الوجه الثّقافي لفلسطين - د. عزالدّين عناية*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس "مئة سنة من الثّقافة الفلسطينية"، كتاب يميط اللّثام عن وجه آخر لفلسطين، ويحوّر زاوية النّظر من السّياسي إلى الثّقافي، صدر هذه الأيّام بروما عن دار نشر "كاروتشي"، من تأليف أستاذة الأدب العربي بجامعة لاسابيينسا إيزابيلا كاميرا دافليتو. يأتي الكتاب والقارئ الإيطالي والغربي عموما، في حاجة ماسّة إلى لفت انتباهه نحو الواقع الثّقافي في فلسطين، وتحرير مخياله من هيمنة السّياسي. ففلسطين سُيِّسَت بشكل مفرط، الأمر الذي طمس أوجها في غاية الأهميّة، فنيّة وأدبيّة ودينيّة.
فضْل كبير لمؤلّفة الكتاب، المترجمة أيضا، على مدى مسارها الأكاديمي المثمر، في تعريف الإيطاليين أن العرب يكتبون الرّواية والقصّة والقصيدة. فمن مساعيها العاثرة التي روتها لي في نشر الثّقافة العربية، أنها قصدت يوما ممثّلية دبلوماسية لدولة عربية، تهدي العاملين فيها ترجمة لأحد أدبائهم، وطمعا في أن يساهموا باقتناء بعض النّسخ من العمل المنجَز، يهدونها لزوارهم وأصدقاء بلدهم تعريفا بثقافتهم. فما كان من المسؤول الأوّل إلاّ أن سوّفها بكلمات ولم يعر الرّواية أي اهتمام.
  ربطتني منذ سنوات صداقة وزمالة بإيزابيلا، سمحت لي بالتعرّف عليها عن قرب. ولم أخش عليها يوما مثلما خشيت حين صدحت في حشد غفير من المثقّفين والطلاّب والأساتذة، في جامعة الأورينتالي بنابولي، في معرض شهادة عن الأدب العربي: "أحبّ فلسطين وأناصر نضال الفلسطينيين، أحبّ من أحبّ وكره من كره، فهذا البلد الأسير قدري". حينها كانت الأجواء مشحونة بالعداء والتربّص للعرب والمسلمين ولمن يناصرهم، يذكيها صاحب كتاب "تحيا إسرائيل"، الصّحفي المصري مجدي علاّم، باتهام أساتذة الجامعات في أقسام الإسلاميات والاستعراب في إيطاليا، بمساندة "الإرهاب الفلسطيني" بما يروّجونه من دعم لثقافة الكاميكاز.
كتابنا الذي نعرض له، يتابع رحلة تخندق الفلسطينيين حول الثّقافة حتى يحافظوا على هويتهم في مواجهة المسخ المسلَّط عليهم. وعى الفلسطيني ذلك منذ فترة ما قبل النكبة وأثناءها وبعدها. وهو ما تابعت المؤلّفة تجلّياته الثقافيّة منذ الإرهاصات الأولى للشّعور الوطني الفلسطيني على أعمدة الصّحف.
فقد تلازم نحت هوية الفلسطيني الثّقافية مع ارتباط وثيق بالمشروع النّهضوي العربي. لم يبق الفلسطيني رهين إشكالياته ومحنه، بل وسّع دائرة اهتمامه إلى مجالات أرحب، تجلّت في المساهمة الفعّالة للكتّاب والمترجمين، في تعريف العرب بالإنتاجات العالمية المنقولة من اللّغات الأوروبية، لعلّ من أبرز هؤلاء خليل بيدس (1874-1949) وأحمد شاكر الكرمي (1874-1937) وعادل زعيتر (1897-1957).
تعود تلك الرّيادة في الترجمة إلى القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث كان التزاحم على أشدّه بين المدارس التبشيرية، التابعة لفرنسا وأنجلترا وروسيا القيصرية في فلسطين.
{mosimage} كانت تقدّم المنح للطلاّب، بغرض أدلجتهم خارجا وإعادتهم لفلسطين. الأمر الذي جعل الفلسطينيين يطلّون مبكّرا على الفكر الغربي. ومن القصص الطّريفة التي روتها صاحبة الكتاب أنّ أحد هؤلاء المترجمين المسمّى بندلي صليبا الجوزي (1871-1942)، جرى إرساله لروسيا لغرض تعميق دراساته في اللاّهوت الأرثوذكسي ليرسم عند عودته كاهنا، غير أن الشّاب أغوته الماديّة التاريخية فتحوّل إلى داعية للماركسية. وقد قضّى الرّجل بقية حياته بأذربيجان مدرّسا بجامعة باكو، ترجم على إثرها عشرات المؤلّفات من الرّوسية وإليها. كان من أوائل المنتقدين للاستشراق الغربي بكشف تواطئه مع الآلة الاستعمارية. سبق تفصيلات إدوارد سعيد بقرابة نصف القرن.
عالجت عديد المؤلّفات الغربية أوجها من الفكر الفلسطيني، غابت من جلّها المتابعة الشّاملة. ولذلك يأتي عمل إيزابيلا مسحا على مدار القرن، تحتاجه المكتبة الغربية. من الإرهاصات الأولى قبل النّكبة إلى الفترة التي تلتها، إلى الأعمال المنتَجة أثناء النكسة، إلى أدب المقاومة وأدب الانتفاضة. مبرزة أن الأدب الفلسطيني المقاوم لم ينحدر بالكلمة إلى الإسفاف والابتذال ولم يضر المقصد بالإطار الفني. ومن أبرز الوجوه في ذلك الحقل نجد غسّان كنفاني سابقا ومتوكّل طه حاضرا. ولم يغب عن المتابعة أيضا العمل الفني، بأوجهه المسرحيّة والسّينمائية والتصويرية.
في فصل خاص تعالج إيزابيلا ما تسمّيه "فلسطينيون-إسرائيليون" أو "عرب إسرائيل". تقول أنه برغم أسرلة هؤلاء فقد بقيت فلسطين هاجسهم الأوّل. تثير المؤلّفة موضوع تعامل كتّاب عرب 48 مع اللّغة العبرية. فجرّاء نشأة العديد منهم في إسرائيل تيسّر لهم الإلمام بالعبرية، مع ذلك بقيت تلك اللّغة مع كثير منهم لغة مطالبة بالحقوق ومنافحة للخصم لا لغة إبداع فكري، وإن اختارت قلّة ضئيلة العبرية للكتابة، فإن حضورها بقي هامشيا في السّاحة الثّقافية الفلسطينية.
تخلص المؤلّفة في حديثها عمن يكتبون بالعبرية إلى مقارنتهم بعرب شمال إفريقيا ممن يكتبون بالفرنسية، داعية إلى استيعابهم في حضارتهم العربية، لا تهميشهم أو تناسيهم. لأن الكاتب العربي مهما تأسرل يبقى مرفوضا وغير أصيل وتلك حالة عطاءالله منصور (1934) وأنطون شماس (1950). علما أن جلّ هؤلاء ممن ينتمون للأقلية المسيحية والدروز، ويندر أن يتواجد مسلم بينهم.
خلال السّنوات الأخيرة سال حبر غزير في الغرب عن فلسطين و"الجهاد" كاد أن يضمحل فيه الحديث عن فلسطين و"الاجتهاد".
-----
* د. عزالدّين عناية جامعة لاسابيينسا روما.