الزهرة المنصوري : شعرية الانجذاب لحمى الجسد ورسم ملامح الذات التائهة ـ د. امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse30095قد يكون من نافلة القول أن تصدي نقادنا لتجارب الشاعرات المغربيات كان خجولا، نظرا لعدة عوامل واعتبارات وفي مقدمتها طبيعة الذهنية التي كانت سائدة في المجتمع المغربي المحافظ، والتي وجدت تربة خصبة في قيم الأمس البائدة التي كانت تنظر إلى المرأة باعتبارها سكنا للرجل وملكا له لا غير.
غير أن إصرار المرأة المغربية علي إسماع صوتها المتميز، والتعبير عن خصوصياتها وطبيعة هواجسها هو ما حملها على تحدي هذه القيم المحافظة لنزع وشاح الحيف الذي التف لزمن غير يسير حول جسدها التواق إلى التحرر كليا من جميع أشكال القيود التي حاولت تكبيل هذا الجسد، وشل كل حركات أعضائه.
ولذلك سيعرف المغرب في أواسط العقد الستيني – من القرن الماضي- حركة أدبية وفنية واجتماعية نسائية بدأت تتشكل ملامحها، وتعبر عن مواقفها وآرائها في المجلات المتخصصة، والملاحق الثقافية لبعض الجرائد الوطنية التي بدأت تنتبه إلى تجارب شعرية نسائية شدت إليها الأنظار بسبب أصالة هذه التعبيرات وتميزها – من جهة – ونظرا لخصوصية أصواتها التي بدأت في نسج خيوط قصيدة مغايرة لما ساد قبلها – من جهة أخرى.

إن ما يثير الانتباه في التجارب الشعرية للشاعرات المغربيات عموما هو نوع من الانجذاب للاحتفاء بخصوصية الجسد الأنثوي، ومحاورة ملامح الفتنة والجمال فيه، وكأنه نوع من ردة الفعل تجاه منطق الإقصاء والقمع والرقابة الذي عانين منه ولمدة ليست باليسيرة. ذلك أن الدخول إلى عوالم الشاعرات أصبح مرادفا للدخول في مناخ الجمال الطافح بمشاعر أوقيانوسية، وطاقات " ايروسية" تتظافر جميعها من أجل نسج شفرات الجسد، ودلالاته الجزئية والكلية المترسبة والمتناثرة في شعاب اللغة وأدغال الرموز والصور الشعرية. إنه مرادف للدخول في متاهات الوجدان الذي يتلمس طريقه لهتك حجب الظلام، ومعانقة بريق الأنوار.
 القصيدة المغربية بصيغة المؤنث من خلال تجربة الزهرة المنصوري كما تتبدى في ديوانها : " تراتيل"1:
تبدو الشاعرة في هذا الديوان حريصة على استجلاء ملامح الذات التواقة إلى هتك الحجب وتكسير القيود المكبلة لحرية الانطلاق نحو منابع النور والهواء كي تتمتع بمواسم فرحها، وتساهم بما حباها الله من ملكات في صنع غدها وامتلاك سلطة تقرير مصيرها لتنهض بمسؤوليتها كاملة غير منقوصة ولتتبوأ مكانتها الطبيعية في كل مجال من مجالات حياتها.
 من هذا المنطلق يمكن استيعاب هوس الشاعرة بإبراز ملامح الذات الشاعرة وما يعتمل فيها من أصوات وصرخات مدوية من أجل فتح نوافذ الهواء، ومصارع الأبواب للاستمتاع بما حرمت منه طوال السنين العجاف التي عانت فيه من ظلم وقهر وقمع من جزاء استبداد الرجل الذي كان يجسد السيد والمولى، الآمر والناهي. إن هذا الواقع المر، هو ما ترك بصمات سلبية على هذه الذات التي لا تزال سجينة نوع من القلق المادي والروحي الذي استبد بها وحرمها من نعمة الهدوء والسكينة. ويمكن اعتبار قصيدة: " الوصية" بمثابة العتبة الأولى لاستقراء ملامح هذه الذات، حيث تقدم الشاعرة فيها " بورتريها:" يكاد يكون بالخطوط والألوان تجسد المواصفات المميزة لها. تقول في مقطع موح من القصيدة:
"أرسم وجهي على مرآة مكسرة
فتهرب بتقاطيعه الشظايا
وحين جسوري انمحت من وهج المرآة
بكيت...
ورسمت وجهي على زحمة الأشكال
فلم يكن وجهي
بل فراشة محترقة"2
إن الشاعرة حريصة على أن تضفي نوعا من الغرابة على هذا "البورتريه" من خلال استدعاء "كافكا" في بداية قصيدتها هاته، وكأنها تريد أن ترسم لوحة سوريالية لذاتها الشاعرة : تقول في هذه الإضاءة:
   "كافكا تاج القصيدة، أتاني خلسة يحمل قبوا ووصية، رأيت وجهه فانخسف الكون، وغدا كل شيء مجنونا: السماء ظلمتي، والملائكة. القبعة جنة قال كافكا .. هل سمعتموه؟ كاكفا لا يتكلم "3
تستلهم الشاعرة البعد السوريالي كما تجلى في أعمال المسرحي والروائي العالمي " كافكا" كي تصوغ تصورا يساعدها على تشكيل لوحة معبرة عما تعانيه هذه الذات القلقة:
"أتطاول في الفراغ
والشكل مرآة مظلمة
ووجهي غريب،
والأجساد في خاصرة الجدار
كانت السماء رخوة في يدي
أكلتها،
ونزلت أحكي عن وطني
الشمس في خاصرتي خلخال
والشكل ربوة"4
1- الانصياع لهواجس الذات التائهة / الجريحة / المحترقة
إن ما يثير الانتباه في التجربة الشعرية للزهرة المنصوري في ديوانها "تراتيل" هو نوع من الانجذاب للعذاب الروحي والقلق الوجودي المهيمن على الذات الجريحة، التائهة، الغريبة، المحترقة، ومن ثم تنصاع الشاعرة إلى تجسيد هواجس هذه الذات ، إذ لا تجد ضالتها إلا في تأجيج مواجعها وهي تجابه التوحد بالظلام والسواد والانطفاء والصمت والموت، ومن ثم يصبح ضمير المتكل هو الطاغي على مجمل قصائد الديوان عبر صيغة الفعل المسند لضمير المتكلم: أتحسس – أدنو – ألقى – أكتب – أفترش- أدخل أستسلم ...) أو عبر الألفاظ المنتهية بياء النسبة (جسدي – جسوري- جبيني – ضلوعي مخابئي...).
هكذا تصبح ملفوظات القصيدة موصولة بذات منكسرة باعتبارها سيدة الخطاب ومصدر إنتاجه.
تقول الشاعرة في مطلع ديوانها:
" جسدي مخبأ للرماد
أروقة حبلى بالقادمين نحو الروح
ويبكي النزيف في جبهتي،
...
 أدنو...
لا ألقى غير حلم مهترئ
ونشيد العابرين حين يتقصون موتاهم
وفي ضلعي امرأة سرقت من الموتى صمتهم
ثم بنت في عيونهم الوثنية صدى
ولظل الروح مذابح
ثم استسلمت للوحل"5
تبدو الشاعرة وكأنها فاقدة لكل بريق أمل بداخلها؛ فالجسد عبارة عن مخبإ للرماد. وضلعها قد تربع عليه الصمت، وهي تبحث هنا وهناك، فلا تجد سوى بقايا حلم مهترئ وجبهة تندى نزيفا، وهي كلما توغلت في أعماق ذاتها لا تجد سوى ما يذكرها بالجراح واللاجدوى والموت:
"أكتب من تبقى من جراح طيوري النائية
افترش نتوءا في الصدر
أدخل قباب الجرح لأكشف موتي
الحكي يقتل خواء الأشياء
والفراشات تحكي عن طفلة باعث ينابيعها
ثم احترقت
وحيدة"6
إن إحساس الشاعرة بالفراغ وعدم الفاعلية قوي جدا، ومن ثم فهي لا تقوى إلا على تضميد الجراح، والنتيجة المنطقية لهول هذا الإحساس هي محاورة خواء الأشياء ولا جدواها، والاستسلام للوحل المقابل الرمزي للدفن أي الموت، لأنه لا يستحق العشق سوى الموتى:
"وللموتى وحدهم مواويلي
وبهاء الشفق7 "
 وتعمق الشاعرة إحساسها بالموت في القصيدة الثانية من حيث الترتيب في هذا الديوان "كائنات مرتبة" حيث تضيء النص بعتبة شعرية تطرح من خلالها السؤال الوجودي المتعلق بالموت، وتخصص المقطع الأول لطرح شعور الذات بالغربة الوجودية، حيث تقول:
"بجماجمي أهيئ سفنا ثم أوزع سحابي
لأخرج ثانية مني،
وأدثر غربتي بباقي الجسد"8
إن الغربة تيمة حاضرة بكل ثقلها في التجربة الشعرية للزهرة المنصوري في أضمومتها "تراتيل"، إذ تكاد تكون اللحمة الأساسية في نسج خيوط أكثر من قصيدة، وهي حريصة فيها على تكثيف دلالات الغربة بشقيها: المادي حيث تتراءى في: (الجدارات والكائنات النحيلة، وفي الوجوه الواجمة...) والمعنوي ك (الصمت والإطراق والظلام) تقول في المقطع الثالث من هذه القصيدة:
" جدارات داكنة أحس غربتها،
الصمت العنيف
كائنات نحيلة – تتلف زحامها المساحه،
وجوه تحمل غربتها،
(هو الظلام من يخلق هذي الكائنات المرتبة، وأنا إلهتها "9
أما في المقطع الرابع من نفس القصيدة، فهو تجسيد صوري لهذه الغربة المهيمنة على أعماق الروح فهي بمثابة:
-  نورسة تائهة من رداء البحر.
و - عناكيب عجوزات لتنسج ما تبقى من خراب
و- نجوم جريحة تقرأ رثاءا لسماواتها.
وهذا ما يؤلب عليها الشعور باليته والرثاء على حالها من فرط التعب المستبد بها، وهو ما ترسم الشاعرة له لوحة داكنة السواد في قصيدة": "تراتيل" حيث يطغى ضمير المتكلم الذي يعاني من غربة المكان، و"الظامئ لأقداح الهواء وفرات المرافئ" إذ تقول في فقرة شعرية تحت عنوان: " هلوسة":
"وأنا غابات ريح، أنفض عني غباري
وأكشف شموسا تعد بقاياي
فأنزف دخانا"10
ومن أجل أن تستمر الشاعرة في تكثيف دلالات الغربة هذه التي استبدت بالذات، ها هي تتهيأ لفعل جديد، وتتأهب لهتك الحجب التي تقيدها، غير أنها لن تستطيع التحرر نهائيا من هذه الغربة الوجودية التي تدثر جسدها.
ولمغالبة وطأة الشعور بلهيب هذه الغربة، توظف الشاعرة تصور الصوفيين لرغبتهم في الاحتراق الداخلي لإماطة اللثام عن الظلام الذي يسود الكون.
"نهيم كما لو كنا نجوما تخفي هزائمها
أو طرقا تفتح فينا
نتقاطر بالسواد
بريح انكسرت رمادا
نتقاطر باحتراقنا الخفي..
ثم ينزل الليل من جسدنا غابات"11
كما تقول في مقطع من قصيدة أخرى:
" لو كنت فراشة
لدفنت الشمس داخلي،
ثم بطيئا احترقت"12.
2- الانشغال برغبات الجسد كبؤرة لاشتعال فتيل المعنى
ترتسم الصلة بين الجسد والوجود على أساس العلاقة بين المتناهي واللامتناهي، وهي علاقة تغدو مسألة ميتافيزيقية، ومن ثم فإن الجسد ليس مجرد وسيلة أو وعاءا للفكر أو مأوى للروح – كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة – وإنما هو غاية في حد ذاته، ولذلك نرى الشاعرة المنصوري حريصة على اعتبار الجسد بؤرة لانطلاق شرارة الأسئلة المؤرقة من قبيل:
    ما الذي يرغب فيه الجسد؟
    وما الذي يمكن للجسد أن يؤسسه في علاقته مع الغير؟
    وما الذي يمكن له أن يأمله من العالم؟
هناك عقدة شبقية تتجلى في الحضور المشترك للجسد والمعنى لدى الكائنات الناطقة ارتكازا على الاتحاد المقدس بين الكلمة والجسد كاتحاد مغتال ومتجدد على يد بعض الصوفيين الذين غذوا هذا الاتحاد.
وينهض النص الشعري في تجربة الزهرة المنصوري على الاحتفاء بلغة الجسد الذي تعتبره وعاءا يعبق بالمعاني الكبرى، والدلالات المحيرة . تقول الشاعر:
"جسدي مخبأ للرماد
أروقة حبلى بالقادمين
ويبكي النزيف في جبهتي.
...
من وجهي سحابة حالمة
أدنو...
لا ألقى غير حلم مهترئ
ونشيد العابرين حين يتقصون موتاهم
وفي جسوري كان العراف يغسل قناديله
ويخرج من جفوني نخلة مكشوفة"13
تبدو الشاعرة حريصة على رسم ملامح سلبية لجسدها الذي من كثرة اشتعاله بفتيل الأسئلة المؤرقة ما عاد سوى مخبئ للرماد بعدما سكنت ضجة الروح. ومن ثم فهي لا تقوى إلا على التوسل بالجنون عنوان قصيدتها الثالثة من حيث الترتيب في الديوان، هذه القصيدة التي تضيئها بفقرة شعرية تتمنى فيها لو تصير مجنونة لترتب فوضاها، حيث تقول فيها:
"السماء اختزلها في محارة أسرها تيبس نسغها في نتوءات نجيمات عطشى. استدعي مجانين غربتي، كل الخرائط الرثة، أرتب فوضاي بجنوني، وأروي حلمي بكل البحار"14. ثم تنتقل في المقطع الشعري الأول لرسم صورة لهذا الكون الذي أصبح يبدو لها ضيقا، ولهذا فهي تتمنى لو تنفتح الأرض، وتفنى في جسدها مراكب كي تبحر في الخرائط المنسية، وتروي أحلامها بكلمات تسقط من شرفات السماء:
"وفراشات صارت باقة فراغ حين صغر هذا الكون،
ولملمته رمادا لأحيي نواقيس صدئة، وأستعير حافة الخلق،
فتنفتح الأرض لتتلو حلمها، وتفنى في جسدي مراكب منسية"15
يشكل الجسد بؤرة لانطلاق البوح الشعري، ولذلك نجد الشاعرة كثيرة الاحتفاء به كقولها : " لك أن تخلق الآن جسدك، وكما اشتهيت.
أرش على الجسد حبري، وأفتح منافيه،
أرى مرايا تفيض بحمرة شمسهم العارية"16
إن الشاعرة حريصة على حضور الجسد في احتراقه الدائم علها تحظى بما يهدئ روعها، لكن دون جدوى، ومن ثم ينثال عليها السؤال الوجودي في القصيدة الثانية من ديوانها "تراتيل" والمتعلق بالموت، حيث نلمس ثقل الشعور بالغربة الوجودية حين تقول:
"بجماجمي أهيئ سفنا، ثم أوزع سحابي
لأخرج ثانية مني،
وأدثر غربتي بباقي الجسد"17
هكذا يغدو الجسد منطلق الشرارة الشعرية، ومنبع توقد المعاني، إنه في البداية والنهاية هو موضوع القصيدة وفحواها، ولذلك فالشاعرة كثيرة الاحتفاء بما يرمز له من كنه وجوهر، ومن ثم فهي تمنح لنفسها حرية الولوج أو الخروج من هذا الجسد حسب طبيعة الأسئلة التي تحاصره :
"جسدك الذي تخرج منه
لتدخله كما شئت
...
 لك أن تخلق الآن جسدك، وكما اشتهيت
أرش على الجسد حبري، وأفتح منافيه،
أرى مرايا تفيض بحمرة شمسهم العارية
زوارق ريح،
وما دفنته الأرض في الجفن.
أرى نجوما تذبل
وبقايا أسماء18"
إن المعجم اللغوي يحيل دائما على المرجع الأصل والنبع الصافي الذي هو هذا الجسد المشخص لملامح الذات المنفية داخله، والتي تتوق إلى إحداث تحولات تمس بنية الوجود وشكل الأرض والسماء.
3- التماهي والتوحد بمظاهر الطبيعة:
إن توحد الذات الشاعرة بمظاهر الطبيعة هو نوع من المراسلات الوجدانية التي تحاول الشاعرة من خلاله التخفيف من وطأة الإحساس بالفراغ الداخلي، والتحرر من ثقل الشعور بالمعاني السلبية، غير أن ارتدادها للحلول في العناصر الطبيعية لا يمنحها الحرية التامة لاختيار ما تزخر به هذه الطبيعة من مفاتن الخمائل والغدران، وما يطفح به غور الأنهار والبحار من رموز ودلالات، بقدر ما يقيد هذه الحرية ويؤجج مشاعر الشجن العميق، وهذا ما يدفعها لتنقاد عن طواعية إلى محاورة مظاهرها السلبية الموحية بالانطفاء والفتور، والظلام والذبول:
"وأنا غابات ريح ، أنفض عني غباري
واكشف شموسا تعد بقاياي
فانزف دخانا.
ثم يوزع جسدي حيث يفنى،
أسرارا للعائدين
ويهيئ ليلا لبياضي
داخلي بحر،
وبدايات
وجرح الأسماء
وهذا الفراغ الينزف برجفاتي،
يعاند البوح
فأكتم في الحلم بقاياي19"
وتقول في نفس القصيدة:
"وضلوعي نوافذ تنأى.. لتنسج سماءا لإغفاءاتي
فأتفسخ أجنحة منمقة بالسفر
زواياي زنابق"20
تبدو الذات جريحة تائهة لا تجد ضالتها إلا في مواجيعها وهي تجابه التوحد بالظلام والسواد وكل المعاني السلبية:
"لو أفتق من عينيك ضروب الضوء التائه
لو أرسم لحلمي كونا في شرفات النخيل
لو أفتق عري البحر
والشجر الصامت في حضن المطر
...
 لو أتوج الشمس بعريها،
بمحارات أعارتني أكياسها مخابئ،
وليلا مورقا بالشجن
فأنحني لجنون غيمي
لوريقات خجلى تهامس الزوايا المهجورة،
فأنأى بغربتي
أبيح حلمي لرماد الغجر،
أعانق سواد الموتى،
أدخل كواليسهم،
وأنبت كما اللبلاب في هشاشة الأجساد"21
بهذه الطريقة تتوسل الشاعرة لمظاهر الطبيعة كي تمنحها إقامة أبدية في رحمها، متمنية لو تتوحد بالأضواء التائهة، وتعانق شرفات النخيل، وتذوب في شآبيب المطر وتسكن في أكياس المحارات.
والشاعرة في كل ذلك حريصة على توظيف الانزياح اللغوي، كوسيلة تعبيرية لخلق فجوات وتوترات ما بين الدوال والمدلولات، كقولها في قصيدة "تراتيل":
"أنا غابات ريح، داخلي بحر، شمعتي المكان، أنا ملآى بفراشات، ضلوعي نوافذ، زواياي زنابق".
إن هذا الانزياح هو ما يمنحها القدرة على الاختراق والتوحد، كما يساعد الذات الشاعرة على الاسترسال في البوح الشعري:
"كطائر غريب أخرج من جسدي
أنتشي غرابة المكان
أرسم بعظامهم بحرا
...
 أرمم شحنات الزمن،
ثم أطرز الجسد منفذا للموتى
ألملم بياض الحلم
وأخرجه من أعالي أبراجي .. كما أتاني
...
أكشف نجوما لشظاياي
ومرايا فيها أكتم شرخي
أشهد اختراقك
وفيك أسحسح غيم رمادي"22
إن هذه القدرة على تكثيف مدلولات الملفوظات عبر تقنية الانزياح اللغوي، غايتها صهر الذات الشاعرة في مظاهر الكون الطبيعية قصد الإبلاغ بما تئن تحته من عذاب روحي، وانغماس كلي في خوض الأسئلة الكبرى التي تبدو أن الذات منشغلة بها إلى حد كبير.
هكذا تبدو لك الشاعرة "الزهرة المنصوري" في ديوانها "تراتيل" إنسانة عاشقة لما تبقى من حلم في الذاكرة ونسغ المسافات، متيمة بالانسياب في حقول المزارع والأشجار، لتتلاشى كسحابة هدهدت الشمس إزارها، ومتوحدة بأعماق البحار، تستصيخ السمع لشذى الموجات التي دغدغتها الشواطئ، ثم تنفض حلمها كنورسة تائهة من رداء البحر. ملبية نداء فضاءات الخزامى والتراتيل المدفونة في شجن السنين، وحاملة لحنين الزمن الذي وزعته الأعماق في ومض المحار بغية التوحد بالينابيع الرقراقة، لتفنى أخيرا في الشجر الصامت في حضن المطر، والتواق للنجوم في خصر السماء.  
Berghout عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الهوامش:
1.    الزهرة المنصوري : "تراتيل" دار توبقال للنشر . الدار البيضاء . ط 1 : 2000
2.    الزهرة المنصوري : من قصدية : "الوصية" ص 37
3.    الزهرة المنصوري : نفسه ص 17
4.    الزهرة المنصوري : نفسه ص 17-18
5.    الزهرة المنصوري : من قصيدة : " طفلة باعت ينابيعها ، بتصرف، ص: 5-6
6.    الزهرة المنصوري : نفسه ص 6-7
7.    الزهرة المنصوري : نفسه ص 7
8.    الزهرة المنصوري : كائنات مرتبة " ص 9
9.    الزهرة المنصوري :نفسه ص 10
10.    الزهرة المنصوري : تراتيل " ص 9"
11.    الزهرة المنصوري : جنون " ص 15"
12.    الزهرة المنصوري : "كائنات مرتبة " ص 10
13.    الزهرة المنصوري : "طفلة باعت ينابيعها" ص 5-6
14.    الزهرة المنصوري : "جنون " ص 15
15.    الزهرة المنصوري :كائنات مرتبة " ص 10
16.    الزهرة المنصوري: نفسه ص 15
17.    الزهرة المنصوري :" كائنات مرتبة" ص 9
18.    الزهرة المنصوري : جنون ص 14-15
19.    الزهرة المنصوري : من قصيدة "تراتيل" ص 22
20.    الزهرة المنصوري : نفسه ص 24
21.    الزهرة المنصوري :من قصيدة : " مواكب القيم " ص 35-36
22.    الزهرة المنصوري : تراتيل " ص 21-22-23-24- بتصرف.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟