد المعلوماتية الحديثة، من دائرة الكتاب الذي يشتمل على حقائق ثابتة يمكن العودة إليها من حين لآخر، لكي نلج عالم الافتراض الرقمي الذي لا يحتفظ بالحقيقة إلا من أجل استبدالها بأخرى.
فما نعاينه الآن ليس سوى بدايات بسيطة لعهد رقمي شبيه بسيل جارف سيكتسح كل شيء في طريقه. وما سيصيب الذات الثقافية أكبر بكثير مما سيلحق الأسناد المادية للمعرفة وأشكال التواصل. وبتعبير دقيق، إن تغير الأسناد المادية ذاتها سيكون هو البوابة الأصلية لكل التحولات العميقة التي ستلحق تصور الإنسان لذاته وعوالمه الحسية والفكرية على حد سواء. ألم تنتشر في السنوات الأخيرة وصلات إشهارية غريبة تروج لمواد استهلاكية بدون أية مزايا غذائية كالمشروبات الغازية والقشدة، تبني حجاجها على قيمة غريبة تحذر من اللقاء الجنسي مع المرأة وتدعو إلى لذة منفردة بدون مخاطر هي ما تمنحه هذه المواد ذاتها.
وهذا بالضبط ما يحتاج إلى تأمل خاص، وهو ما يمكن أن يشكل خلاصة هذا المقال. بالتأكيد لا أحد يستطيع الآن أو غدا أو في أي يوم من الأيام أن يتنكر للمزايا التي جاءت بها الرقمية الحديثة وما يمكن أن تأتي به استقبالا. لقد وفرت كل شيء، الجهد والمال والوقت والفضاء. بل يمكن القول إنه لم يعد ممكنا الآن تصور العالم وتصور الحياة الإنسانية بدون مساعدة هذه التقنية الحديثة. وقد عدد الأستاذ سعيد يقطين مرتكزات أساسية للتعاطي مع  عصرنا الرقمي في مبادئ عديدة منها كونية المعرفة وإنسانيتها وتفاوتها من فضاء ثقافي إلى آخر ثم التفاعلات الحضارية بين مجمل ما أنتجته الإنسانية(5).
لقد أصبحت معايير الحكم على الظواهر كونية، لذلك فإن الانتماء إلى التاريخ الإنساني يجب أن يتم من خلال تبني هذه المعايير والاحتكام إليها في تقويم المنتج الثقافي المحلي. ودون ذلك، فإن أي حكم سيكون خداعا للذات. فمن يحتكم إلى معايير ثقافته وحدها للحكم على الظواهر التعبيرية المتعددة، سيخلق عبقرية ليست كذلك إلا في عينيه هو. فالأنترنيت تعميم للمعايير : معايير الرؤية والسمع والذوق وتداول الأفكار. 
ولقد شكلت الفضائيات في بداية عهدها تهديدا للهوية عند البعض، واعتبرتها السلطة اختراقا خطيرا لجدارها السميك، إلا أن هؤلاء جميعا اكتشفوا مزاياها في التضليل والتدليس ونشر كل خرافات الدنيا، فملئوا الدنيا بها وشغلوا الناس وحاصروهم من كل الجهات.
وهنا يبدأ الوجه الآخر للأنترنيت. فكما للذرة قدرتها على مدنا بالطاقة المتجددة، فإنها أيضا مصدر قد يسبب دمارا شاملا لا يبقي ولا يذر. إنه ديمقراطية لا تعترف بالخصوصيات ولا تراعي الثقافات ولا تكترث للمحلي. إنه هنا في هذا المكان وفي كل مكان بين يدي الجميع. ونكتفي هنا بالتذكير بمبدأين أساسيين في تمثل الوجدان الإنساني وطريقة نموه واشتغاله :
- للموروث أثره على الاستعمال، فلا يمكن فصل تاريخ المستعمِل عن تاريخ المستعمَل. فالتقنية الرقمية الحديثة هناك هي حصيلة لتطور موضوعي مستقل تمتد جذوره في تاريخ العلم الحديث وما قبله، وفي ميلاد كل التكنولوجيات المتتالية. وهي بذلك تعد جزءا من وجدان الفاعل وجزءا من ذهنيته ونمط تفكيره. أما عندنا فهي وافد طارئ، نعيش أشكالها في انفصال عن مضامينها، إنها شبيهة بكل التجارب السابقة من قبيل "التصنيع القسري " و" التحديث القسري" و" التمدن القسري " وككل الأشياء التي نعيش نتائجها في انفصال كلي عن مقدماتها، فهذه التجارب الممتدة على أكثر من خمسين سنة لم تفلح أبدا في التأثير على نمط رؤيتنا للعالم. لذلك، إذا لم تقد الرقمية الحديثة إلى " تحديث " الذهنيات وتحديث الرؤى للحياة وللوجود، فستكون كسابقاتها، آلة صماء بمردودية محدودة، بل ستسهم في المزيد من التشويه الحضاري الذي يطال الآن أجزاء كثيرة من حياتنا.
-وكما كانت تجربة الفرعون مع الكتابة مرعبة، يمكن أن تكون تجربتنا مع الرقمية الحديثة مرعبة كذلك أيضا. لقد وقع ما كان مقدرا. ربحنا الشيء الكثير، ربحنا الوقت والجهد والمال، وخسرنا جزءا من وجداننا وإنسانيتنا وخسرنا جزءا من مقدراتنا البيولوجية، على رأسها الذاكرة. سيأتي اليوم الذي يكتشف فيه الإنسان أن المعلومات ليست كما معرفيا يمكن تداوله بعيد عن ملكوت الذات، بل هي ممر نحو نمو هذه الذات وأداة في تشكل تصوراتها لنفسها ولمحيطها. إن كل معلومة تؤثر بهذا الشكل أو ذاك في وجدان حاملها.
لم نعد نعشق أو نحب أو نكره كما كنا، ولم نعد نبيع ونشتري كما كنا نفعل ذلك إلى الأمس القريب. لا نخط الخط ثم نعيده ثم نمحوه باليد اليسرى. لم نعد نبدع رسوما ولا خطوطا، فالنماذج متوفرة والإبداع إضافة لا اختراع. إننا نحب دون رؤية المحبوب، ونشتري دون رؤية البائع، ونحاور دون رؤية المخاطب. لقد تسلل الافتراض إلى كل شيء، إنه في التاريخ والجغرافيا والمعارف وأجساد النساء والرجال على حد سواء.  
ولم تعد ذاكرتنا كما كانت. لقد أنهكتها السرعة وقلص من مساحتها الاختصار، كل شيء مسجل: أرقام الهواتف والقن السري ومواعيد المساء والصباح، وأسماء الأصدقاء ذكورا وإناثا. كل شيء يأتيك في انفصال عن السياقات التي تشرحه وتبرره، لا تقرأ كتابا، فالآلة تتكفل بانتقاء المعلومة من بين ركام من المعلومات كانت تشكل إلى الأمس القريب ثقافة الباحث وزاده. وليس من الضروري أن تقرأ النظريات كاملة، فالآلة تعطيك ملخصها في انفصال عن كل النظريات الأخرى. لقد أُنهكت الذاكرة وتقلصت مساحتها، لذلك، قد تأتي البدائل الاصطناعية بالعجب العجاب، لكنها في ذات الوقت تضعف العضو وتنهكه وسيجنح إلى الضمور لا محالة.

الهوامش :
- P158  Umberto Eco : Le signe, éd Labor Bruxelles,1988,
2- M . Macluhan : Pour comprendre les medias, éd Seuil, 1968
2 – سعيد يقطين  : من النص إلى النص المترابط ، المركز الثقافي العربي، 2005 ص 96 وما بعدها
3- محمد موقع محمد أسليم
4- نفسه
5- سعيد يقطين نفسه ص