توظيف الجنون في الكتابة الروائية - محمد بقوح*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس 1- تعريف الجنون:
يتميز الجنون كمفهوم عام ، بكونه يعبر عن وظيفة دلالية مركبة، بشكل يجعلها تحيل على مرجعيات مختلفة و متعددة ،ترتبط بطبيعة البيئة الاجتماعية و الثقافية التي ظهرت  فيها . و يتم العامل مع ظاهرة الجنون ، حسب مستوى الوعي الذي وصل إليه كل مجتمع .
1-1الدلالة الدينية
تكتسي هذه الدلالة طابعا دينيا واضحا ، نظرا لتركيزها القوي على التصور الغيبي لمعنى الجنون . فمفرده جني ، و يدل في القرآن الكريم ، على كائن لامرئي ذي طبيعة نارية ، يقول تعالى : (و خلق الجان من مارج من نار )1،لهذا فالجن هو (نوع من العالم ، سموا بذلك لاجتنابهم عن الإبصار )2، أي لاختفائهم عنها .
و يشير لسان العرب في موضع آخر ، إلى دلالة الاختفاء هذه المرتبطة بلفظة الجنون، فيقول : (جن الشيء يجنه جنا : ستره ، و جن عليه الليل : ستره ، و جن الليل و جنونه وجنانه : شدة ظلامه )3.
إن مفهوم الجنون ، من الناحية اللغوية، لا يخرج إذن عن إطار دلالة الغيب و الاختفاء و التستر المطلق بصفة عامة .هذه الدلالة الدينية التي تفرض علينا أن نقول ، في نفس السياق و بتعبير مختلف ، أن المجنون ، و هو الشخص المصاب بالجنون ، في عرف الفهم العربي و الإسلامي ، الذي هو في عمقه و شكله ، فهم تراثي و تقليدي يعكس مستوى الوعي العام الذي يسود في مجتمعه، بحيث يعتبره ذلك الشخص الغائب و المختفي و الدائم التستر ، في واقع مادي محسوس و طبيعي .لكن بأي معنى نفهم دلالة الغياب و الاختفاء المرتبطتين بظاهرة الجنون؟

-2-1الدلالة النفسية

تركز المعاجم اللغوية ، و بعض الكتابات العلمية و التحليلات النفسية الحديثة، في تفسيرها لظاهرة الجنون ،على التصور الذاتي و المرضي ، بحيث تنطلق في كل ذلك من معطيات تجريبية و آليات علمية صرفة، تعتبر الظاهرة حالة نفسية يمكن تفسيرها ، و بالتالي معرفة العلاج العلمي المناسب لها .

فجاء في المعجم العربي (جن جنا و جنونا ، زال عقله ، أو فسد ، فهو مجنون ، ج مجانين )4.أما المعجم الفرنسي فيشير إلى أن المجنون le fou هو ذلك الشخص المصاب بالاضطرابات النفسية و الاختلاط الذهني 5 ، أما الكاتب الفرنسي فولتير فيعرف ظاهرة الجنون بكونها من الأمراض التي تصيب أعضاء الذهن البشري 6.


2- أنواع الجنون
يمكن التمييز بين نوعين أو شكلين أساسيين دالين و سائدين لمفهوم الجنون ، كظاهرة تخص البشر : فمن جهة ، هناك شكل سلبي يمكن نعته بالمأساوي  dramatique ، و يتسم بكونه غالبا ما يصيب الأفراد ، لأسباب سوسيو اجتماعية و ثقافية ، ليس هذا موضع طرحها الآن ،و من جهة أخرى ، هناك شكل إيجابي يمكن تسميته بالنقدي critique ،عرف عنه مسه لأفكار الشخص دون جسده ، بحيث أن مرضه يتجلى على مستوى الأفكار و المعارف التي تشبع بها ذلك الشخص ، الشيء الذي أحدث لديه نوعا من فقدان التوازن العقلي ، لينعكس ذلك كله سليا على الجانب النفسي و الشخصي للمريض 7.و يصيب هذا النوع من الجنون غالبا المفكرين و الفلاسفة المعروف عنهم الاستعمال المفرط لقدراتهم العقلية ، و بالتالي التمادي بشكل كبير في عملية التفكير الحر، و إعمال العقل الخالص بطريقة عميقة في التجريد .نستحضر هنا الفيلسوف الكبير نيتشه ،الذي كتب أروع و أنجح كتبه في حالة جنونه ، و من بينها "هكذا تكلم زرادشت".

2-1- الشكل المأساوي للجنون
يذهب ميشيل فوكو في كتابه HISTOIR DE LA FOLIE A L’AGE CLASSIQUE إلى أن ثمة علاقة موجودة بين الشكل المأسوي للجنون و شكله النقدي ، بحيث أن كليهما يرتبط بعنصر أساسي و هو أن صحب الحالة ، في الشكلين معا ، فاقد للتوازن الطبيعي و الواقعي ، غير أنهما يختلفان كثيرا في نوعية و دلالة هذا الذي سميناه بفقدان التوازن :الشكل المأساوي للجنون يجعل صاحبه يعاني ويلات المرض ، المتجلي على مظهره الصحي و الجسدي ، و بالتالي النفسي و الذهني ، في المقابل ينفصل بالفعل صاحب الشكل النقدي للجنون عن واقع الناس الطبيعي و خاصة الاجتماعي  ،إلا أنه يرقى بتفكيره إلى مستوى عال و درجة قصوى ،ليتمكن نتيجة لذلك ، من تحصيل معرفة خاصة به ينظر من خلالها إلى عالمه الخارجي .إذن صاحب الشكل الأول محاصر داخل دائرة الألم ، في حين يمكن اعتبار كذلك صاحب الشكل النقدي محاصر، لكن داخل دائرة لا حدود لها ..، هي دائرة المتعة الغريبة إذا صح التعبير .
على العموم يرتبط الشكل المأساوي للجنوني بالملمح الانفعالي و المرضي ، و لايملك المصاب به أية قدرة على إنتاج ما هو معرفي ، كما أنه بعيد كل البعد عن قول الحقيقة ، أو محاولة اكتشاف إحدى مظاهرها المهيمنة في مجتمعه .إن شخص الفرد المصاب بالجنون المرضي شخص يوجد في وضعية انفصال تام عن الواقع المحسوس ، الاجتماعي و الطبيعي ، الذي يعيش فيه ، و بالتالي فوجوده مرتبط بحياة دون وعي و لا ذوق و لا إحساس ، هي حياة اللانظام و الفوضى التي يعكسها مظهره الجسدي ، وتصرفاته و أفعاله التي يطبعها الانفعال و الارتباك و الخوف ،أما من ناحية عباراته اللغوية و أفكاره ، فهي لا تقل غرابة و غموضا و تناقضا عن واقع حياته المتأزم .لهذا فكان ميشيل فوكو، الذي درس ظاهرة الجنون في كتابه السالف الذكر، من الناحية العلمية و الفلسفية و التاريخية ،  قد سمى هذا النوع من الجنون بالجنون الأحمق la foule folie ،لكون المصاب به فاقد لكل ما يمكن أن يربطه بواقعه المادي المحسوس ، و من تم ؛ فهو بذلك يمكن أن يتلفظ بأي شيء يتبادر إلى ذهنه ، و أن يتصرف بطريقة يفقد السيطرة على أفعاله و سلوكياته ، سواء مع نفسه ، أو تجاه غيره ممن يعيشون في محيطه .
2-2 - الشكل النقدي للجنون
في المقابل ، يتميز الشكل النقدي للجنون بمحتواه الإيجابي ، بالمعنى النقدي و الفعالية الفكرية الموظفة ضد كل ما هو مألوف و سائد و مهيمن ، سواء كان قيما أو أنظمة أو أفكارا .إن الشخص المصاب بهذا النوع من الجنون ، و الذي لا يعتبره فوكو مريضا ، يموضع  نفسه ضد التقليد و التسلط في المجتمع ، و ينتصر لقيم التغيير و التطور و الإبداع . لهذا فهو جنون من نوع نقدي كما ذكرنا سابقا ، و يعتبر صاحبه نفسه صاحب قضية و رسالة ، هي أنه يقف ضد البؤس و الفقر و الظلم ، و يدافع عن الحق ،و ينشر الحقيقة و العدالة بين الناس .
هكذا نلاحظ أن ظاهرة الجنون ، في هذا السياق الجديد ، مرتبطة بإحدى وظائف إعمال العقل و التفكير الحر .لهذا ليس غريبا أن نجد فوكو يصف المجنون، بمرجعيته النقدية ، بكونه رجلا حكيما و فيلسوفا و نبيا . إذن الجنون  بهذا المعنى ، و بشكله النقدي ،الذي نحن بصدده ،  ظاهرة تصحيحية و مطلوبة في أي مجتمع يعيش أزمة قيم إنسانية ، باعتبار أن هذا الشخص المجنون يعبر ، مستعملا اللغة النقدية الجريئة  ، عن مواطن الاختلال و بؤر الضعف في المجتمع ، و بالتالي ، فهو يمثل هنا الوعي الممكن و الحقيقة المطلوبة في واقع اجتماعي متخلف و محاصر بكل أشكال السقوط و الرداءة .إنه صوت التأسيس الفعلي للبحث و الاجتهاد ، و الاكتشاف المتواصل  لقيم التقدم والحضارة و الحقيقة البشرية العادلة المنفتحة على الغد / المستقبل .
ولقد أدرك المفكر الفرنسي رولان جاكار أهمية هذا الجانب الحيوي و الأساسي في ظاهرة الجنون ، فأورد ضمن بحث له عن هذه الظاهرة ، ارتباطا بموقف الأديب المغربي الطاهر بن جلون ، المعروف بتوظيفه الجيد للبعد النقدي للجنون ، في العديد من أعماله الروائية ، نذكر من بينها روايته المتميزة ، المكتوبة بالفرنسية ، moha le fou moha le sage ، بحيث اعتبر جاكار الشخص المجنون "هبة"أو بتعبير آخر مبعوث من الله لتصحيح الأخطاء ، و مواجهة الذين يقودون زراعتها في المجتمعات 8.
3- الرواية و الجنون ..أية علاقة ؟
لقد حظي هذان الشكلان الجنونيان ، اللذان تحدثنا عنهما سابقا ، بحضور قوي و بارز في العديد من الكتابات الأدبية ، سواء على المستوى العالمي أو العربي ، و بصفة خاصة ما يتعلق بالكتابات الروائية ، لارتباطها كجنس أدبي ، منذ نشأتها الأولى ، وعلى مسار تطورها الفني و الدلالي عبر التاريخ الأدبي الحديث،بكل ما هو يومي و تفصيلي في تجربة الإنسان داخل مجتمع ما ،من جهة ، و بسبب اهتمامها الأساسي في تنظيماتها الفضائية و بنائها الفني و الدلالي و الجمالي السردي بعنصر الشخصية الروائية ، من جهة أخرى ، كمكون من المكونات المركزية التي يتم استثمارها و توظيفها دلاليا من قبل الكاتب ، بربط تلك الشخصية أو مجموعة من الشخصيات الروائية ، بحالة من الحالات الجنونية ، التي درسنا بعض ملامحها العامة ، جاعلا تلك الشخصية الروائية "المجنونة" ، المراد تحليلها و البحث في أبعادها أدبيا و اجتماعيا و سياسيا ،انسجاما مع هوية النص الروائي الأدبية و اختيارات الكاتب الفكرية و الثقافية .لهذا فتلك الشخصية المعنية إما أنها تتبنى مواقف و قيم إنسانية نبيلة ، نظرا لارتباطها الجدلي بموقع اجتماعي يفرض عليها أن تنتج تلك المواقف الثورية مثلا ،و أن تخوض بقوة كل أشكال الصراع السائدة في المجتمع ، سواء منها الرسمية المؤسساتية ، أو ذات البعد التقليدي المتوارث .
هكذا تكون هذه الشخصية الروائية "المجنونة" ، و كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، موظفة و مشغلة من لدن الكاتب مستخدما منظورا نقديا لمفهوم الجنون . في حين يمكن لهذا الأخير أن يختار الإلقاء بإحدى شخصياته الروائية إلى خضم أحداث و مواقف ، ذات تأثير سلبي و ضاغط على مستوياتها الإدراكية و النفسية و الوجدانية ، يجعلها كل ذلك أن تعيش صراعا داخليا ينتهي بها إلى ما سميناه بحالة جنونية مأساوية و مرضية .
من هنا يبدو واضحا أن أهم مجال ثقافي يلتقي فيه خطاب الرواية مع خطاب الجنون هو المجال النقدي للقيم السائدة ، و التنبؤ المستمر بتفاصيل المستقبل القريب أو البعيد ، و دعم ما هو معرفي و عميق الرؤية ،بالإضافة إلى استناد هذه العلاقة القوية يبن الخطابين إلى عنصر الحلم الجاد و الرغبة العنيفة ، أحيانا ، في تغيير ماهو قائم و مهيمن و شائع بين الناس ، و تحقيق ما هو جديد و مختلف ، بخرق المعايير و كسر الأركان و القواعد البالية ، و تعرية وجه الحقيقي في المجتمع ، بإسقاط الأقنعة و زيف الشعارات و العلاقات التقليدية و الخطب، و المواقف الكاذبة و الصورية ...حتى و إن كان كل ذلك برموز روائية مستفزة، و بلغة مباشرة لشخصية روائية "مجنونة" حالمة جريئة ..
هكذا يقترب عندنا دور المجنون (الروائي أو الواقعي ) بدور الداعية الحكيم ، و الفيلسوف و الشاعر و النبي ..و الوعي الممكن.
و لعل من أهم الكتاب الروائيين العرب الذين بحثوا بعمق و اشتغلوا بإسهاب على تيمة الجنون ، بالشكل الذي درسناه و حللناه ،هو عبد الرحمان منيف ، و خاصة في خماسيته المتميزة بنفسها الملحمي و التاريخي :مدن الملح . و المجال هنا لا يتسع للخوض و التدقيق في الحديث بالتفصيل عن أبعاد و ملامح الحضور المكثف للشخصية الروائية "الجنونية" في هذه الخماسية ، خاصة في عمله التيه ، الذي كان متعب الهذال ، الشخصية الروائية المجنونة ، بطلها المركزي و الأسطوري ، ضد تواجد مصالح سلطة الحكام المحليين من جهة ، و ضد الاحتلال الأجنبي الظالم لبلدته التي هي هويته :وادي العيون ، من جهة ثانية.
4- خاتمة تطلب الجنون الروائي ولا تقصيه..
ثمة فرق أساسي ، لابد من الإشارة إليه ، بين كيفية التعامل الروائي مع ظاهرة الجنون ، هذا التعامل الذي يتأسس على عنصر التشغيل و التوظيف الإيجابي الدلالي و الرمزي ، الهادف إلى التعبير النقدي عن واقع اجتماعي مترد قيميا ، مع التأكيد على أن الشخصية الروائية المجنونة تستخدم هنا كأداة و شكل من أشكال الرفض و الصراع ضد سلطة التعسف و سيطرة القيم النفعية و السلبية . كما أن هناك تعاملا آخر يعتبر المجنون ، كيفما كان نوعه شخصا مريضا ، و مصدر كل  شر وخطر. لهذا يجب التخلص منه ، و عزله داخل المصحات و المستشفيات ، من أجل دفعه و تجنب خطره .
غير أن هذه النظرة ، كما سبق أن حللنا بعض معطياتها ، تبقى ناقصة و غير مجدية ، بالنسبة إلينا على الأقل ، لأنها نظرة تلمح و تعترف فقط بالوجه الواحد و الظاهر لمفهوم الجنون ، الذي يستدعي التعامل العلمي معه طرح السؤال حول الأسباب الحقيقية ،التي أدت بشخص معين ما إلى حالة الجنون .؟ و هو سؤال يلقي بظلاله إلى الخوض في البحث العلمي و السوسيو نفسي و ثقافي بخصوص تلك الظاهرة .لأن ذلك الشخص ، واقعيا أو روائيا ، كان قبل إصابته بالجنون شخصا سويا و طبيعيا ، ثم فجأة تغيرت أحواله النفسية و الجسدية ، و أصبح مريضا أو ثوريا و غاضبا عنيفا ..و هو نفس السؤال الذي تحاول النصوص الروائية البحث في أبعاده ، بالتوصيف السردي و الإشارة الرمزية و الإيحائية ، و من تم الإجابة عنه ارتباطا بالمنظور الفكري و الثقافي ، الذي يتبناه الكاتب انسجاما مع قناعاته و اختياراته الثقافية و الجمالية و السياسية كما هو واضح في كتابات عبد الرحمان منيف الروائية .
محمد بقــــوح
قاص و باحث
الهوامش
سورة الرحمان ، الآية 14.
لسان العرب ،ابن منظور ، مادة جن .
نفسه .
المنجد في اللغة و الإعلام ، ص 102
histoire de la folie à l’age classique ,Michel FOUCAULT , tel gallimard ,p 226
نفسه ، ص38.
La folie , Roland jaccard ,que sais je , p 25.
مراجع الدراسة
القرآن الكريم ،رواية ورش ،دار الفكر ،البيضاء .
لسان العرب ، ابن منظور ، مادة جن .
المنجد في اللغة و الإعلام ، دار المشرق ، ط 24،بيروت .
Michel Foucault ,histoire de la folie à l’ age classique ,tel gallimard , luis .
Roland jaccard ,que sais je micro robert p 452 Micro robert ,le Robert 1971 ,Paris .
---

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟