البعد الفني في شعر عبد المجيد فرغلي قصيدة (أرواح تعود) أنموذجا ـ د. السعيد أخي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse09063أرواح تـــــــــــــعود
هيا نعود الى الوجــــــــــــو       د بعالم الأرض الجديـــــــــــــــــد
فلعلهــــا صــــــــفت النـفــو          س وعـــاد جوهرهــا الفريــــــــــد
لـــم يبــق مـن دنس علــيـــ       هـا وهـــى تمرح فــي الخلـــــــــود
هيـــا لعـــــالمنا القديــــــــــ           م نعـــــود نبــــــــعث مـا نــريــــد
هيـــــــــــــا لنوقـظ أهلـــــه           من الغـــفــوة الأمـــس البعـــــــيــــد
ونزيل "كــل خطيـــئــــــة"        ســـــادت علــى هــذا الوجــــــــــود
ونقــــــــول يا أمــــم الورى         هبـــــي أفيــــــقي من رقـــــــــود
بل حطــمي قـــيــد الضــلا        ل ومــزقـي ثــــوب الجــــــمــــود
وتبــوئـــي عــرش الهـــدى         وتـــطــــلعي نــحـو الصــــعـــــود
أمــــم الوجـــــــــود تآزري          لا تـطـعمي حــربـــا وقـــــــــــود
إن الســــــلام "لنعــــمـــة"        كــــبـــرى فــهل خفقـــت بنــــــود
"والغـــــزو" ولّى عـــــهده       يا عالـــــــــم الأرض الجــــــحود
عيـشوا جميـعــا فـى إخــــا     ء واتركـــــــوا هـــــذا الصـــــــدود
وتعـــاونوا بالبـــــر والتــــ         ـــــقوى : فمــــا ســـــاد الحـقــــود
يا كــل روح فــي الوجــــــــــــــود تحــــــــرري ودعــــــــــي القــــــــــــيــــــــــــــــود
فلقــــــــــد كــــــــــــــــــفى ما كــــــــــــــان منك اذ: وعـــــــــــودي من جـــــــــــــــديد

        إن مقاربة النص الإبداعي  عند عبد  المجيد فرغلي من  حيث البعد  الفني تستدعي أولا: الرؤية الشمولية للإحاطة بشعر عبد المجيد فرغلي، هذا الشاعر السامق المتمكن من أدواته والبارع في تصريف اللغة وحبكها ونظم ألفاظها ببراعة ومراس.


      ثانيا : التتبع الدقيق للحظات الجمال من حيث المبنى والمعنى في شعر هذا المبدع ، وتأسيسا على ذلك كنت في حيرة من أمري وأنا استمتع بقراءة قصائد هذا الشاعر الفحل ضمن ديوان :( "أصداء وأضواء "، من تحقيق عماد عبد المجيد فرغلي ) فلم أجد ما يفاضل بين قصيدة وأخرى من حيث الجودة وحسن السبك وقوة الكلمة . لكن الرأي استقر على أن تكون قصيدة - أرواح تعود - منطلقا للبحث عن البعد الفني وعن المتعة الباذخة . وقد شدّني لهذه القصيدة بعدُ المرمى وقوة المطلب واتساع أفق الرؤية و الرغبة في التوحد لجمع ما تشتت وتشردم من قوة الإنسان العربي .

      إنها الأرواح التي تعود إلى أجسادها ، إنه الدفء الذي يسري بين الأشقاء العرب لرسم معالم مستقبل الذي يريده الشاعر مسشجورا بالهمة والعزم  . وما أحوجنا اليوم أن نعيد قراءة هذه القصيدة مرات عديدة لنستشف منها الإشارات الصريحة وقد دبّ في أوصال الأمة العربية التراخي والفتور أمام قوة الغرب المارد .

  إن نظرة لعنوان القصيدة - أرواح تعود - نجد أنفسنا أمام عتبة قوية تتألف من كلمتين دالّتين على أفق رحبٍ من المعاني، فكلمة أرواح جمع روح وتحيل إلى البعد الديني :(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  )[1] فالروح والنفس سيان فمن خلالهما يحيا الإنسان ويستمد حياته ، والعلاقة بين لفظي العنوان ، هي مبتدأ أخبر عنه بجملة فعلية ، ودلالة ذلك أن انطباعا أوليا يوحي بحركية القصيدة ودينامية أحداثها حيث حضر الفعل المضارع في عتبة النص مما جعل المتن الشعري يعرف حركية قوية تترجم قوة العاطفة وصدقها عند الشاعر .

        ويحيل هذا التعبير من خلال العنوان على عودة الرواح إلى جسد الإنسان العربي ومن خلاله  إلى جسد الأمة العربية ومنه نستشف كذلك أن فعل العودة يحيل الى أن الروح رحلت بعدما كانت في الزمن الماضي  تشد عضد العرب وتسم حياتهم بالتفوق في ميادين العلم والمعرفة  .

     لقد أبدع الشاعر هذه القصيدة عام 1961 م ، والزمن الفاصل بين الحاضر وزمن نظم القصيدة هو خمسة وخمسون عاما ، والملاحظ أن القصيدة تتجدد باستمرار في الزمن لدواعي الحضور القائمة ، أي أن البواعث ما زالت قائمة في نسيج الإنسان العربي ودواخله، وفي البحث عن تراث ثري وعن استحضار قوة علم وفلسفة الأجداد . وبناء على ذلك نؤكد على الرؤية المتجددة في شعر عبد المجيد فرغلي باعتبار الواقع الذي يوحي للشاعر بمعالجة القضايا ذات الأبعاد التي تهم الوطن العربي في شتى المجالات.

   إن قارئ - أرواح تعود - يخرج بانطباع قوي مفاده السؤال الآتي : هل توقف الزمن لتظل القصيدة شامخة تحكي واقع الأمة العربية وتنادي بعودة الروح اليها ؟ .

     إن الشاعر يهتف بصوت عال ومستمر في الزمن، معبرا عن حالة نفسية موسومة بالصدق الوجداني والفني ، وعن غيرة حقيقية ورؤية شمولية لم تقف عند حدود بلد الشاعر مصر، الأرض المعطاء و المباركة ، بل تجاوز حدودها ليعانق إبداعه الوطن العربي وهذا ما تجلى في قصائده كلها داخل الديوان، ولا أتردد لأقول إن عبد المجيد فرغلي شاعر فذ ومقتدر وشاعر الأمة العربية بامتياز.

     القصيدة موضوع المقاربة  جاءت في ستة عشر بيتا تضمنت إحساسا راقيا زاوج فيه الشاعر بين الواقع العيني والسؤال الفلسفي الحالم بجمع ما تفرق من العزائم والهمم ، إن اهدافا نبيلة تساور مخيلة الشاعر لتتفتق اللحظة الإبداعية ، فيرحل الشاعر محللا وباحثا عن السبب والعلة التي جعلت جسم  الأمة العربية متباعدا ومتفككا ، وغير قادر على استجماع قوّاه لمواجهة التحديّات ، لقد وجد شاعرنا الفذ من خلال سبك اللغة بغيته ، وفي الجمال والفن ديدنه فأرسل حسرته ودعوته لعودة الروح الى العرب عبر النداءات المتواصلة والأوامر المتتابعة والهدف هو إيصال المعنى الى أبعد مدى والحث عليه وتأكيده ، واستنهاض الهمم للبذل والفعل والابتعاد عن الانزواء والتخفي وراء الخيبات :

هيـــا لعـــــالمنا القديــــــــــ                              م نعـــــود نبــــــــعث مـا نــريــــد
هيـــــــــــــا لنوقـظ أهلـــــه                            من الغـــفــوة الأمـــس البعـــــــيــــد.
******
بل حطــمي قـــيــد الضــلا                              ل ومــزقـي ثــــوب الجــــــمــــود
وتبــوئـــي عــرش الهـــدى                             وتـــطــــلعي نــحـو الصــــعـــــود

     أمام هذا الثراء الذي ترشح به القصيدة من أبعاد فنية يعن لنا الجانب الإيقاعي الذي يرسم لأبيات القصيدة منحاها الموسيقي وقد أمكن لنا تقسيمه إلى إيقاع خارجي و آخر داخلي ، أما الخارجي فأوله البحر الشعري ، فالقصيدة تنتمي الى مجزوء الكامل وتفغيلاته هي :
مُتَفاعِلُن متفاعلن *** متفاعلن متفاعلن ،

وعطفا على ذلك نقول : إن البحر الشعري هو الميزان الضابط الذي يشدّ اللغة على مستوى الحروف والألفاظ في نسق منطقي ،وفي هذا الباب قال حازم القرطاجني :" فالعروض الطويل تجد فيه أبدًا بهاءً وقوة، وتجد للبسيط بساطة وطلاوة، وتجد للكامل جزالة وحُسنَ اطِّراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب بساطة وسهولة، وللمديد رِقة ولِينًا مع رشاقة، وللرَّمَل لِينًا وسهولة، ولِما في المديد والرمل من اللين، كان أليقَ بالرثاء، وما جرى مجراه منهما بغير ذلك من أغراض الشعر"[2] والشاعر اختار بحر الكامل ميزانا لقصيدته في أفق رسم نغمات تشد المتلقي إلى معاني الشعر كما تزيد التأليف اللغوي بهاء وجمالا . وبالإضافة إلى ما يتضمنه بحر الكامل من تنغيم ومتعة ولذة  فهو يتميز بإيقاعه الواضح الذي اسعف الشاعر ليضمنه مراميه ومعانيه المفعمة بالقوة الوجدانية والحسرة على حال الإنسان العربي " إن كل بحر في اوزان الشعر يُعد مجموعة من العلاقات الزمنية الثابتة، التي تجمع بين أصوات مختلفة في مجموعات متباينة ، ونتيجة لذلك فالبحر عبارة عن روابط زمنية متصلة في حركة الاصوات "[3] ، ولعل المتتبع لشعر عبد المجيد فرغلي يدرك دون كبير عناء أن القصيدة عنده وصلت الى مستويات فنية وإبداعية شدت إليها القراء داخل الوطن العربي ، حيث وجدوا فيها سمتا للقصيدة العربية في القوة والحضور الفني غير مجترة أو مقلدة بل مجدّدة، وراسمة أفقا رحبا للإبداع العربي ، وفي كل ذلك ظلت محافظة على  مقومات الشعر الأصيل من حيث المقوّمات البنائية والنظمية في تصور جديد وفق ما تقتضيه الظرفية التي عاشها شاعرنا وانصهر في لجتها ، ومن خلالها استمد قوته الشعرية .

         لم يكن عبد المجيد فرغلي أسير لحظة واحدة على مستوى الايقاع والتنغيم في إبداعاته الشعرية بل نوع موسيقاه وإيقاعاته وفق الوقفات العاطفية والوجدانية التي عاشها متيّما وكلِفا بقضايا أمته العربية، وهكذا اقتضى الحال أن يوزع قصائده مستجيبا لدواخله ولواعجه، لقد جال في بحور الخليل حتى تحولت قصائده الى أناشيد و تراتيل عذبة تستسيغها النفوس لها وتطرب لما فيها من جمال إيقاعي متفرد يليق بمقامات في حضرة الغرض الذي اختاره موضوعا لقريضه.

    وإلى جانب البحور الشعرية نجد حضور حرف الدال باعتباره رويا مرسوما في القصيدة سجل قوة في الجرس الموسيقي ، ومن صفاته هذا الحرف الشدّة عند نطقه، يمتنع الصوت أن يجري فيه لكمال قوة الاعتماد على مخرج الحرف[4] ، وهو بالإضافة إلى ذلك تستعذبه أذن المتلقي لما يتضمنه من وقوة وترنيم ، فهو حرف جهوري يعبر عن قوّة وشدة تحسر الشاعر على أزمة الإنسان العربي الذي لم يستفد كثيرا من تاريخه الحافل بالإنجازات العلمية والأدبية.

        ونحن في حضرة القصيدة ألفينا التكرار يسجل حضورا لافتا أغنى جمالية النص حيث نجد حروف المد التي تشغل مساحة كبيرة ، والمد هو " نفس يمتد بعد مضي نفس الحرف ، لذا فإنه يعد بمنزلة حرف متحرك"[5]  وفي القصيدة نجد أن المد بالواو ورد  اثنتين وعشرين مرة ، وبالألف خمسا وعشرين مرة وبالياء تسع مرات والملاحظ أن حرف المد سجل حضورا قويا و يبين وهذا مدى انفعال الشاعر وامتداد الصوت الى أبعد قطر في الوطن العربي ، فالشاعر يريد لصوته أن يُسمع وأن يصل لكل ذي عقل لبيب، حالم بالتوحد وعازم على نبذ الخلاف مهما كان منشؤه :

بل حطــمي قـــيــد الضــلا                              ل ومــزقـي ثــــوب الجــــــمــــود
وتبــوئـــي عــرش الهـــدى                             وتـــطــــلعي نــحـو الصــــعـــــود
أمــــم الوجـــــــــود تآزري                             لا تـطمــعي حــربـــا وقـــــــــــود.

      بالإضافة إلى تكرار حروف المدّ ألفينا تكرارا لحرف الدال ، الذي تردّد ثلاثا وثلاثين مرة ، والواو ثمانا وثلاثين مرة، واللام ستا وأربعين مرة، والعين إحدى وعشرين مرة، والهاء خمس عشرة مرة ، والملاحظ أن هذا التراكم الكمي يضفي على القصيدة جمالا فنيا يرجع بالأساس الى الترنيم الناشئ عن التفاعل العاطفي والوجداني لدى الشاعر.

     ويتنامى البعد الفني الموسيقي في تكرار الكلمات أو ما يسمى الجناس التام الذي تحقق في لفظ ( تعود- الوجود- الجديد) أو الجناس غير التام كما في (الوجود – الخلود) و( رقود – وقود) وتُعد استراتيجية الجناس في هذه القصيدة بعدا نغميًا وموسيقيا يثير النفس ويحملها على الارتياح ، كما يؤدِّى إلى حركة ذهنية تثير الانتباه عن طريق الاختلاف في المعنى لإنشاء التنوع ، فالشاعر ها هنا يحاول بعث رسائل واضحة لاستعادة ماضٍ جميل مفعم بالروح والقوة ، وما زاد الجناس، جمالاً هو أنه نابع من طبيعة المعاني التي يعبر عنها عبد المجيد فرغلي ، بعيدا عن التكلَّفً والتوعّر.

      وإلى جانب ذلك نجد حضور الطباق في ثنايا القصيدة حيث " إنَّ الطباق لا يكون فقط بوصفه محسن بديعي معنوي ; لا عمل له سوى تقوية المعنى , وإنما أيضًا من منطلق ما يُحدثه من موسيقى خفية ; وحركة نفسية وفكرية في قارئ الشعر أو سامعه "[6] 
ومن أمثلته ( القديم/الجديد) و(السلام / الحرب) والطباق في القصيدة يؤدي دورا يتجلى في إبراز المعنى وتقويته وإيضاحه و إثارة الانتباه عن طريق ذكر الشيء وضده .

      وإلى جانب الإيقاع الداخلي نجد بنية الأفعال التي أعطت للقصيدة قوة حركية تتلون من خلال الأحداث في حركيتها وسرعتها، وقد شكلت الأفعال عند الشاعر بعدا دلاليا قويا حيث نجد ثلاثة عشر فعلا بصيغة الأمر وأحد عشر فعلا بصيغة المضارع وسبعة أفعال بصيغة الماضي ، إن كثافة الأفعال  بصيغة الأمر تدل على الرغبة في التشوف الى المستقبل الذي يطمح إليه الشاعر من خلال رغباته الجامحة، وهكذا وجدنا ( هبي/ زقي/ تبوئي/ تطلّعي/ تآزري/ عيشوا/ اتركوا/ تعاونوا / تحرري/دعي / عودي..)، تؤشر هذه الأفعال على المستقبل الذي يريده الشاعر للإنسان العربي من تطلع الى بناء المستقبل ونبذ العنف والدعوة الى السلام والإخاء بين الشعوب ، وإلى جانب أفعال الأمر، تنثال الأفعال المضارعة ذات القدرة على التواصل والاستمرار الزمني مما يوحي بأن أحداث النص ذات بعد مركزي في الحاضر، فمنذ العتبة النصية الأولى ألفينا الشاعر يستعمل صيغ المضارع واستمر هذا الحضور حتى البيت السادس ، ويؤشر الزمن الحاضر، المقترن بضمير التكلم بصيغة الجمع ( نعود/ نببعث /نوقظ/ نزيل/ نقول) على حضور الشاعر المتكلم المرسل داخل السياق التواصلي لعملية التلفظ الشعري ، و يعطي انطباعا بالصدق الواقعي والفني ، والرغبة التاقبة المصحوبة بالوثوق أن يعود الإنسان العربي يوما حازما ومتسلحا بالقيم الايجابية للماضي الجميل وبعث ما فيه من ضياء وأمل، إنه خطاب ممزوج بالحسْرة على حاضر أهله في سبات عميق .

     وتنساب جمالية الخصائص الفنية باستعمال الشاعر آلية التناص ، حيث اقتبس الشاعر من القرآن الكريم  الآية: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[7] ، ومعلوم أن في  التناص قوة المعنى والتأكيد عليه ، حيث تتداخل النصوص لتتوالد من خلالها الدلالات لإعطاء الخطاب الشعري قيمة خاصة يغنيها الجمال، وتتسم بالعمق والمصداقية والتأثير.

       وهنا نستشف بأن مرجعية الشاعر مشبعة بقيم الدين الإسلامي، وهذا التوجه ليس غريبا على شاعرنا الذي أبدع في كثير من المناسبات الدينية خدمة للدين الإسلامي ومن خلاله للعروبة التي تأسف كثيرا على نكباتها وأزماتها السياسية والاجتماعية،

            أما الحضور الباهت للأفعال الماضية في النص فمرده إلى انجذابها  في دلالتها نحو الحاضر فهذا يؤكد أن هموم الحاضر هي التي جعلت زمنية الفعل المضارع والأمر يهيمنان في معظم أبيات القصيدة ،على أن هذه الأفعال تعكس من خلال زمنها حرقة الشاعر على ما يصيب الانسان العربي ومن خلاله  الأمة العربية من هنات ، وكم وجدناه يأمر بأن تستيقظ الأمة العربية من غفوتها وتنفض عنها غبار التأخر سعيا لمجاراة الدول المتقدمة في ميادين شتى . وتحقيق ذلك لن يكون إلا بالتعاون والتآزر والحوار بين الشعوب ، وحنين الشاعر للماضي التليد له ما يبرره  فالتاريخ يحكي أمجاد الأمة العربية وقدرتها على الإبداع العلمي والتفوق في كل صنوف المعرفة.

         إن دراسة البعد أو المنحى الجمالي لا تكتمل عمارته إلا بالجانب التصويري والإمتاعي في عمل الشعري ، ولا ننكر أن النقد أعطى لمفهوم الصورة الشعرية في كل عصور النقد الأدبي ، أهمية بالغة مع الاهتمام بالاتجاهات المتفرقة في تحديد مفهومها فهناك من ردّها إلى الجانب الخيالي كجابر عصفور فكانت:  "طريقة خاصة من طرق التعبير أو وجهة خاصة من اوجه الدلالة  تنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني، من خصوصية وتأثير، ولكن أيًا كانت هذه الخصوصية أو ذاك التأثير، فإنّ الصورة لن تغيّر من طبيعة المعنى في ذاته، إّنها لا تغيّر إلا من طريقة عرضه وكيفية تقديمه وتأثيره في المتلقي"[8] ومن النقاد من استحضر الجانب العقلاني في تحديد الصورة الشعرية كما عبر عند ذلك أحمد دهمان "إن الصورة الشعرية هي تركيبة عقلية وعاطفية معقدة"[9] وهناك من ركز على جانب الشعوري والوجداني كما أومأ لذلك عز الدين اسماعيل حيث" الصورة دائما غير واقغية  وإن كانت منتزعة من الواقع لان الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها الى عالم الوجدان أكثر من انتمائها الى   عالم الواقع ،"[10] لكن نجد ناقدا خرج  عن  هذا الفهم وهو عبد القادر الرباعي ليؤكد أن :" الصورة لا تعني عندي ذلك التركيب المفرد الذي يمثله التشبيه أو الكناية أو الاستعارة فقط ولكنها تعني أيضا ذلك البناء الواسع الذي تتحرك فيه مجموعة من الصور المفردة بعلاقاتها المتعددة حتى تصيره  متشابك الحلقات والأجزاء  بخيوط دقيقة "[11]

    وفي دراستنا ل- أرواح تعود - لشيخ الشعراء شدّ انتباهنا قلة التصويرالفني من جانبة الكنائي والاستعاري والتشبيهي اللهم حضور الاستعارة في الأبيات التالية :

فلعلهــــا صــــــــفت النــــــو       **     س وعـــاد جوهرهــا الفريـــــــد
 لـــم يبــق مـن دنس علــيـــ          **      هـا وهـــى تمرح فــي الخلـــــــــود
بل حطــمي قـــيــد الضــلا        **    ل ومــزقـي ثــــوب الجــــــمــــود
أمــــم الوجـــــــــود تآزري        **      لا تـطمــعي حــربـــا وقـــــــــــود
            ان الســــــلام "لنعــــمـــة"
     يا كــل روح فــي الوجــــــــــــــود تحــــــــرري ودعــــــــــي القــــــــــــيــــــــــــــــود

       إن الحضور الاستعاري في المتن الشعري يؤكد في هذه القصيدة على التصوير الجمالي حيث انتقال اللغة من حيث الدلالة من الجانب المعنوي إلى الجانب الحسيي ، ويمكن القول إن فاعلية الاستعارة تتحقق في نقل الجانب الفني للأفكار والمفاهيم المعنوية من عالمها الموسوم بالتجريد إلى عالم المحسوسات ،حتى يتسنى لها الاقتراب من ذهن المتلقي يقول عبد القاهر الجرجاني "إن شئت أرتك المعانيَ اللطيفةَ التي هي من خبايا العقل، كأنها قد جُسِّمت حتى رأتها العيون، وإن شئتَ لطَّفتِ الأوصاف الجسمانية حتى تعود رُوحانية لا تنالها إلاّ الظنون،"[12] فالأفعال التي أدت الدور الاستعاري في نقل الجانب المعنوي الى الجانب المادي نجد (حطمي قيد الضلال)  (مزقي ثوب الجمود) (تحرر ودعي القيود) (لا تطعمي حربا وقود) نحن أمام جوانب تصويرية مقترنة بأفعال الأمر الداعية للحث على الفعل بالإضافة إلى الفعل المضارع الذي يرسم بعدا مستقبليا ممزوجا بطموح الشاعر المطبوع بالتفاؤل ، إن الشاعر يصدح طالبا من الأمة العربية أن تحطم قيد الضلال، فقد جعل للضلال قيدا وجب كسره لتنطلق الأمة العربية كسابق عهدها، زمن كانت مترفلة في ثوب العزة والكرامة ، وأنْ تمزق ثوب الجمود ، وحضور فعل مزّق بمعنى استعاري، والمراد به هو الخروج من دائرة التأخر والتراخي التي سيطرت على العالم العربي الإسلامي ردحا من الزمن، ويتجلى ذلك في الضعف العلمي والتأخر الاقتصادي زد على ذلك ما نراه من توتّر في العلاقات بين بعض الدول العربية مما عطل كل الابعاد التنموية ومد جسور التواصل، من خلال ما تقدم نستشف أن التصوير الفني الرائع من داخل الحسرة على واقع يريد له الشاعر أن يتحول  ويخرج من قوقعته . والشيء نفسه يتبدى من خلال التشبيه البليغ الذي اقترن فيه السلام بالنعمة أي برَغد العيش وطيبه ، والسلام مطلب من مطالب الحياة بدونه وفي غيابه يعيش الإنسان حياة ضنكا ، لهذا صور الشاعر السلام كالنعمة لأننا في أمس الحاجة إليه .
         إن قصيدة - أرواح تعود - ، تمثل لحظة شعرية راقية داخل المسار الإبداعي لعبد المجيد فرغلي ، الشاعر الذي أجاد في مناحي شعرية كثيرة وأبان عن التفوق في رسم معالم الجمال والفن من خلال الحبك والنظم وتآلف الكلم ، ولعل ما يمكن استنتاجه هو اختيار الألفاظ بعناية كبيرة للدلالة على الحزم في أفق خدمة الموضوع ، فإذا كان هوس الشاعر وديدنه الدعوة الى عودة الروح إلى جسد الإنسان العربي بشكل خاص والأمة العربية ككل فإن الجانب التصويري قد أدى وظيفته بامتياز ووصلت صرخاته الممزوجة بالحسرة الى كل العرب في كل الأوطان.

1 : سورة الاسراء الاية 85
[2] : منهاج البلغاء؛ حازم القرطاجني، ص 265 - 269؛ تحقيق محمد الحبيب الخوجة، تونس 1966م.
 [3]: النظرية البنائية في النقد الادبي ، صلاح فضل ط 3 دار الافاق الجديدة بيروت 1985 ص 71
[4] : انظر متن الجوزية ، ابن الجوزي دار الامام مالك الجزائر ط 1 ص 28 ، 2003
[5] : سيمياء الشعر القديم ، سعد بوفلاقة ، اتحاد الكتاب الجزائريين ط 1 ، ص 39 ، 2004
[6]  : موسيقى الشعر العربي ، حسني عبد الجليل ص 15-16.ج 1 الهيئة المصرية العامة 1989
[7] : سورة المائدة الآية 2
[8]  :الصورة الفنية ، جابر عصفور ص 323 ط 3 بيروت دار التنوير للطباعة والنشر 1983
[9] : الصورة البلاغية عند عبد القاهر، دهمان، أحمد دمشق، دار طلاس، ط 11986 ص : 367
[10]  : الشعر العربي المعاصر، عز الدين اسماعيل ، ص 127 دار الفكر العربي القاهرة ، ط3 1978
[11] : الصورة الفنية في النقد الشعري ، عبد القادر الرباعي ص ،  10 دار العلوم للطباعة الرياض 1984 ط 1
[12] : اسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني ، دار المعارف بيروت ص 33 ،1983