علي كنعان: الكتابة فعل تطهيري لتضميد جراح الوطن النازفة - د. امحمد برغوت

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسيوضح علي كنعان علاقته بالشعر قائلا:
"بدأت العلاقة بيني وبين الشعر في التاسعة من عمري – على ما أذكر – بعد أن ختمت القرآن وأمرت بحفظ المقطوعات الشعرية لإلقائها في السهرات أمام الضيوف" (1).
ويحدد ما يشغله كشاعر: "تشغلني قضيتان أساسيتان:
العدالة الاجتماعية والحرية، ان شتى مظاهر الظلم الاجتماعي تثيرني بجزئياتها الصغيرة وتملأني حقدا. فلا أجد عزاءا أولا في غير الكتابة أو المطالعة. ومع إيماني بأن السير بحزم في ضوء الفكر التقدمي يستطيع أن يقضي على هذا الظلم، إلا أن الخطر يكمن في أن تتولى حمل المشاعل وتحريك الخيوط في هذه المسيرة طبقة من الموظفين والمستوظفين الذين يعرفون جيدا من أين تؤكل الكتف، والذين تقضي مصالحهم ان يحافظوا على أمراض الواقع ويزيدونها تعقيدا وخطرا لتبقى الحاجة إليهم قائمة باعتبارهم أداة خبيرة بحل المستعصيات، وهكذا يعيشون ويتكاثرون كالعلق على أكتاف جماهير المنتجين، وبخاصة الفلاحين. إن نقمتي على هذه الطبقة، وأنا واحد منهم، تجعل كتابتي أحيانا أشبه ما تكون بتقشير جرح تقيح ليبقى مفتوحا – رغم بشاعته – أمام شمس الناس المطهرة"(2).
يحدد الشاعر في هذا الاستشهاد طبيعة انشغاله كشاعر، وتتخذ هذه الطبيعة أساسا ايديولوجيا واضحا.
وعلاقة علي كنعان بالشعر توطدت في سن مبكرة – كما جاء في شهادته السالفة – إذ نشر أولى قصائده في مجلة الآداب سنة 1959، كما أنه خبر القصيدة الكلاسيكية ونال عليها الجائزة الرابعة في مهرجان الشريف الرضي عام 1964 باللاذقية، وكان من المدافعين الأوائل عن القصيدة الحديثة في سورية. درس الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق وتخرج منها، واشتغل بالصحافة الأدبية بصورة متصلة ومتقطعة منذ عام 1964 .
وقد أثر كل ذلك في شعره (الريف والأدب الإنجليزي والصحافة، التراث الأدبي والأسطورة) وكان الأساس الجمالي لمجمل نتاج الشاعر.
وإذا كان علي كنعان محصلة لأشكال الحياة التي عاشها، فإنه كذلك حصيلة الإيديولوجيات التي كانت متضاربة ومنتشرة في المرحلة التي عاصرها الشاعر. فمرحلة الخمسينيات كانت ميدانا حاميا لصراع الإيديولوجيات والمضامين الجديدة (الاشتراكية والوجودية بخاصة) ازدهرت ازدهارا ملموسا وخلخلت القيم القديمة وهزمتها (في صفوف الجيل الجديد). ولقد عبر هذا الصعود الوطني التقدمي، عبر معاداته للاستعمار، وعن إدانته للرأسمالية وعن تمسكه بالوحدة العربية، وفي المرحلة نفسها تفجرت أهم الثورات في تاريخ العرب الحديث (ثورة مصر، ثورة الجزائر، الوحدة بين سورية ومصر، ثورة العراق، إلخ...) ففي مطلع قصيدته الطويلة : "فرسان الأمطار الموسمية" يقول:
"سادتي سيداتي
ان من قتلوا في الحروب
ومن يقتلون
في غمار الدواوين والسوق والصحف الداجنة
كلهم، كلهم فقراء
وهذي فلسطين تنزف مد البراري
ويجني قطوف عذاباتها أثرياء الحروب
وحوش القرى، وطغاة المدن" (3)
انه يرى أن وحوش القرى، وطغاة المدن يستغلون الحروب، ويزدادون ثراءا ؛ أي يقبضون ثمن دماء الشهداء، أما الفقراء، فإنهم وحدهم يموتون دفاعا عن الوطن .
من هذا المنطلق يؤمن علي كنعان – الذي نعت بشاعر الصدق والنقمة – أن وظيفة الشعر يجب أن تتصدى للاستغلاليين من الطبقة الحاكمة، وتنخرط في صفوف الفقراء للدفاع عن إنسانية الإنسان.
ويبدو من خلال تتبعنا لتصريحات الشاعر أنه ميال إلى الرومانسية بحكم منشإه الريفي، وهذا ما يتضح من خلال قوله:
"هل أنا متفائل بجيل أطفالي أكثر مما ينبغي؟ وبخاصة بعد سقوط أبيهم وجيله الرومانسي الهش في مستنقعات الخيبة والكآبة والإحباط لست أدري...وأنا واثق ان النظرة  الرومانسية تأتي صحيحة أكثر من سواها في بعض الأحيان" (4)
إنه يعترف بصراحة أنه ينتمي إلى جيل رومانسي خائب وكئيب ومحبط، كما يعترف أيضا بأنه سقط في مستنقع سماه: "الخيبة والكآبة والإحباط" ، ويمكن القول ان علي كنعان حمل في داخله الرومانسية من  الريف وعمقها في المدينة عبر تضخم الانفعال واشتهاء العزلة والفردية.
ففي "أسطورة الأعور الدجال" يرسم علي كنعان معالم رؤيا قاتمة يعلن فيها رفض العصر وكل ما فيه:
"وفي أيامكم، في لجة المحنة
يفقس في جراب الريح كاللعنة
وترتع خيله في الأرض كالطاعون
له قرنان.. أو أكثر
وفكاه – لكثرة ما يقضقض من عظام الناس – كالطاحون". (5)
لذلك فهو يدين هذا العصر ويلعنه:
    " العن هذا العصر 
          العن نفسي مثلما العن هذا العصر لأنني ولدت فيه
لأنني قبلت أن أعيش فيه
كالشاهد الجبان ...
لم أستطع تبديل شيء فيه
يا وطن الإنسان والحضارة
أبكيك يا مستسلما كرقعة الشطرنج" (6)
وهو إذ يلعن هذا العصر، فإنه يدين الجيل الذي ارتبط به لأنه جيل الخيبة:
    هذا إذن جيل "أبو ضرس"
ما أسعد الذين يولدون
جيل "أبو ضرس" هنا
ياكل......لا يشبع
تدعوه....لا يسمع
تكور الشمس بعينيه... فلا يقنع
تبعثه في حاجة يمضي...فلا يرجع" (7)
و " يفاجئ علي كنعان القارئ – يقول حنا عبود – عندما يصل إلى نهاية القصيدة مفاجأة كبيرة حين يعلم أن هذا العصر الذي يلعنه الشاعر هو العصر الذي باركه لما كان صغيرا. كان متفائلا إذن بالعصر يعلق عليه آماله. و خاصة حين رأى أن صغار النمل تنهش جيفة أفعوان و تجرها إلى الوادي :
" باركت هذا العصر
أذكر في طفولتي باركت هذا العصر
يوم رأيت في سفوح قريتي جيفة أفعوان
تجرها النمل نحو الأودية " (8).
إنها خيبة أمل، و بهذه الخاتمة جعل فجوة بين بواكير العصر و خواتمه، بواكير مفعمة بالأمل، و خواتم مطبوعة بالخيبة و الرعب و الدمار... و هكذا يدان العصر الذي كان يبارك، و البشير يصبح نذيرا، و النذير يتخلى عن الإنذار لأنه في عصر مقرف، أو لأن العصر بات مقرفا... و عندما يكون العصر في هذا المستوى، فإنه يحتاج إلى نذير، فمن العنوان ينكشف المضمون" (9).
و خيبة الأمل هذه هي التي جعلت من علي كنعان أكثر أدباء سورية إحساسا بهول الهزيمة على حد قول و فيق خنسة – إذ " مارس تأنيبا للذات، و إدانة و شعورا بالقصور حدا يفوق الاحتمال، و لهذا فإنه انفعالي متطرف عندما يتغنى بالبديل : " الفدائيين " ، لقد كان حجم رد الانفعالي أكبر مما ينبغي عند الشاعر حيث برزت من جديد رؤيا الفلاح العربي، هذا الفلاح الذي يتغنى بالبطولة و الفروسية ، و ينتظر البطل المنقذ (مفهوم النبوة) " (10). و يعبر علي كنعان عن شعوره هذا بعدم الفعالية في إحدى المحاورات التي أجريت معه حين يقول : " يعذبني كثيرا مجرد التفكير في أن أموت كحشرة، و يعذبني أكثر أن أعيش متفرجا مع قطعان المتفجرين على جراح الوطن النازفة " (11).
و هو يكرس هذا الموقف حين يقول في إحدى قصائده :
" يا خجلتي لن يعرف  الأحبة الآتون
أن خطاي درجت على تراب هذه الأيام
و لم أمت إلا على فراشها
- ( يا سلعة أرخص ما في السوق ! ) –
أو في طريق عملي كحشرة "
هكذا تتسع دائرة إحساس الشاعر بالذنب، و مبالغته في تعرية ذاته و تعرية الآخرين، و من ثم يعبر عن سخطه على " منطق ما قبل حزيران الكلامي " الذي أسقطه و أسقط جيله فيما يشبه إدانة النفس، و الاعتراف بالمسؤولية تجاه الهزيمة :
" فمعذرة أحبائي
لأني مثل غيري من طبول العصر، فرسان الطواحين
جبان يا أحبائي
جبان تخجل الطرقات و الأعشاب من ظلي
أطارد بالتمائم و الرقي أشباح أعدائي،
.....
و نحن في عصر الكلام الزئبقي
و ما لغير النار صوت أو صدى مسموع " (12).
و أمام هذا الإحساس بالعجز الذي يكبله و يشل حركته، يهرب الشاعر إلى المرآة التي يتوسل إليها كي تمنحه العزاء و السلوى قبل أن يستفرد به الجنون:
" امنحني فتحة الضوء بعينيك ففي صدري
ظلمات  قرون
اغسليني بدموع الحزن، و اللوعة، و النفي،
اخطفيني قبل أن يخطفني درب الجنون
أرسمي أوهام عيني على كل جذوع الشجر القسي
بأوهام الأصيل
حدقي قبل رحيلي
و أفردي الخوف الذي شردني فوق دروب
المستحيل
.....
 أطعميني
فمناقير الطيور الجائعات
أكلت حبات قلبي،
شربت نهر شراييني،
رعت خضرة عمري". (13).
و هذا ما يفضي به إلى استشعار نوع من الغربة الوجودية بفعل تردي هذا الواقع الذي يراه مترديا لا يلوح فيه بريق أمل.
و غربة علي كنعان تلازمه في جل ما كتب من شعر، و هذه نماذج معبرة عنها :
" كانت جبهتي الأولى بلا وشم سياط و حوافر
حاملا في مزودي مر الطوى
في مقلتي ملح الدموع
في سراديب دمي طعم الردى، هول المقابر " (14)
و الشاعر حريص على تأنيب ذاته بطريقة " مازوخية " عله يتطهر من عدم الجدوى و الفاعلية التي تطارده كما في قوله :
" ....
و أنا لست أنا، لست أبنها المولود
في زاوية غبراء تحت المدخنة
عدت طفلا هرم القلب، يدا شلاء، رسما في بطاقة
و حروفا كلما أطعمتها سهدي تجوع
... فكأني لم أزل في غربتي الأولى :
فتى يرتاب حتى بالمرايا " (15).
و تخبو رؤاه و لا تقوى على الإسراء في الظلمة، و من ثم يلتمس المعذرة، و يعترف أنه كان أحد فرسان الطواحين الجبناء الذي أسرف في مباركة هذا العصر، و علق عليه أمالا سرعان ما انهارت في مستنقع الهزيمة النكراء :
" و لكن الرؤى تخبو
و لا تقوى على الإسراء في الظلمة
و لا تقوى على البرد
فمعذرة... أحبائي
لأني مثل غيري من طبول العصر، فرسان الطواحين
جبان ...،
جبان... كل ما أرجوه منكم
لوداع أو اللقاء، رصاصة الرحمة ! " (16)
نعم، لقد اعترف الشاعر بجبنه و تخاذله، و هذا ما يسلمه إلى إعلان عجزه التام،      و يأسه المطلق:
" عدت لا أملك حتى الصوت، حتى الذاكرة
عدت من دوامة السيل
إلى دوامة هوجاء كالأولى، هجينة
حاملا في رئتي، ملء عروقي، كل أمراض المدينة
ها هنا تسحقني الأشياء و الناس :
أنا حبة قمح في رحاها الدائرة ! " (17).
و من ثم فهو لا يملك سوى البوح بما يكابده من احتراق داخلي، متقمصا شخصية أبي  ذر الغفاري في ليل المدينة :
" و تبقى في رصيف الشارع المحروم كالأشجار أقدامي
و يبقى وعدك المشلوح للصدفة
سنا عينين مغمضتين عن جرحي و آلامي
فتشرب في كهوف دمي
صحارى الجوع، و الإخفاق و الكبت
و يبقى الليل و الحانات و الطرقات قدامي
مناخا... لا حياتي في مبادله و لا موتي " (18).
و هذا ما يسلم الشاعر إلى دوامة الشعور بالاغتراب المثقل بغلالة الحزن و الكآبة :
"حزين أنا، يا ضحايا الحروف
و يا أنبياء الليالي الشريدة
حزين أنا...
كصفصافة في سفوح الخريف
تسيل مع الدم فيها سموم الضنى
و تقتص منها الرياح البليدة
حزين، حزين أنا
....
و عاد الرصيف
يلوك ... و يدمي خطاي الوئيدة" (19).
و الشاعر يبصر من حوله، فلا تبدو له سوى دلالات الانطفاء و الظلام الذي يهيمن على البرية:
" حشرجات في سراديب الهوى المخمور
حمى و صديد
و على السطح غربان من البرية الثكلى،
يحومان على قبر جديد
عالم يخبو" (20).
و يتساءل الشاعر عن الموعد المقبل، و عن زمن الاخضرار الذي لا تبدو معالمه في الأفق المنظور:
" أما من برعم حي ؟
أما من حبة تحت الجليد ؟
لم لا تخضر في أوراق تشرين دمانا ؟
و متى ساقية الأحزان تختار سوانا ؟" (21)
و يقول – عن هذا المعنى –  في مقطع  آخر من نفس القصيدة :
" أما تلوح في الشط شراعا
و يدا  تومئ، فيزهو خلف إيماءاتها قوس قزح
وصدى ينهل، بوح الغيث
للأوراق غابي الفرح".
لكن سرعان ما يغمره اليأس من أحوال الوطن و حاله، و من ثم يقرر أن زمن البشرى ولى، و لم يعد يبدو في الأفق سوى شبح اليأس و العقم :
" ليس في أحداقنا غيمة بشرى
أو بأيدينا اختراق المستحيل
يبست أنهارنا الخضراء
جف الطحلب النامي على آبارنا
قبل الرحيل
يبست حتى شرايين السماء ! " (22).
و هذا ما يؤلب عليه الحزن الداخلي الذي يفضي به إلى استشعار قرب نهايته :
" ساعتي دقت ... وداعا...
لا تغب، لا لم تحن، لا يا أخي !
هبت الريح، وداعا...
هبت الريح ؟ ... وداعا يا أخي..
و إلى أن نلتقي في مصرع الريح.. غدا " (23)
إنها صورة من صور نعي الشاعر لذاته في زمن الخيبات، و ندب للفرح المستحيل، بهذه الطريقة ييأس علي كنعان من العصر الذي باركه في بداية تجربته الشعرية، و على هذا النحو تتسع دائرة الرؤى السوداء في متنه الشعري حتى غدت أكثر شمولا، و هي تظهر هنا جلية في هذه الإدانة التي شملت حتى الذات نفسها.
هكذا فقد الشاعر القدرة على المقاومة حتى عاد بلا صوت و لا ذاكرة، يدور في دوامة هوجاء بلا هدف و لا غاية، لقد أسلم إرادته لمن يسحقه و يدمره، و هو بإعلان عجزه هذا، إنما يريد أن يتطهر من لعنة هذا العصر الذي وشم الزمن العربي بالرداءة و الذل         و المسكنة، و لذلك فهو يريد أن يتهيأ لفعل جديد، مستشرفا، زمن البطولة الغائبة عله يمحو الخجل الذي يتراءى له على أكثر من صعيد :
" متى يخضر هذا السيل في وطني ؟
و تثمر فوقه بيارة الشهداء و الأنقاض ؟
متى تلد الحبلى غير هذا القيء
حول موائد الشطرنج و القهوة ؟
متى يزرق ليل دمشق
لا خوفا و لا استعراض ؟
و يطلع طارق بجواده العربي يلطم كبراء البحر...
متى...؟
و يفور من سينا إلى الجولان موج الدم
و تغشى كل بيت ، كل درب
كل زاوية من التفكير و الإحساس،
ريح الدم " (24).
إن هذا اليأس الطاغي الذي يتخلل أجواء القصائد عند علي كنعان ليس قدرا محتوما،   و لذلك فهو يحاول جاهدا أن يبدده – و لو بتفاؤل غير يقيني – ، فلنلاحظ كيف بدأ إيمانه باستنساخ حياة متجددة قادرة على خلق توازن داخل منحنيات القصيدة بما يساعده على الاستمرار في الكتابة، و هذا ما يعطي للقصيدة حركة و حيوية جديدة قادرة على رفد القصيدة ببوح شعري ينساب بين مفاصلها :
و لكن هنا بين الدجى المحموم و الإصغاء و الإصرار
تموت حياتنا الأولى و تنتسخ
و يزهو فوق تربتها دم آخر
هنا ... في رهبة الخندق
لنا بيت و بستان غني راسخ الأشجار
هنا عند اختلاط الجرح بالتربة
و نحن نقاوم الغيلان بالأحجار و الأيدي
ستعرف أننا فادوك، يا وطن
و أنا وحدنا من صلبك المشحون بالرعد" (25).
إلا أن الشاعر سرعان ما يقر بأن استشرافه هذا مجرد آمال لا يسندها شيء في الواقع الذي يسوده اليأس و العقم، لأن زمن البطولات ولى و لن يعود :
" و لكنا... و لكن، آه يا خجل العذارى من أبوتنا
يا خجلة الحفر
نخبئ في الوحل رؤوسنا...
ونكم وجه الشمس عن أطفالنا الحيرى
بألسنة نحاسية
و تحت الليل نسترخي و نخمده
لأنا لم نزحزح عن أرائكنا الحريرية
و لم نفقد حذاء صبي
و لا بتنا، و لو يوما، بدون عشاء " (26)
نعم إن المرارة و اليأس و الخجل هو ما يؤثث فضاء القصيدة عند علي كنعان، و هو ما يبث في ثناياها هذا الجو الغامر من عدم الجدوى و الفاعلية في إثارة النخوة و الإباء لدى الإنسان العربي الذليل وسط هذا الركام من الذل و المسكنة.
و الشاعر لا يقوى –  مجددا – إلا  على رسم لوحات قاتمة لتردي أحوال هذا الواقع  بفعل الهزائم المتوالية :
" خيول الفاتحين البرص تقتحم البطون على أجنتنا
تلوك قلوب نسوتنا و تشرب ما فيها...
و لا تروى !...
خيول الفاتحين البرص ترتع في مساجدنا...
محمد، يا محمد، يا محمد لو رأيت القدس
تحت نعالهم و المهد و الصخرة !
و لا يضرم النيران في أحلامهم إلا سرايا فتح
رجالك يا فلسطين
جسور يحملون فداك صلبانا من الفولاذ و النار
يختارون دربهمو –  محك الجيل –  بين النطع و الغار
أحييكم، و أخجل أن ترونا، يا صقور الساج
و نحن نجوس كالأشباح
نفتش في كهوف الشمع عن صيد رخيص الطعم
أو سلوى " (27).
إن الملاحظ في هذه الأشعار " أن الحزن أصيل و أن الفرح دخيل، و على الرغم من أن الرؤيا تتلون بالحزن، فإن ظهور الطرف المقابل لا يزيد من وضوح الرؤيا، إن لم نقل العكس . و لكن القارئ يجد نفسه أنه أكثر قناعة بالجانب المظلم من الرؤيا، و يحس أن الشاعر كان في ذلك أصدق مع نفسه و مع قرائه، فإذا سلط الأضواء المتفائلة، اضطربت الرؤيا من جهة، و غدت أقل صدقا من جهة أخرى، و انتقلت إلى خطابية تفر منها الجزيئات المعبرة الدقيقة و تتصدرها التعليمات الفضفاضة. و مع ذلك يظل الوجه المعتم هو السائد في كل أمثال هذه الأشعار، بل في معظم الشعر السوري المعاصر " (28).
و الملاحظ كذلك في مورفولوجيا " الشعر الستيني " في سورية أنه انتقل من الرؤيا التي تنبثق من موقف سياسي، إلى رؤيا عامة شمولية.
ففي ديوان علي كنعان : " حصاد الشمس " ترتبط الرؤيا بالسياسة عن طريق الكثير من الوشائج و الخيوط، و على الرغم من ذلك، لم يستطع الموقف السياسي أن ينقذ  هذه الرؤيا من الإحساس بالدمار الذي يتسع في كثير من الأحيان حتى يصبح دمارا كونيا :
" كرهت ما يبثه المذياع عن تمزق العرب
فحدثيني مثلما كنت تحدثيني يوم كنت لا أعي
و كفكفي من أدمعي " (29).
هكذا يعلن الشاعر يأسه من وحدة العرب، و يهرب من الواقع ملتجئا إلى أمه لتكفكف من دموعه، و تردد عليه أغنيات الطفولة الحالمة و حكاياتها.
إن خيبة الأمل هذه تكاد تغطي متن كنعان الشعري، و هي ناتجة – كما فصلنا فيه الحديث سابقا – عن هذا التناقض بين الأمل الطافح في بداية عهده بالكتابة الشعرية و تطلعه إلى مستقبل أكثر إشراقا و نضارة، و بين الخيبة و اليأس القاتل في خضم العصر الملعون، حيث عم الظلام  و اليباس.
يقول حنا عبود : " و لا تستطيع الصورة الكاريكاتورية لجيل أبي ضرس أن تخفي هذا الاشمئزاز أو تخفف منه. و بذلك يجمع علي كنعان بين الجدية و السخرية ، و الاهتمام  و القرف في قصيدة واحدة. فإدانته العصر جدية و صورة الجيل ساخرة، و من الجد          و السخرية تشعر باشمئزاز الشاعر و قرفه. إنه أكثر من متنكر للعصر، و أكثر من مدين له... إنه  قرف منه ، و القرف موقف يجعل العصر أكثر حقارة و ضعة من موقف الجد      و الإدانة و السخرية " (30).
و هكذا اتسعت دائرة الرؤى السوداء – ليس في متن علي كنعان الشعري فحسب، بل في متن شعراء الستينيات في سورية، لأن الصراع كان أكثر وضوحا و حرارة، فلقد جاء حكم الوحدة و اسقط القيادة السياسية الإقطاعية، و لكن الوحدة أجلت تجريد هذا الإقطاع من امتيازاته الاقتصادية حتى صيف 1961، عندئذ تحرك و ضرب الوحدة بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور قرارات التأميم، ثم تراكمت الهزائم و الخيبات بعد ذلك ، فانهارت تطلعات الجيل المتفائل الذي أصبح يدين  المسؤولين الحقيقيين عن هذا الخراب المدمر، و بدأت هذه الإدانة في الاتساع حتى شملت الذات نفسها.
و في ذلك يقول حنا عبود : " اتسعت دائرة الإدانة حتى شملت الذات نفسها، و لاحت صور الدمار المريع للشعراء كأنما دنت الساعة.... و لكن من غير قيامة الموتى. إنه يوم حساب لا أمل فيه، لأن العصر مفقود البراءة. إنه العصر الموؤود. " (31).
إلا أنه و مع ذلك، يجب أن نقر بأن اتساع دائرة الإدانة هذه عند علي كنعان و عند جيله، و الارتداد إلى الطفولة – القرية – الأم – الطبيعة هو نوع من الارتداد الرومانسي لدى أصحاب القصيدة الكلية. لقد كان الواقع أقوى من الذات بكثير، و ربما كان رفض الشعراء لواقعهم أبلغ احتجاج و أشد تأثير من الرؤى المذعورة و المغتربة عند أصحاب القصيدة الحديثة.
و شعر علي كنعان ظل معبرا عن هذا الواقع الذي طبع مرحلة الانتقال إلى أيديولوجيا الجماهير الكادحة، حيث نجده تقدميا  في مواقفه السياسية و مبادئه التي يجهر بها ، إلا أن رؤاه تهتز عندما يدخل دائرة التفاصيل. غير أن رؤاه هذه قد تطورت باتجاه اليسار بعد 1970.

الهوامش:

من شهادة الشاعر في الزاوية المعروفة ب " لا عتب " في مجلة " الطليعة " القاهرة عدد 12 كانون الأول 1969، ص 39.
علي كنعان : نفسه  ص 40.
نقلا عن حنا عبود : " الرؤى السوداء في الشعر السوري المعاصر " مجلة   "المعرفة"  السنة 19، عدد 217، مارس 1980.
نفسه
علي كنعان : من ديوان " أنهار من زبد " منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1970 ص 81 – 82.
علي كنعان : نفسه  ص 82 –83.
   "      "  : نفسه  ص 88 –89.
   "      "  : نفسه  ص 92.
حنا عبود : " الرؤى السوداء في الشعر السوري المعاصر"، مرجع مذكور                   ص 101– 102.
وفيق خنسة : " دراسات في الشعر الحديث " دار الحقائق للطباعة و النشر و التوزيع،   بيروت 1980، ص 146.
علي كنعان : " بلا عتب  في مجلة " الطليعة " القاهرة ص 69.
   "      "  : " أنهار من زبد " من قصيدة : " النعامة و الصقور" : ص 104.
    "     "  : الكتابة على جذوع الشجر القاسي " منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1974 من قصيدة بنفس العنوان ص 12.
علي كنعان : " أنهار من زبد " من قصيدة : " الغربة الثانية "  : ص 20.
   "      "  : نفسه  ص 21.
   "      "  : نفسه  من قصيدة : " النعامة و الصقور" ص 94 – 95 .
علي كنعان : نفسه  من قصيدة : " مرتبة أبي ذر " ص 23 .
   "      "  : نفسه  ص 30.
   "      "  : نفسه  من قصيدة : " في سوق النخاسة " ص 38 – 39 .
   "      "  : نفسه  من قصيدة : " طقوس ليلية " ص 13 .
   "      "  : نفسه
علي كنعان : نفسه  ص 15 – 16 .
   "      "  : نفسه  ص 17 .
   "      "  : " أنهار من زبد "  من قصيدة : " النعامة و الصقور" ص 94 – 95 .
   "      "  : نفس الديوان،  من قصيدة : " دنيا جديدة " ص 105 – 106 .
   "      "  : نفسه  من قصيدة : " النعامة و الصقور" ص 96 .
   "      "  : نفسه  ص 96 – 97 .
حنا عبود : " الرؤى السوداء في الشعر السوري المعاصر"، مرجع مذكور          ص 104  –  105 .
علي كنعان : " حصاد الشمس " من قصيدة : " أسطورة " ص 22.
حنا عبود : " الرؤى السوداء في الشعر السوري المعاصر"، مرجع مذكور ص 102
 "      "  : نفسه  ص 106.
د. امحمد برغوت أستاذ باحث  في الأدب الحديث