قراءة في المتن الحكائي لرواية جيل آخر ( أولاد النصرانية) لأحمد الشطيبي ـ السعيد أخي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 تعد الرواية جنسا أدبيا راقيا ، يلجأ المبدع إلى كتابته ، عندما يحسّ بالرغبة في معالجة قضية ما بطريقة فنيّة، ويتسنى له ذلك من خلال مجموعة من المكانيزمات المتحكمة في العملية السرديّة، وذلك عندما تستوي حبال الأحداث في بوثقه ذهن الراوي وتسعفه اللغة للتعبير عن أفكاره بشكل أنيق بلا حدود أو قيود ، فالرواية عمل له قدرة على منح الراوي إمكانات سردية عبر مسافات الأزمنة دون إحساس بالضجر وهذه الإمكانية لا تتيحها الأجناس الأدبية الأخرى.
       جاءت رواية (جيل آخر ) باعتبارها تصويرا للأزمة الرّوحية التي يحسها الإنسان المنشطر بين الواقع العيني المفعم بالتناقضات ، والعالم المفترض المثالي الذي ترنو إليه النفس وتتشوق لمعانقته.
     إن (جيل آخر)  عمل إبداعي يحكي قليلا من كثير، على عكس بعض الأعمال الروائية الأخرى ، فقد كثفت السارد المعنى ولم يسهب  في رسم التفاصيل ، لربما لأنه يحكي عن لحظات يضمر فيها المسكوت ويعلن من خلالها المشترك.
    هذه الرواية هي عمل إبداعي يشد القارئ من خلال قراءة عتباته ، لا من حيث اللغة أو طرق تشكلها ، ولكن من حيث معالجة قضية ، متشابكة الخيوط ، وصعب في الوهلة الأولى أن يدرك القارئ أو الناقد  مرامي السارد الفكرية ، إلا بعد لَأْي.

    يقع هذا العمل في ثلاث وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، واختار السارد اللون الأزرق لدفتي الرواية ، ودلالة هذا اللون عند علماء النفس هو الصفاء الروحي والنقاء الفكري ، والسارد بهذا اللون انحاز الى أصحاب الذكاء الحاد والحكمة في القول والفعل والالتزام.
       كما اختار الراوي لهذا المتن عنوانا مركزيا  (جيل آخر) وآخر فرعيا ( أولاد النصرانية) ، ويتبدى من خلال قراءة هذه العتبة بأن السارد يراهن منذ البداية على تأكيد الهوية  للشخصية الساردة، حيث لن تتوقف الحياة عند حدود شخوصه وأحداثهم ، فالسارد غير نمطي في تناوله للأحداث الروائية . وتأتي عبارة( أولاد النصرانية) لتقف حائلا دون اكتشاف سر العبارة ، لأن آلية التأويل لا تسعف القارئ معرفة الأبعاد الدلالية للعنوان الفرعي واستكناه النص دون قراءة المتن . واختيار العنوان جاء استفزازيا لقارئ مفترض ، وهو بالتالي دعوة ماكرة للقراءة من طرف القاص أحمد الشطيبي.
     أما صورة الغلاف فكانت تجسيدا  لطائر البوم يبسط  جناحيه ، ومن مميزات هذا الطائر حبه وشغفه بالليل ،أما عشق السارد هذا الزمن فهو لمناجاة الذات وعشق مساءلتها ، ويتوحد طائر البوم والسارد في قوة الرؤية والسمع والهدوء وحب السكينة .
     كان أحمد الشطيبي موفقا في اختيار العتبات، نظرا لقوة حضوره باعتباره ساردا داخل المتن الحكائي، وإيمانه بقوة الأحداث ، بالإضافة الى صدْقه الفني. والقارئ للرواية يشدّه حضور ضمير المتكلم بكثافة ، لهذا نقول بأن الرؤية السردية تتحكم فيها الرؤية المصاحبة   بحيث تكون معرفة السارد بقدْر معرفة الشخصية الحكائية، دون أن تتجاوزها بتقديم معلومات أو غيرها ممّا لا علمَ لها به. ويتردّد حضور هذه الرؤية، بوضوح في السُّرود الذاتية كثيرا ، لكن ضمير المتكلم في هذه الرواية خرج عن السيرة الذاتية لمصاحبة الشخوص داخل المتن الحكائي، ليبقى الراوي شاهدا على الأحداث، بالإضافة إلى ذلك فضمير المتكلم له قدرة على تعرية النفس من الداخل مما يعطي للحكي طابع المصاحبة التي يكون الأنا فيها مجسدا في عرض الأحداث ونقلها للقارئ . إن وجود القارئ داخل الأحداث يعطي انطباعا بأن السارد شهادٌ على كل أحداث المتن الروائي التي تتآلف في اتساق مع أفكار الراوي، وهكذا يمكن القول إن الرواية قيد القراءة جنحت نحو السيرة ، لأن السارد ينتقل بين الأحداث مستغلا استرجاعها من الماضي، وترتيبها في قالب  يعطي انطباعا بأن السارد متحكم في خيوط الحكي . وهكذا فقد عمل السارد على سرد الأحداث بأناقة وبراعة مستغلا اللغة في صحة بنائها وجمالها.
     لقد انطلقت خيوط الرواية من نقطة تشترك فيها مجموعة من المكونات داخل فضاء تقليدي، وجد فيه البطل وهو نفسه السارد فضاء مفعما بالبداوة والبساطة مما جعل الأحداث تبدأ بسيطة مستمدّة بساطتها من أسرة هي الأخرى تعاني الهشاشة ،وتخيم عليها أفكارا تقليدية بطابع خرافي ، تكونت هذه الاسرة من الجدّة المتسلّطة الضاوية والأب رحال المغلوب على أمره و زوجة الأب السعدية وكبورة زوجة عم البطل امرأة حنون ولفقيه سي عبد السلام ومعلم اللغة الفرنسة والأخ الأصغر محمد الذي تشبع بالأفكار المتطرفة،و الصديق عمر الذي لم يكن مؤثرا ، هذا الفضاء بمكوناته وشخوصه هو ملاذ السارد، تشده إليه أكثر من علاقة ، هناك قليل من الدعّة والحُنو ، وكثير من المعاناة والعنف ، أما القرية برمتها فكانت مسجورة  بالجهل والأمية كعادة القرى في المغرب، وعلى الرغم من ذلك فالبطل يُظهر نزق الطفولة الممزوج بالرغبة في التفوق على أترابه من أبناء الدوار والعارف أكثر من غيره . مما زاده الثقة في نفسه . إن البطل يراهن على الرغبة الذاتية في التغيير دون الإحساس بالنقص من جرّاء  الممارسات المتسمة بالعنف من الجّدة أو سكان القرية  . لقد ظهر عند البطل قبس من اليقظة في الرغبة لحفظ كتاب الله تعالى، وذلك من خلال اتصال البطل بالفقيه باعتباره رمزا للتعليم التقليدي بالبادية ليلم بالتعليم الأصيل، ولم يكتف بذلك بل أقبل على تعلم الفرنسية على يد أستاذ الفرنسية، ومن خلال علاقته باللغة الفرنسية بدأ يقبل على بعض عادات متكملي هذه اللغة .
     تواترت الأحداث بسرعة، ولم يكن البطل يستوعب كل شيء ، بل كان يحس بأن البادية لم تعد قادرة على احتضان أحلامه وآماله ، لقد اكتشف أن المرأة (دادا كبورة) التي كان حِجرها ملاذا له لم تكن أمه الحقيقية ، ليواجه سيلا من النظرات الماكرة والنعوت الفجة من أقرانه ، فهم يعرفون أصله، ( ولد النصرانية) ، لم يكن يأبه لمثل هذه الكلمات من أترابه ، بل كان همه الوحيد أن يتعرّف على أمه التي أن أنجبته دون الإحساس بالدونية ، ازدادت رغبته للبحث عن أمه بعقل متقد ورغبة ، منذ اللحظات الأولى بدأ البطل يرسم لأمه في مخياله صورا ،حيث  اختلط فيها الواقعي بالغرائبي . إنه التحول الوجداني والعاطفي .
      وفاة الجدة  (رمز تسلّط) ، كان له تأثير كبير، حتى وهي تحت التراب لم يستطع الاحتفال بنجاحه الدراسي ، إنه النحس الذي يطارده ،لقد كان يخفف من وطء هذا الضيم  الذي لحقه بالنسيان و اللامبالاة، لقد راهن البطل ان يبدأ حياة جديدة ، اتسمت بالرحيل الى المدينة ، لاستكمال التكوين والدراسة، في هذا الفضاء الجديد ستحضر شخصية روبيرأستاذ اللغة الفرنسية، التي طبعت روح البطل وحولت اهتمامه إلى الإقبال على دراسة اللغة الفرنسية ، وفي ممانعة تلاحقه يحضر سي امبارك استاذ اللغة العربية ، محذرا البطل من مصاحبة روبير ، هذا الإحساس هو جزء مصغر من حياة القريرة المرتبطة بالتقاليد والأعراف والخرافات .  لكن البطل كان يميل الى التغيير والإقبال على مبادئ الحداثة كما يفهمها، ويستبطن الشعور بالتحرر والانعتاق من قيود الفقيه والجدة والرفاق في القرية . لكن علاقة السارد بروبير كانت تبدي الرغبة في التجدد والإحساس بالفرح ، هي الأفكار الجديدة التي يحملها روبير ترسم افقا رحبا لدى البطل ، لقد كان يقول : "وحده الاجتهاد يحقق المستحيل" هذه العبارة وغيرها كانت محفزا قويا ليحقق البطل كل أحلامه ، لم تكن القرية إلا لحظات شدّه إليها حنان دادا كبورة وبعض الأصدقاء الأوفياء . نجد السارد يتشظى بين واقع تقليدي جاثم على صدره ، وحلم رسمه في مخياله ، إنه فرنسا بلد الأم  ، حاول البطل دائما أن يجد رابطا بين العالمين ، أهم ما كان يشده في كل مرحلة هو خيط من المعرفة والعلم، ينطلق من القرية نحو المدينة كان روّاده معلمون و أستاذة طبعوا روح البطل بالطموح ، أضف الى ذلك الأب ، الذي كان عاملا مؤثرا بعد موت الجدة المتسلطة وكان عامل التقارب بين البطل والأب لحظة لكشف المستور ، إنها الرسائل التي كانت تصل من فرنسا ، هذه الأخيرة حولت واقع الوالد من إنسان بسيط الى صاحب ثورة مصدرها من عائدات التقاعد لأنه كان عاملا بفرنسا ،زد على ذلك بيّنت الرسائل بأن أم البطل الفرنسية، وهي التي طلبت الطلاق من الأب ، وتيقن البطل بأنه مواطن فرنسي صحبة الأب ، بل تمكن البطل من رؤية صورة والدته الحقيقية ، وصورة الأخ من الأم ـ كل هذه الأحداث حولت شخصية البطل من شخصية تكتفي بالبحث عن الحقيقة  إلى شخصية مندفعة بعاطفة قوية لصنع الأحداث ، وبدا ذلك من خلال العزم على الهجرة  نحو الضفة الأخرى ، هذه الرغبة كانت حلما في بداية الأمر ،لكن مع مرور الوقت بدأت بوادر الرحيل تقترب، ليحقق البطل بعضا من أهدافه التي تختزل في:
أولا - التحصيل العلمي والتفوق الدراسي
ثانيا - الإجابة عن أسئلة ترسبت في ذهن البطل منذ الصغر
ثالثا - الإبتعاد عن ضوضاء الكلمات التي سيجت مخيلة البطل لمعرفة نسبه
رابعا - البحث عن أسباب الحداثة ، والانفتاح داخل بلد يجره إليه رابط الأمومة
خامسا - البحث عن الأم الحقيقية ، والروابط الأخوية.
  يحس البطل بأن عوامل التاريخ فرقته  قسرا ،وطوحت به الظروف الاجتماعية ، ليعيش اختبارات عسيرة ، كان أهمها البحث عن القواسم المشتركة بين جميع الناس دون الاكتراث إلى الفوارق الاجتماعية أو اختلاف الديانات.
      كان لحضور البطل في فرنسا وقع خاص من حيث استكمال الدراسة أولا، ثم ليجمع شتاتا عائليا ثانيا،  لم يكن البحث ميسرا بالنسبة للبطل داخل هذا الفضاء الجديد.
        لقد راهن البطل على الاستعانة بالاسترجاع لبناء أحداث جديدة ، لم ينس البطل معلم اللغة الفرنسية وكذا أستاذ اللغة الفرنسية و الأب في دوره الإيجابي بعد موت الجدّة .
      إن ظهور الشخصية بيرنار ، الرجل الفرنسي ومدى التجاوب  بينه وبين البطل سيحول، مسار الأحداث إلى الأفق الذي يرضاه البطل، لقد كان بيرنار رجلا حداثيا منفتحا متشبعا بالعقلانية ، في حين كان البطل يبحث – من خلال ما تراكم من أحداث وصراع داخلي بين تقاليد القرية، وحداثة فرنسا - عن جسر بينه وبين تفكير يبعده عن خرافات القرية .
      يعد هذا التلاقي فرصة لتنامي الأحداث في الاتجاه الذي يريده البطل ، خصوصا التقارب بينه وبين الهدف الجديد وهو البحث عن الأم ، إن أهم حدث هو الأخبار الجديدة التي كان بيرنار يعلمها عن أم البطل وعن أبيه ، من خلال الصورة التي يحملها البطل معه ، لقد أخبره بيرنار بالمستوى البطولي لأمه التي كانت مناضلة نقابية بمعية الأب ، و قد اكتشف بيرنار أن الطفل(البطل ) هو نتاج لهذا المزاوجة بين أب عربي وأم فرنسية ، انخرطا في النضال من أجل العمال بفرنسا.
      في فرنسا بدأت أحداث في منحى تصاعدي ، ظهرت من خلالها لحظات المكاشفة كان بيرنار محطة أساسية في بناء المتن الحكائي عبر إيحاءاته وكشفه المستور ، لقد دلّه على أخيه من أمه جوزي، هذا الأخير الذي أبدى عنصرية مفرطة اتجاه العرب ، ولا يعرف سوى منطق المال والتجارة ، لقد استولى في وقت من الزمن على اموال أمه كلّها.
     إن رغبة البطل في بناء تصور شمولي مطبوع بالمحبة والتسامح لم يعط انطباعا للأخ أن البطل طامع في ثروة أمه . أما التحول العميق في شخصية الأخ جوزي فكان بدافع تفهمه للبطل ، وفي تغليب حكمة التسامح على تيمة الكراهية ، وأيقن بأن البطل لم يكن يبحث سوى  عن نسج خيوط الدم المشتت بين بلاده وفرنسا. في بادرة غير متوقعة قرر جوزي المجيء للمغرب ، بعدما اقتنع بأن الأخوة  لا يحفها الطمع أو المال.
   لم يتردد البطل كثيرا ليعود إلى المغرب لرؤية العائلة ، فعلا لم يجد القرية كما تركها ، تبدلت أحوالها كما تغيرهو ، لكن أخاه محمد ظل على حالته وازداد تشدده الديني ، كانت أول معارك البطل هي ثني محمد على الأفكار المستوردة والمستجلبة من الشرق الذي كان يتردد عليه ، بدأت الجلسات تعطي أكلها وبدأ محمد يقترب من إعمال عقله في رؤية الأمور ، طبعا كان لثقافة البطل ونجاحاته  دورٌ كبير في إغراء محمد أن يصاحبه لرؤية الأخ جوزي ، والظاهرأن التحول الذي اعترى محمد ليتحول من فقيه متعصب إلى أخ متحاور يكشف عن بساطة الأفكار التي آمن بها واعتنقها ،إن محاولة البطل الجمع بين محمد المسلم المتشدد مع جوزي النصراني وتسيبي اليهودية في مدينة الصويرة، هي في الحقيقة محاولة لتقريب الرؤى الفكرية رغم اختلاف الديانات ،لقد كان البطل في معترك تبديد الخلاف الساسي والديني بين إخوته ، كما كان مصمما أن ينجح في مهمته . لم يكن سهلا أن ينتقل البطل بين الاسترجاع والاستباق جامعا بين الماضي، وانتكاساته العاطفية والخلافية ، ومستقبل مفعم بالحرية والديمقراطية بين الإخوة النصراني (جوزي) واليهودي (تسيبي) والمسلم (محمد) ، إن المراهنة على المستقبل تيمة جادّة في المتن الحكائي ،( لننس الماضي، فغدا جيل آخر) هذه العبارة كانت في حضن الأم النصرانية التي حضرت هي الأخرى إلى المغرب تختزل الرؤية لتبديد الشعور بالفوارق العرقية والسياسة .
 إن نجاح الكاتب أحمد الشطيبي في رسم توليفة ذكية بين الديانات مستلهمة من تصوره للحياة ومن أفكاره الجريئة القادرة على احتضان المبدأ العقلاني الصرف ، حيث قرأ الكاتب الواقع بدافع الحرية والحق في الانتماء على الرغم من الاشتراك في الدم والعائلة ، إن ديمقراطية الفعل جعلت الانتساب الى الاسرة واقعا محترما بغض النظر عن الانتماء الديني ، وهذا الواقع لا يستقيم الا من خلال عقلية التنوير والحب.
      لم يكن أبدا  أحمد الشطيبي ، إلا واحدا من أبناء هذا الوطن الذين يترصدون الصور الواقعية  في كل تجلياتها ، فيحاولون عبر اللغة تحويل القضايا الاجتماعية والسياسية الى متعة فنية ، من خلالها يراهن البدع على حل مشكلات الراهن العربي  .