المشهد الشعري وسيمياء اللغة في نصوص الشاعر العراقي سعد عودة ـ علاء حمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse05022أنهضُ من مكاني كي ألتقط للذهنية صورة جمالية تغذي ما أكتب اليه وعليه ، هكذا متراس هويتي الذهنية وأنا أشرب الشاي مع الشاعر العراقي سعد عودة ، فأنا الواقف وهو المسند للحروف التي يبثها من خلال قصيدة ، هنا الباث لايتلون في الرمال ، ولكي اقرأ مشهده الشعري ، عليّ أن انزل الى عبقريته التي يعتمدها في فنّ النظم ...الجمالية ليست حكرا على مكان ما ، وهي تنبع من مخيلة ضاحكة ، ضاحكة لان الحزن لايسترجع الذهنية التي ستنطق مابين الشطور ...

فتكمن جمالية الصورة في أنها تظهر الشيء من وجهة نظر خاصة وبأكثر الطرق تميزا وأيضا التصوير من جهة غير مألوفة للمتلقي إضافة إلى أن الأشياء غير الهامة تخفى كلها أو جزء منها ومن ثم تأكيد الأشياء الهامة، وهذا ما يسمى بزاوية التصوير فهذا التحديد نفسه يتيح الفرصة الفنية لجعل الحدث الخاص الجاري تصويره يؤدي إلى فكرة معينة باعتبارها وصفا سيكولوجيا للطريقة التي صور بها المنظر .. إن اختيار الزاوية تجعل الاخر ينتهي إلى رؤية الشيء المألوف وكأنه شيء غير مألوف، فإذا أحسن اختيار الزاوية فانه سيزيد اهتمام الاخر ، هذه كاميرا التصوير التي يعتمدها المصوّر بالتقاط صوره الجميلة .
أما الصور الشعرية الملتقطة فهي تصبّ أيضا من زوايا عديدة كي تنزل بمفردات شعرية تبقى معلّقة في المخيلة دون سقوطها ..

أنا الآن أمام الشاعر سعد عودة ومابين الحضور والغياب من خلال مشهده السيميائي في عملية رسم العلامات كي يدخلنا ضمن نطاق السيموطيقيا ..

اقرأ بقصيدته الاولى :
لا تترك الفوضى تنجبُ أبناءً
على شكلِ مسدساتٍ
بعد مخاضٍ غبي
او تدعَ الملائكةَ يقودونكَ بسهولةٍ
الى الجحيم
..........................
من قصيدة مقهى ....

لكلّ مدخل لغوي- أسلوبي ، أداة طيعة في يد ذواقة يستطيع تحسّس مواطن الجمال، لأن النص الأدبي ليس مجرّد وسيلة للتواصل- كما هو الشأن بالنسبة للغة- أي أنه ليس مجموعة من الجمل المتعاقبة يحتاج المحللّ لفهمها إلى تحليل العلاقات المنطقية والسياقية والتيّمية (موضوعية ومضمونية) ذلك لأن النص يتميّز بخاصية التلاحم والبناء والانغلاق على ذاته كبنية دالة تتحوّل داخلياً. وبما أنّ معظم النصوص تنفتح على حالاتها الذاتية وتحضر أمامنا من خلال الباث _ الناطق _ ومن خلال الآخر _ الغائب _ لذلك تتكوّن لدينا نصوصا تحمل من الاسلوبية الخاصى لدى مؤلفيها ، وخصوصا اذا كان ذات تجربة شعرية وما يلوذ به من تأثيرات قراءية وتأليفات جمّة ...

الشاعر سعد عودة يقودني مابين الذات المفردة وتوحدها مع الذات الجماعية ، ليعكس الينا واقعا اجتماعيا هائجا ، متجاوزا تصورات الذات لاجل الاخر ، وهو انعكاس لمراة الواقع الخارجي ومحاولة تشكيله ، ضمن مايتفق مع معطيات الذات الجماعية .
الفوضى لدى الشاعر هي كلّ مايحيط به من تفجيرات على يد إرهابيين منظمين ، وكذلك نشوء المسدّس الذي لايعني شيئا عند الحروب ولكن يعني أشياء كثيرة عند الهدوء في البلد ، والشاعر هنا يرفض الاحكام الفطرية التي تنتاب الكثيرين ، لذلك يتعلّق بعنصر الدهشة لمجاراة النصّ ، وعنصر الدهشة في القصيدة يحتاج الى لغة مجازية عميقة ، بالاضافة الى
الشاعرية الذهنية التي يتحلّى بها الشاعر لنقرأ :
اشربْ الشاي مرا
لوقتٍ على شكلِ لعنة
حتى احجار الدومينو السافلة
التي تغمزُكَ بعينِ الرغبة
امنحها ساعةً اخرى ترتدي فيها
كل ارقام(الثوّل)
....................
نفس القصيدة ..

نلاحظ المقاربات الحسيّة التي تنزل على الشاعر من خلال مفردات متداولة في الشارع العراقي ، واستخدام هذه المفردات في الشعرية يعتبر قوّة الادراك الحسّي لدى الشاعر وهو ابن العراق جلّ وحلّ بين اناسه الطيبين ...

وهناك بعض المقاربات التي تتخذ من العنوان بوابة للولوج إلى عالم النّص. قد يكون هذا صحيحاً بالنسبة للعناوين التي تعتبر تلخيصاً لمضمون النص الأدبي أو مطابقاً لنوعه ، وتبقى العنونة هي البوابة المحرضة للنصّ الشعري من خلال تلخيص ذلك ، والدخول الى الجمل الشعرية بشكل أمين ... وتبقى اللغة الشعرية وماتحملها من ألفاظ هي الدليل القاطع حو الانتماء الى اللفظة الشعرية .. ولدينا طريقان نحو اللفظة والانتماء اليها ، هناك اللغة الفكرية وهي حال تفكير الشاعر في سلته الذهنية من خزين وما حملته الذاكرة ، وهناك اللغة اللسانية وهي حالة الخطاب وتسييس المفردة للاخر .. ثم إن الشاعر قد يتاح له في حرارة التجربة الشعرية غير عبارة عن الفكرة الواحدة، لكنه لا يختار من الألفاظ إلا ما يأنس فيه الملائمة التامة للمعنى الذي ينشده وإن ساوره قلق فني في دقة لغته، وقدرتها على التعبير عنه. فإذا ثبت هذا وأنه هو واقع الشعر اللغوي فإن التفكير بنفي الضرورة، ومحاولة استبدالها بما لا ضرورة فيه أمرٌ من الصعوبة بمكان على الشاعر ..

بوابة الشاعر العراقي سعد عودة بوّابة ليس كلّ ماكان يدخلها ، فهذا الجليس الشعري الذي يطرحه للاخر ، له مضغته الشعرية ولحظة كتابة القصيدة ..

إنّ المعرفة الحدسية لاتضيف الى خبراتنا إضافات جديدة ، لأنها تكتفي بتحليل ماهو حاصل في علمنا سلفا ، ولا نحتاج الى وسائط فكرية لإدراك الحقائق إدراكا مباشرا من قبل العقل . تتم المعرفة الحدسية بلا وساطة أفكار ، ذلك أنّ العقل لايتطلب جهدا فكريا للوقوف على الحقيقة كما تقف العين على الضوء ، فالمشهد أمام الشاعر ولكن ( هنا تكمن الصعوبة ) بتوظيف هذا المشهد توظيفا شعريا والنزول اليه بشكل عبقري ، كأن يرسم الدلالات المفتوحة أمامه دون أن يعرف أنّ هناك تشخيصات معيّنة والانتماء اليها ، لان الحسية مطيعة لذهنية الشاعر وهي مساقة نحو هذا المشهد والكتابة عنه .. فالوقوف على التمييز بين الابيض والاسود وبين الدائرة والمثلث وان العدد ( 2 ) لايساوي ( 3 ) . فمثل هذه المعرفة كما يصفها لوك تتسم باليقين والوضوح ، وهي معرفة واقعية ، يحوّلها الشاعر الى ضمن سيمياء
الحداثة لتنال رضى المتلقّي وكيفية الانتماء الى المفردة الشعرية . لنقرأ :
واعرفُ من الجوعِ
ما يكفي لسد ثغرةٍ هائلةٍ
في مؤخرةِ العالم
اعرفُ من الحبِ
ما يكفي لمحوِّ كل هذا السواد
من اسفلتِ الشوارع
لكنني لا أعرفُ
هذا الذي يعرفُ
كُل هذهِ الاشياء
.....................
من قصيدة معرفة ...
.

العنونة وتفاصيلها لها علاقة قلبية بين مشهد الحدث والانتماء الى بداية الشطر من القصيدة ، فقصيدة معرفة ، لو ندقق بها قليلا ، لقادتنا ليس الى المجهول ، وانما الى دراية قلبية تأملية ، وهذه الدراية هي تشكل سورا من المعرفة الشعرية وكيفية تسخير المحسوسات التي تعيش في سلّة الذاكرة ، القصيدة لاتنتمي الى منطقة الفلاش باك وما أراده من مراجعة تذكرية كما يفعل الكثير من الشعراء ( وان دل على معظم الشعراء هو نصوصهم الضعيفة والتي ينتمون من خلالها الى الكلمة التي تدور في الذاكرة ) بينما الشعر المميز يدلّ اليك من خلال دلالات ورموز ليقودك الى تلك الكلمات المخزونة ، الشاعر سعد عودة يذهب بنا الى انفتاح هذه الدلالات بأكثر من نصّ ، وهنا تتجمّع الذاكرة بنقطة واحدة كي يسعفها من الضياع .. وتختلف المعرفة البرهانية عن المعرفة الحدسية في كونها لاتهتدي الى مواطن الائتلاف والاختلاف بين الافكار اهتداءا مباشرا . وهنا لابدّ أن تتدخل الافكار الوسيطة لادراك هذه الدرجة من المعرفة والتي يصفها ( لوك ) بالبرهانية . فإذا جاز لنا أن نقارب بين المعرفة الحدسية ودلالة المطابقة أو الممثلات ، فان المعرفة البرهانية تندرج في منطق نوع مخصوص من العلامات يسمّى بالدلائل ، وعليه لايمكن منافسة الدلائيات التي قوامها البراهين السيميائيات الحدسية والتي قوامها مبدأ المطابقة ، ولا سيما من حيث الوضوح واليقين ..

كلمة المعرفة التي اعتمدها الشاعر سعد عودة ، وهي كلمة متداولة وقد غنّى بها كثير من الشعراء وكتبوا عنها ومن خلالها ، ولكن هنا الشاعر وقف وقفة أخرى وجعلها دلالالة رئيسية في القصيدة ، وكأنه أحيا مفردة من المفردات اللغة التي كانت على لسان الجميع ومازالت ، ومن هذه المفردة الدلالية ، أعطه مشهده السميائي في رسم العلامات الاخرى ، لينقل الينا بلغته الشعرية نسيج الشعرية الداخلي ، مما يعني بذلك أنه أضاف وعيا آخر للمفردة التي اعتمدها ....
شكلت القصيدة لدى الشاعر العراقي سعد عودة مواصلة لحلم الشاعر بلغة تعبيرية تعتمد الرمزية تارة ولغة الدهشة تارة أخرى .. مما استطاع أن يؤسس لمشروع قصيدة تعتمد على الذات الشاعرة من خلال تجربته الشعرية ، فلو أخذنا قصيدة فلاش باك ، وكلمة فلاش باك تعني المرجعية الادبية في لغة النقد ، ولكن هنا أراد منها أن تكون مرجعيته اللغوية ضمن الذاكرة ، وهذه الكلمة معظم الشعراء ينتمون اليها بكتاباتهم دون تشخيص ذلك ، مما أراد
الشاعر منها أن تكوّن لغة أخرى .. لنقرأ :
الرصاصةُ أخرت نفسها
فقط ليكملَ الرأسُ حلمهُ
.
الرصاصةُ لم تتأخر
الرأسُ قامَ بتسريعِ
الجزءِ الأخير من الحلم
.
من قصيدة فلاش باك ...
.

لو نلاحظ هنا فعل الماضي أخّر ، مما تدل على أن هناك لغة متحرّكة في زمن الماضي ، واراد الشاعر من خلالها أن يعلن للعالم هذه اللغة من خلال العنونة التي اعتمدها وكذلك ميزة القصيدة الفلاش باكية ، ولو معظم نصوص الشاعر سعد عودة تنتمي الى القصيدة الديكارتية ، والتي من خلالها استطاع أن يثبت حضوره الشعري ... بين الفلاش باك والحضور يلعب النسيج التنظيمي لادارة الجمل الشعرية التي أراد منها أن تكون مشخصّة لوحده هو .. إذا أدخلنا الى حالة الاسلوبية الجديدة في إعطاء النموذج الشعري البغدادي وحيثيات العمل من أجل قصيدة ..
 
إنّ التوهّج الشعوري لدى الشاعر سعد عودة ، يصدّر الاثارة لدى الاخر ، وعمق الامساك باللحظة القلقة التي تنفتح على ماحولها ... القلق الوطني ، يعطني نتائج وطنية ، وهنا هو الفاصل الموسوم باللحظات التي اعتمدها الشاعر ، وما أكثرها في بلاد مابين خنجرين ..تسعى اللحظة تماما الى تأشير حدّها من الوعي والوعي الشعري لدى الشاعر ، ومقدرته على اكتناز المدلولات ووضع أنامله بأريحية الطلب ، وهو يداعب خنجره الشعري في النطق ..

انا متهمٌ بكم كثيرا
متهمٌ بتنانير الطينِ التي احرقتْ خبزَ الحرية
وبسعفِ النخيل الذي يدغدغُ أبطَ الله
الله الذي يبتسمُ لنا كثيرا هذه الايام
ويعدنا بإصلاحاتٍ حقيقية.
من قصيدة وعود إلهية .

إصلاحات القلوب اهم بكثير من الاصلاحات المدنية ، ولكن ، الباث يشدّ ويدفع الاخر ، والهبة الجماهيرية الاخيرة بخصوص اصلاحات البلد ، للاسف حتى وكلاء الله نزلوا الى الشارع يطالبون باصلاحات .. لاأعرف يطالبون من ؟ّ في الوقت الّذي هم الايادي الممدودة بالسرقات والنهب ، وهنا يرمز الشاعر الى لفظ الجلالة ( الله ) عز وجل ، وابتساماته اليومية ، من قبل من يدّعي الايمان بكل جوانبه  ..

إنّ العلاقة القائمة بين مختلف العناصر اللغوية على طول نصّ ممتد لاتقود ضرورة الى الخروج بخلاصات مهمة لاجل التحليل الاسلوبي ، اذ توجد في الخطاب علاقات تتخطّى حدود الجملة وعلى سبيل المثال استعمال الضمائر ( مثلا الضمير أنا في بداية القصيدة )
وله علاقة وطيدة مع جمل شعرية سابقة ، ولكن أستطيع أن أقول القصيدة مكملة لقصائد تم عزفها واعطاء بياناتها هنا وهناك ، لذلك حتى من ضمن مجموعة القصائد التي ارسلها لي
 كانت هي الاخيرة ...
......................................

سعد عودة واللغة الشعرية :

تتداول اللغة الشعرية لدى الشاعر سعد عودة من خلال اندماج الصور التي يعتمدها ، وهنا تنهض المخيلة ودورها في المعاينة والتطبيق ، فقد لزم المفردة من أطرافها كي لاتغيب عن الوعي الشعري الذي يملكه ، وهذه دلالة خاصّة يتحلى بها الشاعر ضمن اسلوبية معينة يتكئ عليها للتخلص من الشوائب والحشو وكذلك يمتهن الحداثوية في سعيه لايجاد نصّ يرضي البصر والبصيرة .. ويمكن الحديث هنا عن نوعين من المعينات والقرائن ، فمنها مايتعلق بالعوامل أو أطراف التلفظ والقول والكلام . من ثمّ تحيل معينات العوامل على المتكلم والمستقبل وتسمى بالمعينات الذاتية ... أما المعينات الثانية ، فتحيل الى اللفظة وتلفظها
وسياقها التواصلي ...
..........................................................

اعرض قصيدته الاخيرة تحت عنوان : وعود إلهية
وعود إلهية
,,,,,,,,,,,
انا متهمٌ بكم كثيرا
متهمٌ بتنانير الطينِ التي احرقتْ خبزَ الحرية
وبسعفِ النخيل الذي يدغدغُ أبطَ الله
الله الذي يبتسمُ لنا كثيرا هذه الايام
ويعدنا بإصلاحاتٍ حقيقية
متهمٌ بالسمواتِ التي تحاولُ التمسكَ بأصبعٍ خائف
يشيرُ لإلهةٍ ميتة
وبصحفٍ على شكلِ اكفان لأخبارٍ ماسخة
متهمٌ بكم كثيرا
انتم الذين تنزعون رأسَ البالوعة
وتطلقونَ جيفةَ العالمِ للسمواتِ السبع
انتم الذين تركنونَ ارواحَكم على عمودٍ خائف
وتبذرون الصلوات على ارضٍ ظمأى
( صلوات
صلوات
الأمل فات
صلوات )
وها أنتَ تنزل وحدك نحوهم
تسورهم بهالاتٍ من امل
وتمسحُ من على جباههم المرتفعة
اغلالَ القيض
ترفسُ ماتبقى من جذورِ الخراب
وتغني
تغني
( صلوات
الامل فات
صلوات
صلوات )