سيميوطيقا الفعل الروائي ـ رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس نموذجا ـ محمد الساهل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse25126 مقدمة
إن الاشتغال اللساني على المدونة الروائية بما هو حفر لغوي في بنى النص السردي قد تسلل إلى النظرية الروائية، فالعمل الروائي في حقبة ما بعد الثورة اللسانية والكشوفات اللغوية يوصف بأنه جملة طويلة  بما هي متوالية من الأفعال (actes  (les، ويتمشهد الفعل الروائي داخل المتون السردية في صورة إنجاز تلفظي آنة، وفي صورة إنجاز حركي آنة أخرى، ويتضمن الفعل الروائي قوتين إنجازيتين؛ إحداهما حرفية بما هي تشكيل دلالي معلن ومقول معنوي حقيقي، والأخرى مقامية بما هي تشكيل دلالي مضمر ومقول معنوي مجازي. وما على العقل القرائي في عبوره من المعلن الروائي إلى المضمر الحكائي وانتقاله من الحقيقة السردية إلى المجاز الحكائي إلا أن يغرف من مشربيات سيميائية ومرجعيات لسانية  لاستكناه ما يرشح به الصوغ الروائي من تمثلات اجتماعية ورموز حضارية ودفقات شعورية، وما ينضح به المصنوع السردي من مقول اللاَّمقول ومن مكتوب اللامكتوب لأن المنتوج الروائي في  تحققه الحديث ينكتب بمعجم لغوي رمزي وإيحائي راسما علائق دلالية جديدة بين الموجودات، كما ينبني بتركيب لغوي ناقص وغير تام  منزاحا عن التقليد الجملي والمعهود التركيبي. إن العقل الروائي، في اجتراحه لهذا السبيل التعبيري منتقلا بالفعل السردي من رواية ناطقة بكل شيء إلى رواية كانزة لكل شيء،  يؤسس لفعل قرائي جديد سمته الإنتاجية والتوليدية، فالعقل القرائي يتحول إلى مستكشف لجغرافيا النص السردي وفاتح لعوالمه الحكائية وحفار عن كنوزه الدلالية، في حين أن المنتوج الروائي يتحول إلى أرض كانزة للأسرار الدلالية وعالم غاو ينضح ببياضات مستفزة وفجوات جذابة وتراكيب مدهشة. وما فتح المتن الروائي وكشفه إلا مغامرة قرائية تستلزم من الفاتح أن يشحذ أدواته ويدقق خطواته لأن المعنى الروائي لم يعد ملقى على هوامش النص السردي يلتقطه العامة والخاصة على السواء، بل أضحى هذا المعنى غنيمة متمنعة يتناسل في قوالب مجازية وتشكيلات استعارية وبنيات رمزية لأن العقل الروائي ينطلق في إنتاجه السردي بما هو بناء دلالي وتشكيل رمزي من مبدأ يحفظ للعقل القرائي حقه في الفهم والتأول وينتقل به من متقبل سلبي وقارئ مستهلك للمادة الروائية إلى متقبل إيجابي وقارئ يعيد إنتاج المادة الروائية في تشكيلات جديدة، وهذا المبدأ يختزل في أن الوضوح الروائي عقاب قرائي والغموض الروائي حق قرائي لما يكتنزه من لذة فنية ومتعة أدبية.

تنشغل هذه السطور برواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس التي صدرت في خمسينات القرن الماضي. وما هذا الصوغ الروائي إلا حكي استعاديُّ لعبور الذات من جغرافيا ـ الأنا (بيروت ) إلى جغرافيا ـ الآخر (باريس) بما هو انتقال قسري  من أجل الارتواء العلمي الذي يتمثل في إعداد أطروحة الدكتوراه، والإشباع العاطفي الذي يتجلى في تفريغ ما تراكم من مكبوت في الزوايا المعتمة من الذات العربية. إن هذا الكون الروائي لشهادة سردية عن الاسم العربي الجريح وما وُشم في ذاكرته من آثار القمع والاستبداد وما راكمه اللاوعي الفردي من رواسب الكبت والحرمان. ولا تنشغل هذه السطور على " الحي اللاتيني" بغاية استكناه وظائفه واستيعاب خطابه في إطار المقاربة البنيوية لهذا المنحوت الروائي لأن هناك تراكما كميا في هذا الإطار، بل تتغيا هذه السطور الاشتغال التأويلي على الفعل الروائي من خلال استكناه ما يكتنزه في تضاعيفه الباطنية من تمثلات اجتماعية ودلالات حضارية ودفقات وجدانية، واستدعاء ما يتوارى في بنيته العميقة من معنى المعنى وفعل الفعل وقول القول لأن أعذب الحكي أغمضه.

  ـ تأريخ لزمنية الرحيل القسري
يؤرخ هذا المتن الروائي في عموده الافتتاحي لفعل العبور بما هو انتقال ذاتي من جغرافيا الأنا إلى جغرافيا الآخر، ولهذا العبور هدفان؛ أحدهما معلن ومقول يتمثل في التحصيل العلمي، والآخر مضمر وغير مقول يتجلى في الإشباع العاطفي. إن هذا الانتقال القسري ليرسم صورة حول أقاليم ـ الأنا بما هي فضاء تشيع بداخله الأمية والجهل، ويتمدد في تضاريسه الحرمان والكبت. كما يشكل صورة حول أقاليم ـ الآخر بما هي ينبوع للعلم والثقافة وأرض للحب والحرية. وهذا الفعل الإكراهي لينطق بلواعج المنتقِل ومواقفه من الإطار المكاني، فالعبور فعل رفض وفعل غواية؛ رفض للوطن المرجعي لصورته المأسوية معرفيا واجتماعيا وعاطفيا من جهة، وإعجاب بالوطن الغيري لصورته التي تزدان بألوان التقدم الفكري والحياتي والإنسي من جهة أخرى. ودوننا هذا المقطع السردي الذي يقيم تقابلا من منظور المتنقِل عبر هذين العالمين حيث المُعايرة الفضائية تنكتب عن معاينة واقعية واختبار حياتي: " عرفت  في شرقك الخوف والحرمان والكبت والشذوذ والانطواء... وأصبحت يوما، فإذا كيانك كله ينزع إلى تقريب هذا البعيد أو الانتقال إليه على وجه التدقيق. وها أنت اليوم عائش فيه، هذا البعيد الذي أضحى قريبا حميما بين يديك... باريس حياة منطلقة، ملتقى المتحررين... فالطلاب قدموا إلى العاصمة الفرنسية...طلبا للعلم والمعرفة " (1).
ويؤرخ هذا الكائن الروائي في مقطعه الختامي لفعل العودة بما هي انتقال من عالم ـ الآخر إلى عالم ـ الأنا، فالعودة إلى الوطن المرجعي لتؤكد على بناء العائِد لذاته معرفيا وعاطفيا حيث يتعهد في حياته الجديدة بالنضال بما هو فعل هدم وفعل بناء؛ هدم الأصنام ذات الامتدادات الفكرية والعاداتية والسلوكية من جهة، وبناء الإنسان وتربيته على مبادئ العلم والعمل كمدماك للتقدم الحضاري من جهة أخرى. ودوننا هذا المكتوب الروائي الذي يقدم رؤيته للعالم بما هي وعي بالكائن وتخطيط للممكن: " لقد استعدت ما حدثتني به عن المستقبل، وعن آمالك، وعن حياة الصراع التي أنت مدعو إلى أن تعيشها في بلادك، فوجدت أن دنياك التي تحلم بها أوسع وأعظم.... إنك الآن تبدأ النضال" (2).  إن هذا الصوغ الروائي ليستعيد تفاصيل من التاريخ العربي بعامة وتاريخ البعثات الطلابية بخاصة، فما البطل الروائي في هذا المنسوج السردي إلا نموذج للطالب العربي الذي راهن عليه العالم العربي مشرقا ومغربا لانتشاله من أوضار التخلف والجهل، وسلِّــه من  أغلال العبودية والتبعية. ولعل صورته في هذه المدونة السردية لتؤكد أن العودة إلى الوطن المرجعي لشرارة لثورة مجتمعية تقاطع ما هو كائن لتراجيديته، وتخطط لممكن يتزيا بالحياة والخصب في بعده الفكري والاجتماعي، وهذه المتوالية السردية لتختزل حلم التغيير وروحه " لقد انتهينا الآن يا بني أليس كذلك؟، فأجابها من غير أن ينظر إليها: بل الآن نبدأ يا أمي" (3).
والمحصلة أن المعمار الروائي لهذا الصوغ السردي ينفتح بالعبور بما هو انتقال لبناء الذات الفردية فكريا وعاطفيا من مشربيات الآخر الذي يستحيل مقياسا لمُعايرة الجماعة الانتمائية في ميزان التقدم في شقه الفكري والاقتصادي والاجتماعي، وينقفل هذا المصنوع الحكائي بالعودة بما هو انتقال لتقويض الذات الجماعية لما تعيشه من زيف حقائقي ووهم تاريخي بما هو آلية لإعادة بناء الذات المشتركة على الحلم والطموح والأمل كصنو لمسايرة الآخر في انبلاجه الحضاري وتفجره الإنسي، فهذا العمل الروائي ينكتب، إذن، بأسلوب دائري ـ حلزوني في خطاطاته البنائية وأُسِّـــه المعماري.
ويتفاعل هذا المنجز الروائي في صورته الموضوعية نصيا وأدب الرحلة بما هو فن تسجيلي لما التقطه الرحالة بصريا وسمعيا في انتقاله عبر الفضاء الزماني والمجال المكاني، فهذه المدونة الروائية ترشح بما التقطه البطل ـ الرحالة في رحلته المعرفية وارتحاله العاطفي من الفضاء البيروتي بوصفه رمزا للشرق في تمدده التقليدي والخرافي إلى الفضاء الباريسي بوصفه رمزا للغرب في امتداده الحداثي والعلمي. إن هذا النص السردي لوثيقة عن المبادئ الفرنسية، ولوحة توصيفية للعمران الباريسي وجماليته، وكتاب ناطق بالفكر الفرنسي وفنونه، ووجدان فاصح بالشعور الباريسي وتموجاته، وشهادة عن المجتمع الباريسي وتناقضاته. إن هذا الكون الروائي لتأريخ أدبي بأسلوب درامي ـ سجالي وبلغة رمزية ـ شعرية للعمران ـ بالتعبير الخلدوني ـ الباريسي بما هو إبدال بنيوي جديد في الكتابة التاريخية والتوصيف العمراني.
ـ تراجيديا عودة المكبوت
إن هذا الصوغ الروائي لشهادة على عودة المكبوت بما هو استعادة غير واعية، في صورة إنجازات تلفظية وأفعال سلوكية،  للمخزون اللاشعوري الذي يستبطن قيما مزيفة كالعنصرية والتعالي والإقصاء، ويستوطن رغبات غير متحققة كالجنس والمرأة والحرية. ويتناسل في هذا المنسوج السردي لونان من المكبوت؛ أحدهما غربي يتوالد عن المركزية الأوروبية، والآخر مشرقي يتوالد عن الهامشية العربية.
 إن الوعي ـ بالمعنى السيكولوجي ـ الأوروبي يرشح بمبادئ كونية كالاحترام والتسامح والحب، وقد اجتهد العقل الأوروبي زمنا لتأصيل هذه المبادئ في أفراده حتى تتمشهد في إنجازاته التلفظية والسلوكية. ويقدم هذا العقل  أقاليمه للآخر كنموذج حضاري يقدس الإنسان لإنسيَّــته دون استذكار لانتمائه الإثني والجغرافي ودون استدعاء لمرجعيته الدينية  واللغوية متجاوزا بذلك تعاليه الرمزي وتضخمه النفسي.
 وتنضح هذه المدونة الروائية بإنجازات خطابية وأفعال سلوكية تؤشر على عودة المكبوت الأوروبي بما هو انهدام لثقافة التسامح وفكر الاختلاف وانبعاث لثقافة الكره والتعالي وفكر الرفض والإقصاء. ودوننا هذا المقطع السردي الذي يؤرخ لعودة المكبوت الغربي في صورة إنجاز تلفظي:
 " وكان يوما مع فؤاد يحتسيان قهوتهما بهدوء، وإذ بضحكة مجلجلة تدوي بها القاعة، وتظل متتابعة لحظات... ويلتفتان فإذا هو أحد إخوانهم السوريين... وإن هي إلا لحظة حت تناهى إلى سمعهما صوت نسائي يقول بلهجة عصبية وبالفرنسية: ـ أي متوحش هذا، لا بد أنه عربي " (4).
يستعرض هذا المحكي مثيرا شرقيا واستجابة غربية، فالضحك، بما هو فعل إنساني ما هو إلا استجابة لمثير خارجي ينكتب عن تناقض ما،  قد تحول  في هذا المشهد الحضاري إلى مثير أصواتي مستفز للآخر ـ الأوروبي، فالفعل الاستجابي ـ الغربي (أي متوحش هذا، لا بد أنه عربي )  بما هو فعل لغوي ليحمل قوتين إنجازيتين، إحداهما حرفية  تؤشر على أن  الآخرـ الشرقي ما هو إلا منبع إزعاج معنوي وإرهاق نفسي للأنا ـ الغربية، والأخرى مقامية ترشح بمحمولات دلالية عنصرية وتزدان بشفرات رمزية إقصائية. إن هذا الفعل الاستجابي لتعنيف رمزي وتجريح لفظي للآخر ـ الشرقي من جهة، وعقاب تأديبي وإصلاح تربوي بأسلوب عدواني لهذا الآخر من جهة ثانية، ورفض مبطن ومحو ضمني لهذا الآخر وسلوكاته العاداتية من جهة أخرى. ويتفاعل هذا الفعل الاستجابي في صورته اللفظية وإطاره المكاني نصيا وفعلا سارترِياً تؤرخه المتون السَّير ذاتية يتعامل والآخر بما هو جحيم ينبغي إقصاؤه ورفضه . ويتفاعل هذا الفعل الاستجابي، كذلك، في انكتابه الرمزي وانوجاده المادي وفعلا كولونياليا تؤرخه المصنفات التاريخية يتعامل والآخر بما هو عدو ينبغي تدجينه وتمدينه.     
 إن هذا الفعل الاستجابي لترسم من خلاله الأنا ـ الغربية، عن غير وعي، صورتين متناقضتين؛ صورةً للآخرـ الشرقي بما هو ذات منحطة أخلاقيا ومتدهورة فكريا وبدائية حضاريا من ناحية،  ومجتمع غَابِيٌّ في سلوكاته وطبيعانِيٌّ في حياته وظلاميٌّ في تصوراته من ناحية أخرى، وصورةً للآخر ـ الغربي بما هو ذات سامية أخلاقيا و  منتجة فكريا ومتقدمة حضارية من جهة، ومجتمع مدني في سلوكاته وحضاري في حياته ومتنور في تصوراته من جهة أخرى.  ويتحصل من ذلك أن هذا الفعل الاستجابي يؤرخ لعودة المكبوت الأوروبي في صورة إنجاز تلفظي، فالأنا ـ الغربية تمارس عنفا رمزيا على الآخر ـ الشرقي في استعادة لمنطق الإقصاء وفكر التعالي الذي يوجه العقل الأوروبي في نمذجته للآخرـ الشرقي بما هو رمز للإنسان في فطرته الأولى وتشكيله البدائي، الإنسان الذي لم يتشرب من ينابيع الحضارة وعيون الثقافة.
ولم ينبعث المكبوت الأوروبي على مستوى الإنجاز التلفظي بما هو رفض باللغة وفي اللغة للآخر ـ الشرقي فحسب، بل ينبعث، كذلك، على مستوى الإنجاز السلوكي بما هو رفض بالفعل وفي الفعل للآخر ـ الشرقي. فقد تمشهد في هذا المكتوب الروائي انبعاث المكبوت الأوروبي في صورة إنجاز سلوكي، ويتجلى ذلك في إجهاض جانين مونتيرو، عشيقة البطل الفرنسية، للجنين بما هو ثمرة تلاقح حضاري بين الذاتين الشرقية والغربية. إن هذا الفعل ليستبطن مدلولات متنوعة، ويتمثل المدلول الأول في أن الإجهاض ما هو، في بنيته الضمنية، إلا رفض للتمازج العرقي وحرص على صفاء النوع في استدعاء، لا شعوري، لتصورات عرقية تؤمن بأن العرق الأوروبي سامي ومتفوق بطبعه، من ثمة ينبغي ألا يتلوث بغيره من الدماء تجنبا لانهدامه المادي وانمحائه الرمزي. ويتجلى المدلول الثاني في أن الإجهاض ما هو، في بعده الرمزي، إلا اجتثات للثقافة المشرقية من الرحم الأوروبي  في انكتاب للمركزية الأوروبية التي تعتبر الأنا الغربية ينبوعا للمعرفة والعلم والثقافة والآخر مصبا يرتوي من هذا الينبوع ملغية بذلك علاقات التأثير والتأثر التي تؤسس للتلاقح الحضاري. ويتمثل الآخر في أن الإجهاض ما هو، في عمقه الدلالي، إلا قتل رمزي للآخر ـ الشرقي في استذكار للقتل المادي الذي مارسته الآلة الكولونيالية على الآخر ـ الشرقي ثقافيا وثرواتيا وحضاريا.
والحصيلة أن هذا الصوغ الروائي ليقدم، بأسلوب مخاتل في داله متمنع في مدلوله، صورة الأنا ـ الشرقية كما تنعكس في مرآة الآخر ـ الغربي الذي تتشكل في بنيته الذهنية  الأنا ـ الشرقية معادلا للإنسان في نسخته الطبيعية وصورته البدائية وطبعته الحجرية. إن هذا المتن الروائي ليستشرف ممكنا صادما يتحول فيه الصراع الكوني إلى صراع الصور الحضارية والنماذج الهوياتية بما هو استنبات لنظام عالمي جديد حيث التكتلات الآدمية تتخذ بعدا إثنيا ولاهوتيا، وتنتهج سبيلا إقصائيا وإلغائيا في الوشائج الحضارية كإرهاص لصدام الحضارات باعتباره إبدالا بنيويا جديدا في التاريخ الإنساني وسيرورته الدياكرونية.
إن المكبوت لم ينوجد كإنجاز سلوكي وكفعل تلفظي في الشخصية الغربية فحسب، بل عاد، كذلك، في السلوكين اللغوي والفعلي للشخصية المشرقية، فالمنتوج الروائي يقدم الأنا ـ المشرقية في صورة ذات مغتربة ومتشظية آنة، وفي صورة ذات مريضة ومعطوبة آنة أخرى،  فالاغتراب الذاتي  يتمشهد في انعزال مادي ومعنوي عن الفضاء المرجعي لما يشيع في هذه الجغرافيا من عادات صفراء وقيم بالية، أما التشظي الذاتي فيتمشهد في  التلاشي بين كائن يتمدد في التفكير الخرافي والتدجين السياسي والتهميش الاجتماعي وممكن يستشرف الكرامة الحضارية والعدالة الاجتماعية. إن مأساة الذات العربية، والعهدة على هذه المدونة الروائية، لمأساة نفسية لما تختزنه هذه الذات في البنية اللاشعورية من رغبات لم يرخص الوعي الجمعي بأقانيمه وقوانينه بأن تتحقق ماديا مما حول هذه الذات إلى ذات مريضة نفسيا تتجشم، في صمت مريب، ما راكمته من رغبات مؤجلة. ودوننا هذا المقطع السردي الذي يعيد تشكيل الذات العربية نفسيا من خلال فحص سريري لعلل هذه الذات وبحث أركيولوجي في الرواسب الرغباتية التي تصلبت في اللاوعي العربي "هكذا عرفت المرأة في شرقك، فعرفت الخوف والحرمان والكبت والشذوذ والانطواء والخيال المريض" (5).
ويؤرخ المكتوب الروائي لفعل التطهير بما هو مسح إكلينيكي للذات العربية وتفريغ للمكبوت الذي تراكم في اللاوعي الفردي، كما يؤرخ هذا الكون الحكائي لفعل التعويض بما هو  إشباع عاطفي لما تأجل من رغبات، وإنصاف لِلْهُو، بالمعنى الفرويدي، العربي ومصالحة معه لما تجشمه في سنوات الجمر والحرمان. ولعل هذا المقطع السردي لشهادة على انبعاث الذات العربية من براثن الطَّابو وأغلاله الاجتماعية،  وانسلاخ الأنا ـ المشرقية من أوضار الاستعباد وجرائمه النفسية "إن ماضيك قد سقط عن كاهلك ليضيع في النسيان كما سقط ذلك المنديل ليضيع في الأمواج... ستبدأ الحياة التي ما نفك يعيشها في الخيال... وإن هو إلا أن ارتدى ثوبه الشتوي، وربط عقدة اختارها له صبحي، حتى غادروا الفندق، سعداء، غير آبهين للأمطار كثلاثة أطفال لا يهمهم أن تسقط الثلوج وتلطخ الأوحال أقدامهم، ما دام اليوم يوم عيد" (6).  يتضح، إذن، أن هذا المقطع السردي  يقيم تقابلا بين زمنين؛ ماضي الأنا ـ المشرقية بما هو زمن الكآبة  والحرمان والموت، وحاضر الذات ـ المشرقية بما هو زمن السعادة والإشباع والحياة.
والحصيلة أن هذا الصوغ الروائي في اقتحامه لِلاَّوعي العربي والغربي، وتصويره لما تراكم من مكبوت في هذه الزاوية النفسية من الذات الإنسانية، وتأريخه لعودة هذا المكبوت في صورة إنجازات تلفظية ومحمولات سلوكية لمؤشر تِيمَاتِي على أن هذا المكتوب السردي نموذج للرواية النفسية، كما أن هذا الكَون الحكائي في انشغاله بعلاقة الأنا ـ المشرقية بالآخر ـ الغربي وما تشهده من صدام تلفظي وصراع مادي آنة، وما ترشح به من حب سامِ وصداقة متينة آنة أخرى لمؤشر موضوعاتي على أن هذا المنسوج الروائي نموذج للرواية الحضارية.
ـ الاسم العربي الجريح
تنبني الكولونيالية الغربية على أربعة أفعال؛ فعل الدخول بما هو عبور إلى جغرافيا الآخر لتنوير هذه الأقاليم، وفعل الاستكشاف بما هو استقصاء لثروات هذا العالم وإحصاء لخيراته الطبيعية وموارده البشرية، وفعل الاستغلال بما هو إغراق للجنوب بمواده الاقتصادية ونهب لخيراته الطبيعية واستثمار لموارده البشرية في بناء حضارته المتمددة، وفعل الخروج بما هو عودة مظفرة إلى الوطن المرجعي بعد استنبات التبعية في الإنسان الجنوبي. إن هذا الفعل الكولونيالي الذي تجسَّم في محمولات مادية ليحاول العقل العربي استنساخه في محمولات معنوية كنوع من الثأر الرمزي من الغرب الإمبريالي، فالبطل في هذا الصوغ الروائي لرمز للشرق الذي تجشم عذابات الاستعمار و آلته القمعية، أما جانين فهي رمز للغرب الذي اجتاح جغرافيا الآخر ماديا ورمزيا. إن نظرة عالِمة في المفاصل الكبرى لقصة البطل مع جانين لتوضح أن البطل يستعيد، عن غير وعي، في تعامله مع جانين الفعل الكولونيالي في صورته الغربية، فالبطل بما هو رمز للعالم الشرقي قد مارس استعمارا رمزيا على جانين بما هي رمز للعالم الغربي. ويتمشهد الثأر الرمزي من الغرب الاستعماري في فعلين يؤطران هذه القصة، يتمثل أحدهما في فعل الجنس الذي يحمل قوتين إنجازيتين؛ الأولى حرفية حيث الجنس يعبر عن رغبة بيولوجية في الإنسان، والثانية مقامية حيث الجنس يعبر عن غزو الآخرـ الغرب واستغلاله جسديا وعاطفيا بما هو ثأر معنوي من هذا الآخر الذي اغتصب الأنا ـ المشرقية سنوات تمدده الكولونيالي، واستغل إرث هذا العالم المادي والرمزي في بناء أمجاده الحضارية، ويتجلى الآخر في فعل الحمل الذي يتألف من بنيتين؛ إحداهما سطحية حيث الحمل ليس إلا ثمرة للتلاقح الحضاري بين ذاتين تنحدران من أصول جغرافية وعرقية وثقافية متباينة، والأخرى عميقة حيث الحمل ـ  وباستذكار ما تمخض عنه من عذابات نفسية ومآسي مادية للحامِل الغربي ـ يتحول إلى ثأر معنوي من الغرب الكولونيالي الذي تولد عن اجتياحه غير الشرعي لجغرافيا الآخر مآسي تزدان بألوان الغربة والضياع والتمزق والكآبة.
والمحصلة أن هذا الكون الروائي لوثيقة تدشن لما اصطلح عليه بالانتقام الجنسي من الاستعمار الغربي، فالإنسان الشرقي يستعيد في منجزه التلفظي والسلوكي تاريخا من العنف الحربي الذي مارسه عليه الإنسان الغربي في لحظات زحفه الكولونيالي، فلا غرو أن يسلك الإنسان الشرقي في علاقته بالآخر الغربي مسلكا ثأريا وطريقا انتقاميا من خلال ممارسة العنف الجنسي على الأنا الغربية بما هو معادل رمزي للعنف الحربي الذي تجشمه العالم الشرقي. ويتفاعل هذا الصوغ الروائي الذي يؤرخ للأنا ـ العربية بما هي ذات تمارس العنف الجنسي على  الآخر ـ الغربي كنوع من الثأر الرمزي والانتقام المعنوي من العنف الحربي في صورته الغربية والمدونة الروائية للطيب صالح التي وسمت ب "موسم الهجرة إلى الشمال".
ـ خاتمة
دُرج في التقليد السردي والمعهود النقدي أن العمل الروائي لا بد وأن يصطف في إحدى النَّمْذَجَات الروائية كأن تندرج رواية ما في النمذجة الواقعية من الإنشاء الروائي، غير أن رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس تنزاح عن هذا التقليد بما هو تمنُّع عن النمذجات النمطية واجتراح لنمذجة  روائية جديدة تصهر مختلف النمذجات ( الواقعية والنفسية والتاريخية...) في كون روائي متناغم. إن هذا الصوغ الروائي لشهادة سردية عن الاسم العربي الجريح وما وُشِم في ذاكرته من مآسي نفسية وعذابات اجتماعية وعُقَد تاريخية، فهذا المنسوج الحكائي يضيئ الزوايا المعتمة من الذات العربية بما هي مناطق ترشح بما استبطنه الهُو العربي من رغبات لم ترخص التقاليد الصفراء والقيم البالية بأن تنوجد بالفعل كإنجازات سلوكية وكمحمولات تلفظية، كما يُعري هذا السرد المُعلَّم الواقع العربي بما هو كائن يزدان بألوان الغربة والكآبة والضياع، وينضح بأمارات الاستبداد السياسي والانهدام الاجتماعي والانمحاء الحضاري  التي تتبدى من خلال معايرته بالواقع الغربي بما هو كائن يرشح بعلامات التقدم والمعرفة والحرية ويتزيا بأشكال الديمقراطية والكرامة والعدالة، وما الوعي بهذا الكائن المأساوي إلا تفجر لأمل قوي في بناء ممكن مشرق ومستقبل مضيء.
وقد دُرج في التقليد السردي، كذلك، أن تنكتب الأعمال الروائية بلغة سهلة وبمعجم واضح وأسلوب فاصح لأن الصوغ الحكائي ينشغل بالحدث وديناميته في البرنامج السردي الذي يؤطر وظائف القِـوى الفاعلة ومسارات الأحداث النووية، غير أن رواية "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس تنزاح عن هذا التقليد، فهذا المنسوج الروائي يؤرخ لإبدال بنيوي في الملفوظ السردي ولغته. إن هذا الكون الروائي ينكتب بلغة رمزية وبمعجم غامض وأسلوب إيحائي لأنه ينشغل بمعنى المعنى الذي يتوارى في البنى العميقة للإنجازات التلفظية وفعل الفعل الذي يتوارى في البنى العميقة  للإنجازات السلوكية. والحاصل أن العطاء الروائي، المساهمة الحكائية، الإبداع السردي، كل ذلك يتوارى في عمق النص الروائي لا في سطحه.

ــ (1) الحي اللاتيني ـ سهيل إدريس، دار الآداب ـ ط 20 ـ 2012 ـ ص 25
ـ (2) م. ن ـ ص 261
ـ (3) م. ن ـ ص 264
ـ (4) م. ن ـ ص 80
ـ (5) م. ن ـ ص 25
ـ (6) م. ن ـ ص 6ـ 12