قوة الحب في القصة المغربية الجديدة- محمد سعيد الريحاني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسقراءة عاشقة لنصوص "أنطولوجيا الحب"
تمهيد: 
"الحاءات الثلاث" مشروع إبداعي وتنظيري يهدف إلى التعريف بالقصة المغربية القصيرة عبر ترجمتها للغة الإنجليزية ثم نشرها ورقيا باللغتين العربية والإنجليزية، كما  يتقصد التأسيس لمدرسة مغربية قادمة للقصة القصيرة من خلال المشترك المضاميني والجمالي المُجَمَّعِ  بين النصوص الخميسين للكاتبات والكتاب الخمسين المشاركين في المشروع الأنطولوجي والموزعين على ثلاثة أجزاء:"أنطولوجيا الحلم المغربي" و"أنطولوجيا الحب"  و"أنطولوجيا الحرية ".
ومواكبةً لنصوص الكتاب المحتفل بهم، أسَّسْنَا وواظبنا على تقليد أدبي انطلق مع الجزء الأول "أنطولوجيا الحلم المغربي" وذلك بإعداد قراءة " عاشقة"  للنصوص المشاركة توضح المنظور الذي على ضوئه ستترجم النصوص كما تعمل على تقريب النص للقارئ من خلال تسليط الضوء على المشترك الجمالي والمضامين الذي يبحث بين شتات النصوص الخمسين عن الخيط الرفيع القادر على المساهمة في تصميم النموذج القصصي للكتابة الغدوية ولكتاب الغد.
ولأن هدف المشروع الأنطولوجي الحالي هو التأسيس لقصة قصيرة مغايرة، فقد كان من باب الانسجام مع الخطاب أن تكون القراءة الموازية له قراءة "عاشقة"  وليس قراءة "نقدية"  نظرا لارتباط الأولى، القراءة "العاشقة"،    بالانتماء للنص بينما تلتزم الثانية، القراءة " النقدية"،  المسافة اتجاه النص. ولذلك تبقى  القراءة "العاشقة" رفيقة مراحل التأسيس عبر كل عصور التاريخ التنظيري والإبداعي بينما تأتي  القراءة "النقدية"  بعد توفر التراكم وتنامي الإرث وذلك لتشذيب الخطاب وتقوية خط الإنتاج الإبداعي وعقلنته.
 II  – الحب في أنطولوجيا العاشقين المغاربة:  
 تتوزع نصوص "أنطولوجيا الحب" بين ستة محاور يتدرج فيها  مفهوم الحب "تنازليا" من:
أ * الحُبُّ أسطورة جميلة.
ب* الحُبُّ رؤية للوجود.
ج* الحُبُّ ذاكرةً سعيدة.
د* الحُبُّ مُخَلّصاً من ورطة الحاضر.
ه* الحُبُّ مُتَخَلّى عنه.
و* الحُبُّ مَيّتاً.
وتبعا لذلك تتدرج نصوص الأنطولوجيا من نصوص الحب الأسطوري المنتصر لقيم الحب النبيل  في نص "كيوبيد والشيطان" لمحمد فري و نص "تانيت" لفتيحة أعرور و نص "عاشق أخرس" للحبيب الدايم ربي؛  إلى نصوص الحب الصوفي القائم على التوحد بالإرادة والحبيبة  والكون كما في  نص "حب" لأحمد الفطناسي و نص "عاشق" لمحمد سعيد الريحاني و نص "لازمة المحنة" لمحمد اشويكة ونص "من السماء إلى الأرض" للتيجاني بولعوالي؛ إلى نصوص النوستالجيا والحنين لماضي الحب السعيد كما في  نص "أحلام طاميزودا" لإدريس الصغير ونص "إيقاع الدائرة" إسماعيل غزالي ونص "قبلات" لمحمد نبيل؛ إلى نصوص السعي للخلاص بالحب من  ورطات الحاضر كما في  نص "حبيبة الشات" لعبد الحميد الغرباوي و نص "قصة حب" لسعاد الناصر(أم سلمى) ونص "هاجس الحب" لمحمد التطواني؛ إلى نصوص لا جدوى الحب في المحيطات  غير السليمة كما في  نص "عاشق من زمن الحب" لهشام بن الشاوي ونص "حب على الشاطئ " لهشام حراك ونص "ومضة" لزهور كرام؛ وتختم الأنطولوجيا العاشقة جولتها بنصوص التيه العاطفي  والمأزق الوجودي وموت الحب كما في  نص  "حالة شرود" لرشيدة عدناوي، نص "الوشم" لنهاد بنعكيدة،  ونص "هي والسكين" لسعيدة فرحات، و نص "بلا عنوان" لأسماء حرمة الله ثم نص "ولادة" لوفاء الحمري.

III - قراءة لنصوص "أنطولوجيا الحب":

1.  محمد فري،"كيوبيد والشيطان":

هذا النص هو أحد أقصر النصوص المشاركة في  " أنطولوجيا الحب"، الجزء الثاني من "الحاءات الثلاث" مختارات من القصة المغربية الجديدة،  لكنه استطاع بمهارة التركيز والتكثيف الإمساك بأهم قوى الحياة والفعل في الوجود برمته: الخير والشر. ولأن هاتين القوتين متضاربتان ومتصادمتان فقد صار النص ذاته ساحة معركة بالسهام بين كيوبيد، ملاك الحب، والشيطان، سَيِّد الفتن:

» - " أنت أيها الطفل الغرير..خسئت إن ظننت أن سهامك تفتح القلوب إلى المحبة..."

لم يعره "كيوبيد" اهتماما..اغتاظ الشيطان من لامبالاة الملاك... وسدد رمحه نحوه يريد به " شرا".

ارتفع الملاك قليلا إلى الأعلى فمر الرمح من أسفل دون أن يمسه... وبهدوء أمسك بقوسه وزرع فيها سهما سدده نحو صدر الشيطان...«

ولأن الإبداع لا يكون إبداعا إلا بانتصاره للقيم الإنسانية العليا، ينتصر النص للخير وللحب ولكيوبيد على حساب الشر والفتن:

» ارتفع الملاك قليلا إلى الأعلى فمر الرمح من أسفل دون أن يمسه... وبهدوء أمسك بقوسه وزرع فيها سهما سدده نحو صدر الشيطان... قهقه هذا الأخير وهو يبصر السهم متوجها إليه... تلقاه بصدره هازئا واثقا من خلوده... مثل اللمحة اخترق السهم صدره وأصاب قلبه... فجأة شعر الشيطان بخفقان لم يعهده  من قبل..وأحس أن ذخيرة الشر تتناقص بداخله..وبحركة لاواعية تحسس قرنيه فلم يجد لهما أثرا... ثم التقت خلفه فشعر بجناحين أبيضين ينبتان بظهره.«



2.  فتيحة أعرور،"تانيت":

نص "تانيت"  يدور حول عجوز،"توذا"،  أكلتها العزلة والغربة بعد رحيل الحبيب لتواظب على زيارة قبره طلبا للمؤانسة فيتَحَقَّقُ لها حلم الأحلام: العودة للصبا وانبعاث الحبيب وتحقق المنى...

يبدأ النص بتصوير معاناة "توذا" من الغربة "بين البشر":

"جالت بعينيها في أرجاء القرية، بصرها ما عاد يسعفها في تبين ملامح العابرين، حتى أحفادها لم تعد تميز بينهم، نهضت بخطى متثاقلة نحو الربوة، يد خلف ظهرها والأخرى تمسك بعكازها أو "رجلها الثالثة"، تسميه كذلك نكاية بنفسها تارة وسخرية من القدر أخرى!.

ينتابها إحساس بالانتماء إلى عالم لا تربطها به أي صلة.
- تباً.. كل شيء تغير!.                       

تجد متعة لا توصف لما تقصد "قِبلة الحب"، هكذا يحلو لحفيداتها وصف المقبرة مازحات..
- جدتي ذاهبة إلى "قبلة الحب"!.
- تعتقدين أنها ماتزال تحب جدي فعلاً؟.

وكيف تفسرين ارتباطها بذلك العالم أكثر من اهتمامها بأمرنا؟!"

ولأن الغربة بين البشر تقتضي البحث عن موطئ قدم في عوالم أخرى، فقد اختارت الشخوص الالتحاق بالآلهة. وقد بدأت أول خطوة في هذا الاتجاه مع مغازلة"إيدَّر"  الفتى العاشق ل"توذا"  بحكاية القصة التي كانت وراء زواج كبير الآلهة (=الذي يتماهى"إيدَّر" معه) و"تانيت" ربة الخصب (=التي يريد "توذا" أن تكونها)، مستثمرا لحظة سقوط الدلو من يدها، يد "توذا"،   ليقارن الحادث ذاته بالفأل الحسن الذي جمع بين "تانيت" وكبير الآلهة:

"ارتبكت فسقط الدلو من يديها.
- فأل حسن!.

- لِــمَ؟!.

- لقد اندلق الماء من يديك في حضرة رجل..
ابتسمت ثم سألته:
- ماذا يعني ذلك؟
- اسألي نساء القرية عن حكاية المطر والإلهة "تـَانيتْ"!.

لا أعرف عنها شيئاً..
- "تـانيت" هي إلهة الخصب في معتقدات أجدادنا، تحكي الأسطورة أنها كانت تعشق ابن كبير إحدى القبائل حد الجنون، غير أن كبير الآلهة مذ رآها في أصيل ذات يوم تسبح عارية في البحيرة، هام حباً بها فطلب يدها للزواج، ولما أعرضت عنه، منع نزول المطر انتقاماً.
قصد سكان القرية "تـانيت" يتوسلونها لتقبل به زوجاً حتى يزول غضبه، وكان أن ضحت بحبها ووافقت على الزواج، سقطت الأمطار في تلك السنة غزيرة على نحو غير مسبوق، ومنذ ذاك الحين أصبح اندلاق آنية الماء من أيدي العذارى رمزاً للحب ووعداً بالزواج."
قصة حب "توذا" و"إيدَّر"، إذن، تروى على  خلفية  قصة الحب  لدى الآلهة، ما بين "تانيت" وكبير الآلهة. وعلى هذا الأساس قدم الفتى العاشق "إيدَّر" لأصدقائه على أنها ربة الخصب، "تانيت":

"قال محدثاً أحد رفاقه:

-  "تُـودا" * تشبه عروس المطر، ليتك تراها يا رفيقي! "

وعلى هذا الأساس أيضا، كانت "توذا" ترى في"إيدَّر" صورة كبير الآلهة المعصوم من الموت ما دامت الآلهة لا تموت كما ألمحت إلى ذلك في ختام النص:

"فجأة أحست "تودا" وكأن صباها عاد إليها، أزاحت عكازها جانباً، رأت نفسها تمشي قبلة الجبل حيث ترجل فارس عن صهوة جواده، لما اقترب منها أشاح بطرف برنسه الأبيض على كتفه اليمنى، أمسك بيديها.. اختلط حزنها بالفرح.. رمت بنفسها في حضنه وانفجرت باكية:
- قلت للجميع أن "إيدر" لم يمت ولا أحد منهم صدقني!"

الحكاية "ذات مسحة إلهية" ولا تحكى للبشر الذين تشعر بالغربة معهم "توذا"، الساردة التي تتصرف كصورة مكسورة ل"تانيت".  فالقصة تحكى  بطريقتين في منأى عن البشر: الطريقة الأولى، بالتذكر واسترجاع الإحداث والذكريات مع "إيدَّر"؛ و الطريقة الثانية، بالشكوى ل "إيدَّر" وتذكيره بالماضي السعيدة والبدايات الجميلة.

إن ما تنشده "توذا" في أعماقها هو  الالتحاق بالآلهة والتعالي عن البشر والزمان والمكان وعن الموت والشوق والغياب. وقد تحقق لها طلبها في نهاية النص، فقد صارت "ربة للخصب". ولأنها ارتقت إلى مكانة الآلهة، فقد عاد لها حبيبها، "كبير الآلهة".

التشبيه بين قصة حب البشر على الأرض وبين قصة الحب لدى الآلهة في الأساطير الأمازيغية  أعطى للنص بعدا رمزيا عميقا بحيث صارت الشخوص والأحداث تطالها مسحة إلهية وأسطورية فصارت الشخصيتان المركزيتان في النص تتصفان بصفات إلهية وأهمها: الحياة الأبدية (المناعة ضد الموت) والشباب الدائم (الحصانة ضد الشيخوخة). ف"إيدَّر" ، الشاب المقاوم البطل الذي قتله المعمر، ينبعث من جديد عند ختام النص وهو في عز شبابه؛ و "توذا"، العجوز المهمومة، تُرْجِعُ حلقة الزمن سنين إلى الوراء وتعود إلى صباها وقوة عشقها وأزهى لحظات عمرها.



3.  محمد اشويكة، " لازمة المحنة":

نص "لازمة المحنة"، في "محنته" سعيا للإمساك بحقيقة الحب، يجد نفسه في انزياحات مستمرة: ثارة عن التجنيس الأدبي وثارة أخرى  عن مفاهيم الحب لدى العامة وذلك بتجريب محاولات إقلاع نحو الحقيقة أسماها "أبجديات" ما دامت غير مكتملة المفهوم:

"هل توصلتِ معي إلى تعريف الحب؟ أم أن المُعَرَّف لا يُعَرَّف؟
الحب لذة...
الحب مثالية...
الحب عواطف روحية...
الحب حكمة...
الحب امتداد نحو التجسيد... نحو الجسد...
الحب تحيين لماضي الذوات البشرية...
الحب ارتقاء نحو عوالم خالدة أزلية... نحو جمال الأفعال الجميلة... صعود نحو الأرواح الجميلة... تذوق لكل الأجساد الجميلة... انزياح نحو المطلق الخالد... نحو الامتلاء والتمام والكمال... تصوف دون تقشف... شبع دون جوع... ارتواء دون عطش..."

إذا كان النص الإبداعي هو محاولة لإيقاف الزمن والإمساك باللحظات الهاربة، فإن نص "لازمة المحنة" لمحمد اشويكة لا يكترث لإيقاف الزمن بقدر ما يهتم بالحفاظ على إيقاعه وتخليد لحظات الحب الحاضر السعيد والإبحار بالحب في الزمن نحو اللانهاية.

مستعينا بالاستعارات، يقلع نص "لازمة المحنة" نحو آفاق أخرى لأشكال أخرى أرقى من الرعشة الجسدية والحب الجسدي فتتحرر مفاهيم الحب تحت فعل الأسئلة الحرة لتنتج مفاهيم صوفية للحب :

"ماذا عسانا فاعلون أمام قسوة العشق هاته؟ نتآلف ونتخالف، نتحالف ضد الذوات الشريرة، نتآسر ونتجاسر، نكسر الطعنة الطائشة... عظمي عظمك، قلبي قلبك... لنضخ دما واحدا... ونفكر بطرق متعددة عنيدة... هذا الثالث منا: ما أروعه! "

إذا كان النص القصصي في التصور الأدبي الشائع يرتكز على تطور الأحداث، فإن نص "لازمة المحنة" يرتكز أساسا على ارتجال خواطر في الحب والهيام وتطويرها  لتصبح تصورات ومفاهيم متقدمة في العشق والغرام. هذه الخواطر والتصورات النامية عبر متواليات النص تصبح في النهاية هي شخوص النص المحورية وأحداثه في آن مستفيدة من التبويب والتصنيف العالي الدُّقة الذي ضَمَنَ رُقِيَّ المفاهيم المُقَدَّمَة عن الحب نحو الخلاص، نحو المطلق:

"الحب ارتقاء نحو عوالم خالدة أزلية... نحو جمال الأفعال الجميلة... صعود نحو الأرواح الجميلة... تذوق لكل الأجساد الجميلة... انزياح نحو المطلق الخالد... نحو الامتلاء والتمام والكمال... تصوف دون تقشف... شبع دون جوع... ارتواء دون عطش..."



4.  محمد سعيد الريحاني،"عاشق":

النص لوحة سردية بتقنية "المشهد". إنه لحظة استمتاع حالمة وخواطر جميلة ورؤى بديعة. ولأن السارد "عاشق" من البداية حتى النهاية، فلم يكن في وسع النص أن يعرف هزات سردية كتلك التي تكون وراءها "العقدة" في السرد التقليدي كما لا يمكنه أن يقول سوى الحكمة ولا يرى إلا الحقيقة ولا يعيش إلا العشق. ولذلك كان المعجم المُشَغَّلُ فنيا في هذا النص هو معجم حسي:

» يدك باردة ! «

» نبض جذع الشجرة في ضلوعي يذكرني بالحكمة«

» نبض الشجرة يسري في جذعي يدفق قوي جديدة في شراييني، يقويني، يكبرني.«...

العشق هو بداية الشعور بتجربة الحب ولكنه أيضا بداية الشعور بحقيقة جديدة. وهده الحقيقة الجديدة التي أمسك بها النص قبل نهايته هي أن "الحب هو لغة الكون وأعظم قوانينه، إنه ضامن التناسق والحياة والإشعاع والطاقة":

» الليل يلعق اختلاط الألوان في الأفق حيث بدأت النجوم سباقها بحتا عن موقع على رقعة السماء. النجوم تتغامر من على بعد سحيق. النجوم ليست كما كانت تبدو لي دائما: مجرد جمرات كبيرة تحوم في سواد الكون. للنجوم هذه الليلة، حياة أخرى خفية تنبض عشقا وغراما، فالنجوم الأكثر لمعانا كتلك النجمة الوحيدة هناك هي في الغالب نجمتان كما يقول علم الفلك الحديث: نجم برتقالي ونجمة زرقاء. نجمان يرتبطان بجاذبية خفية تشد هذا لتلك فيدوران حول بعضهما البعض في غزل صامت، مضيء... ربما النجوم لا تضيء إلا لكونها تعيش حبا. وربما لولا الحب لانطفأت جذوتها وتناثرت في الفراغ كباقي النجوم المحرومة، نيازكا وشهبا...

أنا الآن أستمتع بوميض النجوم وعشقها، عشق عمره الآن آلاف السنين بين نجوم على بعد آلاف السنين الضوئية ... تلألؤ النجوم يزين السماء ويضفي على ميكانيكية حركة الأجرام السماوية بعدا غراميا. «



5.  التيجاني بولعوالي،" من السماء إلى الأرض"

يتكون عنوان نص "من السماء إلى الارض" من كلمتين: "السماء" (=المثال) و"الأرض" (=الواقع) لكن العنوان يركز تركيزا خاصا على الاتجاه "مِنَ" الأعلى "إلى" الأسفل. إنها رحلة من الأعالي، من الذاكرة السعيدة، إلى واقع الانضباط اليومي المكرور. الذكرى الهاربة التي تؤججها "لُونْجَا" الحبيبة التي تجعل من السفر في الحافلة سفرا في الأعالي، في "السماء"؛ ومن حب الأنثى حبا للكون وللطبيعة؛ ومن تأمل الحب والطبيعة والكون تأملا للذات وتحريرا لها:

" تهاتفني من خلف القناع ولا أراها. تتجول رفقة الدجى. تسامر جنوني حين أتطرف. أتقلد خطى أفلاطون في سموه وتقول فيحسبها الجالس جنبي موجا ليليا...

بين تضاريس الوجود أدرك هويتها وفي تجاويف السماء ألمح قدها الفاتن فتسحرني وتخلبني نكهته فأترنح وأذوب على زجاج النافذة  الذي هو متكأ رأسي منذ حين لأراها تتراقص في بؤبؤي عيني وفوق أنوار "تفرسيت" المتموجة...
-    فيم تتأمل؟
-  في ذاتي. في هذا الخلق المنظوم."



6.  أحمد الفطناسي، "حب"

نص "حب"  يتمحور حول البحث عن "ثمار الحب"، عن الذرية والأولاد قصد الاستمرارية. ولذلك، تلجا المرأة المحرومة من الخصوبة، على طريقة الدودة التي تعتكف في محرابها ليال لتحقيق حلمها في أن تصبح "فراشة"، إلى خلوة الولي الصالح والتوحد بالشجرة المباركة وهي كلها إصرار على التخلص من "التابعة" و"سوء الحظ" الذي لازمها دون سائر النساء:

" خطت المرأة بخطوات متثاقلة اتجاه شجرة التين المباركة، والمحاذية لخلوة الولي الصالح المقيم بقبة رأس الجبل ، وقبل أن يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض قامت بتطهير جسدها بالماء"

" الشجرة السامقة بفروعها قرب البيت مزينة ب.." التابعة " حيث الأحزمة والملابس الداخلية لنسوة رقص الحظ و"الزهر" بعيدا عنهن ، ولم يسعدن بذرية تنسيهن ملاذ الوحدة، وتبقي على فرع سامق كفرع الشجرة المباركة ..."

" أعادت قراءة التعاويذ ذاتها في حين أمسكت بيدها فرعا من فروع الشجرة المباركة ..كانت تسر لها بمآل الروح المتمردة داخلها في حين تطلي الوريقات الجافة حوضها تعبيرا على اكتمال لا ينتهي ،.. لكنها أصرت على إتمام لحظة السكينة للنهاية ، خصوصا أن دفء المكان حول جسدها لكوة نار متقدة ..
أعادت تلمس خديها مرددة نفس التعاويذ والتي تحفظها عن ظهر قلب ..مدت يدها لأقرب غصن ممتد، شدت بقوة متحملة آلام شوك وريقات الشجرة المباركة، تملكتها رعشات اللذة حتى أمست تقلب حاجبيها، وعندما حلت سكرات الحب الجارف، حلت قشعريرة الجسد مكان الألم، حينها أحست بسائل ساخن يسيل بين فخديها ..كانت لحظتها تسمع نفس النداء للمرة الأخيرة : «متعة السريرة في توحد الروح بالشجرة المباركة»" .

7.   الحبيب الدايم ربي ،"عاشق أخرس":

يفتتح النص بطلب شرح لغوي لمفردة " خرساء ". لكن السائل العادي الساعي للمعرفة سيصبح "رجلا ثقيل الظل " نظرا لثقل الذكريات التي أيقظتها الكلمة في وجدانه وأعادته لتجربة عشق أخرس كان هو بطلها ولقصيدة كان، هو أيضا، شاعرها:

» رجل ثقيل يسأله من غير مناسبة عن معنى كلمة "خرساء" التي ابتدأ بها شاعر مجهول قصيدته(...) فرد في حرج: خرساء من لا ترد، أو بالأحرى من تتعمد عدم الكلام«.

نص "عاشق أخرس" هو نص حول الحب من جانب واحد. فحين يكون أحد الطرفين أخرسا أو أصما، لا يتبقى للحبيب سوى ثقافة العين والتلصص على الحبيبة بين أعواد حقول القصب:

» في صمت كان يتلظى بحبها . يترصدها من بعيد كي يتأمل الجرة تلامس شعرها الجموح كلما قصدت عين الماء للسقيا . العشق مذلة . وهو حين يأتي من أخرس يغدو فعلا أقرب إلى الشناعة. كان قد أوغل في التيه. عيناه بوابتان لقصيدة مخلعة الأوزان صماء ، والجمال المترجل أمامه ، متثنيا ، سبحان الخالق الناطق . كأنما كانت صاحبته على غيمة تخطو ، خفيفة ، رشيقة ، صموتة. تعبر التلة في ذهاب وإياب. لم يعد قلبه يطاوعه ليبقى نائيا ، يتأمل “خرساءه ” من خلل سد القصب . ما صار السر واحدا وإنما غدا اثنين وثالثهما عاذل قد يقتحم المشهد مدعيا الاستفسار عما قاله شاعر مزعوم في الحبيبة. والحبيبة ، مهما صدّت ، هاهي تقترب ، لم تعد بدورها قادرة على الصمود أكثر.

ولأنها كانت مثله خرساء فقد ناولته جعبة قصب كي يسكب فيها هواه . ففعل . انذرفت دموعه فوق القصبة فخرمتها سبع خرمات . وعلى مدى أيام الأسبوع ، ومنذ كان الماء والقصب ، راحت النايات، كلما هبت الريح ، تشدو بأنغام شجية يزعم العواذل أنها لعاشق أخرس يلوذ بحقول القصب! «

شعرية هذا النص تكمن في انسجامه الداخلي وتوحد شكله بمضمونه. هذا "التوحد" الذي يبدأ مع بداية النص المثقل بعبارات "الثقل": "رجل ثقيل الظل"، "آخر ثقيل السمع"، "رجل ثقيل"...

هذا "الثقل التقديمي"  أثر ماديا وفنيا على النص الذي  بدأ "موضوعيا" بضمير الغائب ثم غاص تحت "تأثير الثقل" في الذاتية وضمير المتكلم والفلاش باك ثم غرق في الختام في الأسطورة حيث صارت قصة العاشق الأخرس جزء لا يتجزأ من أساطير العشق ووجدان العشاق.



8.   سعاد الناصر، "قصة حب":

نص "قصة حب" لسعاد الناصر يبدأ بمقابلة صحفية مع مساجين الرأي وينتهي بقصة حب وزواج:
"التقيته في السجن حين كنت أجري مقابلة صحفية مع مساجين الرأي، لفت نظري بهدوئه وابتسامته التي تضيء وجهه كله, وحين أبديت استعدادي لتوفير بعض الطلبات لهم  في زيارة قادمة، لم يطلب سوى مجموعة من الكتب, اكتشفت بعد ذلك أنه مثلي يقرأ بنهم كبير, يحاول بفعل "اقرأ" إعادة تشكيل واقع انحرف عن مساره. وسقط في مستنقعات التخلف والتهميش, ومنذ ذلك اللقاء عرفت أن القدر  مهد لاجتماعنا بعناية فائقة".

النص يُحْكَى على لسان ساردة أنثى أريد لها أن تكون "رسول المحبة"   لكنها، عكس كل نظرائها من الرسل والمرسلين، تحولت من "رسول محبة" إلى "موضوع حب وزواج"، زواج حبيبين كل منهما خارج من سجنه:  هي خارجة من تجربة زواج فاشلة  ("عبودية الأنثى") وهو خارج لتوه من السجن (استعباد ذوي الرأي الحر). الصورة إذن هي صورة "زواج الأحرار"، زواج الأنثى المُحَرَّرَةِ من صاحب الرأي الحر.

وقد "سبق" قرارُ إعلان الحب قرارَ العفو الرسمي عن المساجين. وهذه هي رسالة النص: "لو تسلح الناس بالحب، ما كان هناك أَسْرُ أو سجون أو سجانين".

تقنيات الحكي تستمد ديناميتها من مهارة استعمال "ثنائية" عنف الماضي ونعيم الحاضر:
-    متوالية تذكر البدايات.
-   الفرح بنعيم الحاضر.
-    متوالية اللقاء والتعارف.
-   الفرح بنعيم الحاضر.
-    متوالية الذاكرة وعنف الماضي.
-   الفرح بنعيم الحاضر.
-    متوالية الإفراج عن السجناء وإعلان الحب والزواج.
-  الفرح بنعيم الحاضر: " ومثل زهرة في مهب الريح ارتعشت أغصاني وغاصت في كونه الناري. وغدوت سوسنة تسكن ومضات طيف مشرق، ترشف بين الومضة والومضة زلال فيض ملائكي الإيقاع..."

ثنائية  عنف الماضي ونعيم الحاضر هذه "جسدت شكليا مضمون النص العاشق" كما جعلت من شكل العرض القصصي شكلا لعرض "طانغوTango/" راقص حيث إذا غاب أَحَدُ الثنائي الراقص أو انسحب، بَطُلَ الرَّقْصُ وجُمِعَتِ الآلاتُ وانْسَحَبَ العازفون.



9.   إدريس الصغير، " أحلام طاميزودا":

أجمل ما في البداية، أي بداية، هو ذاك الحلم الجميل بالغد الجميل الذي تبشر به وتصنع مساره. وفي المقابل، أهم ما في النهاية، أي نهاية، هو تلك اليقظة المفاجئة من غفوة طويلة أو نسيان ثقيل، يقظة تحرك مجاري الذاكرة وتصالح الفرد مع ذاته وذاكرته وحقيقته. ولعل موت الأحبة هو أقصى أشكال "اليقظة المفاجئة" ونص "أحلام طاميزودا" يرسم بفنية عالية هذه اليقظة.
يبدأ النص كأغلب النصوص القصصية بالسرد بضمير الغائب المتجرد الموضوعي العارف بدواخل وأسرار الشخوص الأصم اتجاه المعاناة الفردية... لكن ما أن تحمل الحبيبة على المحمل وتأخذ وجهتها نحو المقبرة حتى يلقي السارد على الأرض بكل الأقنعة والأدوار السردية ويتحرر من كل تجرده وموضوعيته ليعلن "بضمير المتكلم" أنه هو الحبيب وأن الراحلة هي الحبيبة وأن النص هو ذكرى قصة حب كانت لاهبة:
» كانت اللقاءات هنالك، في خلوة عن العالم، عن كل العالم. بعيدا عن الحروب، وعن الدمار وعن الدسائس وعن كل المخلوقات. ترى لماذا اخترنا بالضبط  ذلك المكان؟ الم يكن الرومان يشقون عباب نهر سبو بسفنهم المحملة بالمؤونة  ليرسوا  بها في طاميزودا؟ الم يحبوا هنا؟ ألم يحترقوا بلظى الأشواق، و طول  النأي، و المعاناة المؤلمة لهذا الحب الأزلي؟
أين أنت اﻵن ؟ اﻵن أرى جسدك مسجى على المحمل ، مغسولا ، بعطر الجنان . أراك محمولة فوق الأكتاف ، ليشق مسمعي ، العويل ، و الصرخات الرعناء . اليوم  لا أملك سوى الذكرى ، اليوم أعود عند الغروب منكسرا ، أيمم نحو مدينة كئيبة تغفو مجهدة، لتنكمش على أحزانها الدائمة. «