ولدٌ وبنت ـ قصة : ذ .رشيد سكري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 1.
      رذاذ رُضابي يلف بيوتا داكنة ، مشرئبة بأفاريزَ مغلفة بالقماش ، تثقلها الحجارة . في المكان ضريحٌ ومقبرةٌ و مُغُرٌ بحرية مهجورة. صيَّادون ، كلما اشتد هدير الامواج ، ينبعثون من هنا وهناك ، وحتى من سديم الضباب الكثيف . يحملون متاع صيدهم  وقفافهم ، ويغيرون الامكنة ، صاعدين صخورا ضخمة ؛ تعلو هاماتها المياه الزرقاء .
     بنت ، بشعرها الكستنائي المنسدل على طرف الظهر ، تعبث بالرمل المبلل على الشاطئ ؛ ترسم دوائرَ تضيق بإصبعها الحليبي الجميل . وتحاصر سلطعونا و قَفَّازا رمليّا ، تضع لهما حواجزَ من الرمل المبلل ، و تصيح :
ـ   لا مَنَاصَ لكما ...
ـ  لا مَنَاصَ لكما ، الآن ...
لما فرغت من مغازلة كائنيها ؛ تذوب الرمال ، وتعود الغنيمة حرة طليقة . تتبعها ؛ فتحيطها بقدمها الغضِّ في دورات غُنْجِية ، كراقصة البالي على الكعب الذهبي .

وهي غارقة في حُبُورها الطفولي ؛ تجلس القرفصاء تارة ، وتنهض بجسدها الناهض الممشوق تارة أخرى ... تقرب أنفاسها الصَّغيرة من الحلبة ، وهي جاثية على ركبتيها ؛ فيخضل شعرها الاثيث السابغ ، ويبلل بالماء المالح ؛ وبقايا أعشابٍ خضراءَ و رمالٍِ . تنفض ما علق به ، فتبدو كوِرْوَارة جموحة ، تخشى أطياف الظهيرة .
وسط أعشاب البحر و طحالبه المطروحة على الشاطئ ؛ يختفي السلطعون ، ويختفي القفاز ، و تبقى في المكان حفر رملية ، لا تكف عن الامتلاء.
2.
      من سديم أمواج تغار من الجسد البَضِّ الصَّغير ، يخرج ولدٌ كالمارد من قمقمه ؛ ينتزع رجليه من البحر انتزاعا . يطرح ألحانا عذبة ، ويسير الهوينى في اتجاه البنت . جسده شبه عار ، علقت بمسامات جلده قطيرات الماء المالح.
كل شيء في المكان معرض للتيه و مشارفه ؛ المقبرة و الضريح و المُغُر البحرية. غنى الولدُ بصَنَّاجَته الحَجريّة :
                   دَبْ دْبيب دَبيـــــــها          روحي للسوق بيعيها
                  واشتري بتك حلاوي         حلي ضريســـاتك بها
جثا على حفر القَفَّاز ، بعد ما أزاح طحالب جاثمة تنشر الرطوبة على الرمال ، عاندته البنت ، محاولة منعه ، حتى كاد أن ينسل الحبل المشدود إلى خاصرته. وظل يدبدب بغنائه الشجي على الحفر الصغيرة .
أمعنت البنت الجميلة في هذا الجسد الصغير المُسَجَّى أمامها ؛ جسد أفحمته شموس الأماسي و الأصائل ، حتى قانى بين السمرة و الحمرة ؛ فظهرت فيه صواعدُ و هوابطُ ، تمزق جلده رُضوضا و تجاعيدَ . رضَّ على الرمال بضربات متسارعة ، رافعا عقيرته بفمه الاثرم :
                    دَبْ دْبيب دَبيها          روحي للسوق بيعيها
                    دَبْ دْبيب دَبيها          روحي للسوق بيعيها
                    دَبْ دْبيب دَبيها          روحي للسوق بيعيها
من كوة الحفر الرملية الضيقة ، بدأت القَفَّازات تطل وَجِلة بمجساتها ، تتحسس الصوت الرخيم العذب ؛ تدفع قوائمها البنية إلى الامام صاعدةً من الاسافل . كأنها أصيبت بخدر  وخِذلان ، يشلان حركتها . اِنعقد لسانُ البنت أمام هذه اللوحة البانوراميّة المدهشة ؛ ومن كل حدب و صوب ،  اهتزت القَفَّازات ، كأن قلوبها عطشى للطرب و النغم.
صعدت القفَّازاتُ على الجسد الصغير المفحم ، حتى كادت أن تدثره عن آخره ، ولم يبق منه إلا الاناملُ المكدودةُ ، تعزف لحنا مِطرابا . غالبها الخدر ؛ فبدأت تتساقط من على جسده كأوراق الشجر اليابس ، وقت الخريف ، رماها الريح ... رماها الريح .
بعدما مسحت البنت الولدَ برموش الافتنان و الاعجاب ، سارا معا جنبا إلى جنب ؛ حتى ابتلعهما سديم يلف الضريح و المقبرة و المغر البحرية .
فعاد المساء إلى بطاحه ...
... وعادت القفازات إلى عَتْمات الاسافل الرَّملية المبللة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟