قراءة في شعر"أبو سلمى"...! - د. صلاح عودة الله

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس"أبو سلمى".. هو عبد الكريم سعيد علي المنصور الكرمي. وإذا كانت كنية "الكرمي" تنسبه إلى بلدته الفلسطينية طولكرم التي أنجبته ذات يوم صيفي من عام 1909، فإن مدينة حيفا كانت حبه الأثير. فهو محاميها الشهير، وشاعرها الوفي. وتقتضي الأمانة الموضوعية أن نشير إلى أنه اختار لحيفا ضرّة عربية هي دمشق. فقد درس فيها المرحلة الثانوية. ثم لجأ من حيفا إليها بعد نكبة 1948، وعلى كثرة أسفاره في الدنيا شاعراً ومعرّفاً بالقضية الفلسطينية، فإنه لم يغير عنوانه الدمشقي، حتى بعد أن أغمض عينيه إلى الأبد في الحادي عشر من الشهر العاشر للعام 1980 في العاصمة الأمريكية، بين يديّ ولده الوحيد، الدكتور سعيد الكرمي، الذي حرص على نقله، بناءً على وصيته، إلى دمشق، حيث شهدت العاصمة السورية، في وداعه، واحداً من أكبر مواكب التشييع في تاريخها، وبدت مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك وكأنها ساحة يوم القيامة. وكان أبو سلمى من أسرة علم وأدب. فأبوه الشيخ سعيد من العلماء الأجلاء واللغويين الثقات وكان عضواً مؤسساً في المجمع العلمي العربي. أما أخوه أحمد شاكر الكرمي فكان من الصحفيين العرب الرواد ومن وجوه الوطنية والقومية حتى أن دمشق أطلقت إسمه على أحد شوارعها. وبرز أخوه حسن الكرمي "أبو زياد" كراوية علاّمة، وحقق شهرة مدوية من خلال برنامج "قول على قول" الذي كان يعدّه ويقدمه بصوته من إذاعة لندن. ارتبط أبو سلمى برفيقة عمره، المناضلة رقية حقي في عام 1935وقد تم الزواج في مدينتها عكا. ولم ينجبا "سلمى" ولكنه كان ينادى بأبي سلمى، لأسباب شعرية، منذ أن كان يدرس في معهد عنبر أيام المرحلة الثانوية في دمشق. وقد شكل أبو سلمى مع إبراهيم طوقان وجلال زريق ثلاثياً ظريفاً في الحياة والشعر. ولا يزال الرواة يتناقلون شفوياً قصائدهم الماجنة المازحة بألفاظها المكشوفة، وكثيراً ما لا يميز الرواة، في هذا المجال، بين ما كتبه إبراهيم وما كتبه أبو سلمى.
قد يسأل متسائل..لماذا أبو سلمى الآن؟.. يَرِدُ هذا السؤال، حسب وضع السائل، إما بحثاً عن مدخل للكلام، وإما جهلاً بطبيعة الشعر. لأن أبا سلمى حاضر فينا، أو لأنه الوفاء، أو لأن الانتفاضة تعيد إنتاج أيام أبي سلمى في النضال.. وتأتي هذه الأجوبة، حسب وضع المجيب، إما لأنه لابد من جواب، وإما تماهياً للمغني مع الأغنية، وإما جهلاً بطبيعة الشعر.
 فالشعر، في جوهره، لا يتوسل مناسبة للحضور، حتى لو نجمت بعض القصائد عن بعض المناسبات. ولا يقبل الشعر وساطة بين مبدعه وقرائه بدعوى أهمية المبدع في الذاكرة التاريخية. فتلك الأهمية من شؤون التاريخ أو الأخلاق. وليس معنى ذلك إسقاط المغزى النبيل، أو الرسالة، أو الفكرة المركزية التي نذر لها المبدع جهده دماً وحبراً. ولكنه انتصار لشعرية الشعر، وإصغاء للنبض العميق المبرأ من الزوائد، والمرشح للبقاء..
 وقد بقي الكثير من شعر أبي سلمى. أو لنقل: إن ما بقي من شعره كافٍ ليبقيه إنساناً وشاعراً، مما يصالح بين الهوية والإبداع. فللرجل أهميته التاريخية، ولكن هذه الأهمية ما كانت لتحتل مساحتها في دفتر الإبداع، لو لم تكن مشفوعة بالشعر مستوفياً شروط الشعر.
 والآن، هل جاء دور الشعر؟ ليس للشعر دور، بل هو الدور الوحيد في العرض اللانهائي لشاعر خلدته فلسطين، إسمه عبد الكريم الكرمي كما جاء في بطاقة ميلاده.. وهو دائماً.. أبو سلمى..! حسناً فعل أبو سلمى، عندما قسم ديوانه الكبير حسب تاريخ النكبة: ما قبلها، وما بعدها. وليست هذه قسمة زمنية مجردة، بل هي لحظة حاسمة بين فصلين في ملحمة نوعية. لقد كان أبو سلمى شاعراً منشداً. وريثاً لتاريخ من القول الشعري الذي كانت تقام له أسواق مثل عكاظ والمربد. لكنه لم يتوقف عند هذا المقترَب السَّلَفي، بل طالت أنظاره وذائقته أشعار الفرنسيين الرومانسيين بلغتهم. وقرأ غوته الألماني وشكسبير ووردزورث وبليك الإنكليز من خلال الترجمة. فهو يعي أن للشعر دوراً في حياة الأمة. ولكنه يعي أيضاً أن الشعر شأن ذاتي. إلا أن المحامي الشاب المقرب من عصبة التحرر الوطني، والمحتفظ إلى ذلك بالجانب المنير من التراث، كان قد توحد بروح الجماعة. ففلسطين هي الحبيبة وهي القضية. ولن يضيرها أن تكون إلى جوارها ـ بل فيها ـ حبيبة من لحم ودم. فللحب وقت وللوطن كل الوقت. إنه ثائر، وفلسطينه حلم الثائرين.هذا ما قاله في القصيدة الأولى المثبتة في ديوانه، عندما كان لا يزال يدرج على أرض ذلك الحلم. فهو، والأمر كذلك، لم يكتب "عن" فلسطين بل كان يصدر عنها:فلسطين يا حلم الثائريـن فلسطين يا وطن الخالدين/ تنام على راحتيك النجوم وفجر الأمانيّ فوق الجبين. وهذا الكلام البسيط ليس مغرقاً في البساطة. ففلسطين الحلم في أول الكلام، هي وطن الخالدين الذين يحلم ويقتدي بهم الثائرون. وإذا كانت نجوم البيت الثاني تنبئ بالليل الهنيء، فإن الفجر هو مآل ذلك الليل المرتبط بالحركة والفعل، حيث النجوم تنام على الراحتين، فيما الجبين، وهو العالي، موئل للفجر المأمول. وقد لا يكون في هذا الكلام العادي ما يضاف إلى الإنجازات الشعرية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن ما يستوقفنا، عدا العلاقة العضوية بين الكلمات، و أن الشاعر الذي احتفظ من تركة التراث بنظام البيت الشعري الصارم، لم يهتم بما كان يسميه الأسلاف بيت القصيد، بل كان مشغولاً بالقصيدة كلها، بما هي وحدة موضوعية، تبلغ ذروتها الدرامية في محاكمة البطل الغائب، وهو هنا القيادة العربية الرسمية يوم ذاك:
لنــا دول ليتــها لــم تكــن مطايا وأذنــاب مستعمرين/ ونحن الذين نثور على الظلم والجهل والفقر في كل حين.  بهذا يكون الشاعر قد حقق معادلته التي خلقت مدرسة شعرية تسمى بشعر القضية. فالدول، بمعنى الحكام، أذناب ومطايا. والشعوب هي التي تناجز الظلم والظلام على المستويين الوطني والاجتماعي. وما دامت هذه سنّة المرحلة، فإن ضمير المخاطب بصيغة الجمع، وحروف النداء، وإرسال حروف المد، من ألف وياء وواو، في القوافي، ستكون هي أدوات الشاعر المدجج بأفعال الأمر التحريضية: مزقوا، إمسحوا، سيروا. ومن داخل هذا الخطاب الملتهب يمكن العثور، أحياناً، على نص غائب يجعل الحرية واحدة في العالم، فالفلسطيني الثائر في جبل المكبر عند القدس مدعو إلى تحطيم سجن الباستيل من جديد. ليس في فرنسا هذه المرة، بل في فلسطين، إنه باستيل مجازي يرمز للسجن والطغيان:
 جبل المكبر لن تلين قناتنا** ما لم نحطم فوقك البستيلا.
ويكاد هذا البيت يلخص مرجعية أبي سلمى الثقافية، فصيغة النداء المتبوعة بلين القناة هي لغة التراث. والباستيل هو من الرافد الثقافي. وليس هذا مجرد أسلوب، بل نظام حياة. فأبو سلمى المعتدّ بالتراث هو المتطلع إلى ما يجري في العالم.. هكذا نراه، في مكان آخر، يشير إلى محاكم التفتيش مستعيراً من أوروبا العصور الوسطى ما ينسحب على بعض العرب في القرن العشرين.. ومثل ذلك، في شعره، كثير.
 {mosimage}وإذا كان لكل شاعر قصيدة تنتسب إليه ويُنسب إليها، فإن قصيدته، قبل النكبة، هي من غير شك "لهب القصيد" ذات الأربعة والستين بيتاً، والتي ما إن قالها حتى شاعت في عموم فلسطين، وسرعان ما انتشرت في الوطن العربي الكبير. ساعد على ذلك إيقاعها السريع الذي واتاه مجزوء الكامل، وقافية الدال المكسورة مسبوقة بالياء الممدودة أو الواو. ووحدتها العضوية الموضوعي بحكم انضباط مسارها، على ما فيها من هياج وتحريض. مع وتيرة الغضب المتصاعد، إثر ثورة 1936 العظيمة التي توجها الشعب العربي الفلسطيني بالإضراب التاريخي الطويل المشهور. وأنهاها الحكام العرب بدعوة الشعب إلى الهدوء والركون إلى ثقة "الصديقة بريطانيا". فلم يكن ذلك الحدث الكبير مناسبة علق عليه أبو سلمى قصيدته الشهيرة، ولكن المناسبة ـ على أهميتها ـ كانت ذريعة لتفجير هذه الطاقة الشعرية المتساوقة مع غضب الشعب. إنها قصيدة حديثة، حتى وهي في بهائها الكلاسيكي، من حيث هي نشيد عام قادر على أن يشيع في الملتقى بوصفه زفرة شخصية. ولعل هذا ما يفسر صمود هذه القصيدة للزمن بعد عشرات السنين ووفاة الشخصيات الواردة أسماؤها فيها. وإذا صدقت نبوءة المتبني بتحويل الزمان إلى أحد رواة قصائده، فهذا هو شأن الشعر العظيم. إذ ليست الشكوى وحدها ـ كما وردت في قصيدة أبي سلمى ـ هي الباقية إلى الأبد الأبيد، بل الشعر بما هو شعر. ولكن هذا الشعر وهذه الشكوى قد تداخلا فإذا هما من جبلة واحدة: انشرعلى لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد/ شكوى يرددها الزمــــا ن غداً إلى أبـــــد الأبيد. 
وتمضي القصيدة لتعدد الملوك العرب. بالاسم وبالمشكلة التي يجسدها كل ملك، ولا تقف عند الحدث الطارئ، بل تجعل منه رمزاً له طابع الديمومة. فالعروش والسلاسل والقيود وأستار مكة والشطرنج والأصنام والسيوف الأثرية والدمية والنيل والشهيد هي أثاث هذه العمارة الشعرية التي تتضافر حجارتها مفردات وصوراً بما يحقق لغة عالية متعالية على المناسبة لتبقى في صميم السؤال. وإذا كان الملوك رموزاً للقصور ـ بالمعنى المزدوج المتاح من اللغة: المباني الفاخرة والتقصير الفادح الفاضح ـ فإن الشهداء يجولون في القصيدة رموزاً مضادة، مليئة بالحياة والتحدي:
قوموا انظروا القسام يشرق نوره فوق الصرود/ يوحي إلى الدنيــــا ومن فيهــا بأسرار الخلود.ومن القسام إلى الشيخ الشهيد فرحان السعدي الذي واصل قيادة الثورة ومضى إلى المشنقة بسنواته السبعين: يمشي إلى جبل الشهادة صائمــــاً مشي الأسود..!
 وبعد التفجع على الآهلين والمساجين والمنفيين والمشردين والأرامل والأيتام يخلص الشاعر إلى تشكيل صيغة واحدة تجمع هؤلاء في "الوطن الذبيح من الوريد إلى الوريد"، ولأنه مهموم بجرح الأمة كلها، فإنه يعرّج على مأساة لواء اسكندرونة الذي اغتصبه الأتراك من سورية فهو "نبتة حمراء من زرع حصيد" مبشراً بثورة شعبية هي ذروة القصيدة:
لا تصهر الأغلال غير جهنم الهول الشديد/ ووقودها أهل الكرامة من جحاجحة وصيد/يا نار لا تتظلمي وتقبلي شــرف الوقـــود.
وإذا كانت القصائد الملحمية الكبرى تتحول إلى خلاصات تختزل الحقب الزمنية، لتنتشر بعدها قصائد، من مادّتها، تضيئها وتعمق رؤياها. فهذا ما فعلته "لهب القصيد" التي يمكن أن ننسب إليها ـ إلى فئتها بالأحرى ـ مجمل قصائده الوطنية المكتوبة قبل النكبة، من إدانة لمغتصبي الحكم، إلى تمجيد للشهداء، إلى مواجهة العدو، إلى إيمان لا حدّ له بقدرات الشعب. 
جرح النكبة: جارح وأليم هذا التحول في صوت الشاعر. إن ذلك الحادي المغضب المجلجل في لهب القصيد، هو الذي ستكسره، ولو إلى حين، رؤية أبناء شعبه النازحين عن أوطانهم، حتى ليعترف: "ما على القلب إن بكى من جناح".. لكن هذا الأسى سرعان ما يتحول إلى وقود يحرق الغريمين التقليديين: العدو المباشر.. والحاكم الذي حل في شعبه محل المصيبة، فهو يذرف دمعة التمساح فيما هو المدان. على أن الملاحظ بوضوح ـ بعد النكبة ـ أن شعر أبي سلمى، وان لم يطرح عدّة الخطابة الملتهبة، قد بدأ يدخل في الحميم والهامس حتى عندما يتعلق الأمر بالوطن. إن قصيدة "ابنة بلادي" مثلاً، ما كانت لتجد لها مكاناً في شعر أبي سلمى، قبل النكبة. لا لانعطاف في الرؤيا أو انزياح عن الخطاب العام للشاعر، وإنما للحساسية الجديدة التي طرأت على ردود فعله. الآن لا هدير ولا صراخ. بل شجن عميق، واستغراق في الطبيعة، كأنما الشاعر يسترجع الأغنية والفجر والنهر الضاحك والشاطئ الغربي والألحان وصنوبر السفح، بديلاً موضوعياً للصرخة المغضبة المدعوة إلى الانفجار. وهذا لا يعني التخلي عن الثورة. فالثورة هي كلمة سر هذا الشاعر. ولكن الجديد هو لحظة انتباه إلى الذات بما فيها من مشاعر إنسانية مفردة. وبقليل من التأمل نرى أنه في هذا الوضع الحميم أقرب إلى الثورة إذا كنا متفقين على أن الثورة، وجودياً، تبدأ بالذات:
 أهواك في أغنيــــة حـــرة يخفق فيها الناي والمزهر/ في طلة الفجر على المنحنى يهفوا إليه الكرم والبيدر/ أهواك في شعبي وفي موطني فأنت لا أحلى ولا أنضر.
نلاحظ هنا أن أبا سلمى ـ وهو الشاعر المنسوب إلى التقليدية ـ قد سبق شعراء المقاومة الفلسطينية إلى مماهاة المرأة مع الوطن. ألم يقل له محمود درويش: أنت الجذع الذي نبتت عليه قصائدنا..؟
**هذا هو الجزء الأول من هذه القراءة..وللحديث بقية.
د. صلاح عودة الله
القدس المحتلة