في جدل ثقافة اليوم - محمد الأحمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس قال محي الدين ابن عربي: (كلُّ معرفة لا تتنّوع لا يعوّلْ عليها).
غالباً ما تكون الثقافة في حالة هشة بعد زوال إي نظام شمولي، لان النظام الشمولي قد عمق مفاهيمه ورسخها إلى حدّ بعيد في مساحة ليست بالهينة في أي بلد يفرض فيه، ولكن ذلك الأمر سرعان ما يضمحل ويصبح البلد أكثر ازدهارا في الحرية أولا ومن ثم ببقية المفردات. وذلك الصراع يبقى في حالة ديمومة وتواصل دليلا على إن الأمور سوف تسفر لاستقرار حالة طبيعية مرت بها اغلب مجتمعات كوكبنا الأرضي، والثقافة عبر أية قناة إعلامية كانت مطبوعة دورية كانت أو غير، حكومية كانت أو غير، فإنها تقبل التلاقح الثقافي، وتؤمن بالتعددية الثقافية، تكون أول القنوات الإعلامية نجاحا، وغالبا ما تكون قد استحوذت على اكبر جمهور، وأفضل نخبة، وصارت الأوسع انتشارا، ترتكز اولا على شرط بان يكون محررها مثقفاً، فتكون مطبوعته مهمة ومتنوعة بقدر ما يسمح به، سعة افقه، لكونه منتخباً جيداً لجديد الأفكار، ومتنوراً، يقرأ ما يصله بشفافية وحسّ عالّي، يعرف بأنه كقارئ يريد جديدا، كما يعرف بان قراءه اليوم فيهم من يقرا ما لم يقرأه المحرر، وغالبا ما يدرك المحرر بانه قد انزاحت من جدلية الأفكار اغلب منظومات الثقافة الشمولية، إذ صار بمقدور القارئ البحث عن من يضيف إليه، ولم يعد لديه المتسع من الوقت ليقرأ شيء يهدر به وقته، فالعصر الحديث صار متعدد النوافذ، وصار النوافذ الأخرى منتبهة وحازمة بشان الإمساك جيدا بفرصتها، وكسب ثقة المتلقي، ولم يعد المحرر، اليوم يفترض بان كل ما يكتبه يرضي فيه السواد الأعظم من جمهوره، فيكون دائما المبادر الأول في الجرأة، وفي تحسس القضايا المصيرية. فـ(إعادة ما قاله الآخرون يحتاج تعليماً؛ وتحديه، يحتاج عقولاً - ماري بيتيبون بول)، وغالبا ما تكون الحرية (لا تعني الحصول على ما يرغبه المرء، وإنما تعني عزم المرء على أن يريد من خلال ذاته- سارتر).. ففي كل الأزمان والأماكن، وعلى مدى التاريخ ثمة احتدام واضح بين الثقافي والسياسي، على الرغم من إنهما يجوبان في أفق واحد، والأول يريد أن يقنع بفكرته جمهوره دون إجبار والثاني يفرض فكرته دون أن يهمه جمهوره، وغالبا ما تحتاج الفكرة الجيدة إلى إيصال بشكل جيد، ولا يحتاج المثقف عادة إلى فرضها كما يحتاج السياسي إلى فرضها، لأنه يطلب لها مجالا حيويا لأجل أن تحيا فكرته، فالفكرة تحتاج إلى حرية، يصعب على السياسي تحقيقها. فما قاله رينيه ديكارت (1650-1596) بشكل لا يمكننا تغيره (أنا أفكر إذن أنا موجود)، كان يشمل بان الفكرة نتاج عقل ووليدة وجود، فلا يمكن أن توجد فكرة خالدة ما لم تولد من فكرة مدونة استند عليها العقل وتطورت، حيث أفكار الإنسان وحدها التي صارت المدونة هي التي تتواصل بالعطاء وتنير للإنسانية الكيفية للاستدلال إلى الفكرة الحية، والفكرة وليدة الفكرة.
فهذا التراث الإنساني وهذه الكتب التي تحوطنا من كل اتجاه ما هي إلا نتاج عقول وليس عقل واحد، والفكرة الراسخة تدحض الفكرة الهشة، وتحل محلها، تفرض ثقلها على متلقيها وتدخل في مناهج الدراسة لتكون ملكة بشرية تولد منها الأفكار الأخرى أو هي تقوم الأفكار الجديدة، والفكرة الميتة تنسى، وتهمل لأنها مبتعدة عن فعاليتها في الثبات، وهي لا تجد من يؤمن بها، وقد ارتبط التفكير المنطقي بالوجود الإنساني وما يخلفه العقل البشري هو ثباته الراسخ، وأثره العميق، ولم نكن يومها نعرف بان الإنسان يصرع الإنسان من اجل فرض المنهج، وبقي الجدل الثقافي قائماً ما بين المثقف الذي يريد أن ينهض بما هو ثقافي، ويريد له أن يسود خلال منبره، وبين السياسي.. الأول مساحة انتشاره في إقناع جمهوره، والثاني مساحة انتشاره في فرض فكرة بواسطة ما يملك من زمام، وتكون لعبة إثارة أسئلة وكيفية الإجابة عليها، كل منهج بمنهجه، فـ(يمكن للعمل الفني أن يستهلك فقط، أو ينتقد، ويمكننا أن نعجب به أو نرفضه، ويمكننا التمتع بشكله، وتأويل مضمونه، وتبني تأويل معترف به أو نحاول تأويله من جديد- هانزروبيرجوس)، ويكون المتسلط بهمّ واضح يريد ان يستحوذ على جمهوره المثقف، بغرض واضح وفقا لما يعمل به، وهذا الجدل يرتقي بالمشاريع الثقافية إلى ما هو أشبه فشل عام في المرفق الثقافي المطروح، حيث وصلت بنا الأيام إلى أن نكون أو لا نكون بين تلك الاحتدامات، فالمثقف قد وصلت أفكاره إلى أقصى أماكن الأرض، وصار جدله يلاحق عليه من أقاصي الكون، وصار الانترنيت يوصل المعلومة والطرح الثقافي في ساعته، وصار على المثقف ان يجد لنفسه مكانا صحيحا ويحافظ على صور جديدة بمادة جديدة وطروح جديدة اقرب إلى (زحزحة أبستمولوجية اقرب إلى قطيعة ثقافية- رولان بارت)، وتبدلت الأيام إلى أن الفكرة الجيدة لا تحتاج إلى فرض الكيفية للحفاظ عليها، ولكن بمضمونها النبيل سوف تفرض ذاتها، ولها البقاء بأسئلتها المصيرية التي تحتاج إلى كيفية طرحها تفلتاً من التكفير؟ فالدورية الثقافية كأعمدة تمس الصميم بلا مناورة، كون المثقف هو من يحمي المثقف ويدافع معه عن حرية الفكرة.
الأحد، 30 كانون الأول 2007