مسافر .. ـ قصة : د.حسين مرعى

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"أنا الغريب منذ ولدت في هذا الزحام"... محمود درويش
لملم أشياءه المتناثرة في أنحاء غرفته الصغيرة
كانت امتحانات نصف العام قد انتهت .. والقطار المتجه لبلدته الصغيرة قد أوشك على التحرك
كان أصدقاؤه في انتظاره على رصيف القطار لتوديعه
نظر في ساعته فأدرك أنه تأخر رغم أن مسكنه ليس ببعيد .. أسرع الخطى فتعثر في أشيائه
 ***
وصل إلى الرصيف.. صاح أصحابه:القطار يتحرك

ألقي حقائبه داخل العربة المزدحمة.. ودع أصحابه وتاه في الزحام
ألقي نظرة على المكان ذي الإضاءة الخافتة
حاول أن يتفقد مكاناً صغيراً يضع به أشياءه أو تستريح أقدامه
تقدم قليلاً إلى منتصف العربة .. ارتطم بصندوق ففقد توازنه
أمسك يده شيخ كبير .. وسأله هل أنت بخير؟
قرر ألا يتقدم خطوة واحدة فلا يعرف ماذا سيواجه إذا توغل أكثر
***
هدوء المكان لا يقطعه إلا بكاء الأطفال ومحاولات الأمهات إسكاتهم
ألقى نظرة من النافذة ذات الزجاج المهشم ..وبدأ يتابع العمارات المرتفعة وهى تبتعد
 وينتظر بلهفة أن تظهر الزراعات الخضراء التي يفتقدها
كان ماهرا في العناية بالأرض .. ولهذا قرر أن يكمل دراسته في هذا المجال
***
تبسم عندما تذكر ذلك الكوخ البسيط من أعواد البوص في وسط الزراعات
كم كان يعشق هذا المكان .. فقد كان يتوارى فيه من حر الصيف ويعزف على الناي القديم
ويسرع بإخفائه عندما تنادي أمه التي تحمل فوق رأسها طعام الغداء
كانت أمه توبخه إذا امسك بالناي .. كانت تقول إن هذا يذكرها بالغوازي في المولد الكبير

***
لحظات وشعر بيد تربت على كتفه ..تذاكر يا أستاذ
كان المحصل في موعده قبل أن يتوقف القطار في المحطة المقبلة وينزل أحد
كان حريصاً جداً .. كان يفحص الأرفف لربما يكون بينها شخص مزوغ
أو شاب هارب من التجنيد.. أيقظ كل النائمين فقد كان موعد الإمساك قد اقترب
أخرج من حقيبته الصغيرة زجاجة مياه .. رشف منها قليلا حتى نادى رجل يفترش الأرض
ممكن شوية مية يا أستاذ؟
***
كانت للشهر الكريم طقوس خاصة  .. فبعد صلاة التروايح ينطلق الجميع إلى قهوة "الأحول"
كانت هذه شهرة صاحب القهوة حيث إنك تتخيل  عندما تحادثه أنه ينظر الى كل الدنيا وليس إليك فقط
كانت قهوته عامرة بالشباب والشيوخ .. البعض تستهويه "الطاولة" والبعض الآخر يعشق التلفاز
كان التلفاز ملوناً وكبيراً جداً .. فقد كنا ننتظر بشغف ألف ليلة وليلة
ونهرب في جلودنا رعباً عندما يظهر على الشاشة ذلك " الأشكيف"
***
مع ضوء الفجر كان القطار قد اقترب من محطته
حاول جاهدا أن يتقدم قريباً من الباب وأشياؤه تتساقط يميناً ويساراً
هب شاب يساعده .. أشار إليه لا داعي ..أنجزتها
فتح الباب الذي أوجعه الصدأ ووقف يتفقد تفاصيل بلدته الصغيرة
كان لنسيم الصباح مذاق آخر .. فالهواء النقي ورائحة حقول القمح
تجعل العمر ألف عمر ..
**
جذب أشياءه كمن يقتطع قطعة خبز ناشف
تنهد طويلاً وعلت شفاهه ابتسامة عريضة حينما شاهد بائع "البوظة" ينادى بصوته الجهور
"أحلى من العسل .. يا خمرة الغلابة"
انطلق يجوب البلدة ويتفحص وجوه الناس
كانت كما هي .. فبلدته وإن غاب عنها ألف سنة تظل كما هي عصية على التغيير
كان عم "عبده" الحلاق يفترش مكانه في السوق
وبائعة الخضار تندب حظها من زبون آخر زمن الذي يفاصل في الأسعار
***
ألقي بحقائبه على قارعة الطريق واندفع نحو الحقل الصغير ..
كانت أمه تشد مئزرها وتنثر في الأرض الطاهرة بعضاً من حبوب القمح
كان أبوه قد أقعده المرض وأثقلته الديون
القي أجزاءه المتلهفة في حضن أمه وأبيه وتنفس عميقاً
دخل إلى الكوخ الصغير .. نبش الأرض وأخرج صرة من قماش قديم
فك العقدة .. واحتضن الناي القديم ...
...
انتهت