الاحتفاء بالزمن أمام نزيف العمر ـ نص : د. الحبيب النهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02026"الحياة بلا احتفال طريق طويل دون محطة " ابيقور
" لا يعاش العمر لذاته، وليس لدينا تجربة شفافة مثل تجربة الكوجتو.  للمرء أن يعلن هرمه في وقت مبكر أو ليعتقد أنّه شاب حتّى النهايّة"[1] سيمون دو بوفوار
" من يبلغ الشباب متأخرا يحتفظ بشبابه أمدا طويلا"[2]
"في الرجل من الطفولة ما ليس في الشباب فالرجل الناضج أقلّ حزنا وأقدر على فهم الحياة والموت لأنّه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت"[3] فريديريك نيتشه

***
 آخر يوم من ديسمبر، في قريتي،[4] يتزاحم الكثير على شراء المرطبات وتقام سهرات الميلاد. تمتلئ الحانتان بالرواد وتفرغان. والكلّ يحتفل على شاكلته فمنهم من يعتبرها مجرد سنة ادارية جديدة ومنهم من فضلوا الاحتفال في جوّ عائلي ومنهم البائس المحروم يستلذ بما يغذي الخيال فيسرف في المجون وفيهم الجائع المكبوت يلتقي غرامه بالتمرد على النواميس ويحتفل كيفما شاء في الخراب ومنهم من يبالغ التبذير في المتع ويختار أفضل النزل وفيهم من يلعن هؤلاء جميعا فهم في نظرهم غربان يقلدون الغرب لهذا يرجون ثورة لا تبقي ولا تذر.

فيشعرونني بأني في عيد قريب مني بعيدا عنهم لأنّي أحتفل بطريقة استثنائية حيث كنت بصدد القيام ببحث عن ثقافة الاحتفال وفضلت تلك الليلة قراءة معمقة بعدما قضيت اليوم في اجراء مقابلات ميدانية لأجعله منطلقا لكتابة نصّ آخر يًربّي فيّ مَلَكَةِ الفرح وتصريف الحزن ويًساعدني على كشف رمزيّته في المجتمع ودلالاته. ففي كلّ مظاهر الاحتفال وطقوسه قوّة معنويّة يكتسبها الفرد ليعيد بها توازنه النفسي عند الأزمات والخيبات وطول الدهر وأتعابه. فإذا كانوا منشغلين بالماديات وفائض الاستهلاك فقد كنت منهمكا في ممارسة الذات التي تتجلّى عبر اللغة والقول فإذا الزمن لديّ الآن خلاّق لا يكف عن التدّفق كديمومة الروح عبارة تضفي على الأمكنة حياة وأبدع عالما مرغوبا فيه بتحريك الثابت وتسكين الضجيج. وكعادتي أطالع ما تيسر من صفحات كتاب وأستثمر "داخل مشهد القراءة ما يمكن الاصطلاح عليه بنفسيتي الخاصة"[5] فانتهيت إلى كتابة نصّ على هامش متن الأطروحة يتداخل فيه ما صغته وما تزوّدت به من مطالعة وما تذوّقته برؤى متعدّدة. فلهذا فكلّ ما أكتب ليس إلاّ حضورا لنصوص يغيب أصحابها وتحضر عباراتهم. كنت قد تمثلت المعاني المستعصية على الفهم فأقترب من حكمة أرسطو البعيد: "كلّ ما أريد قوله لن يقدر غيري قوله مثلي".

***

كانت ليلة هزّت فيها الريح أركان البيت هزّا واستمعت إلى ضجّة قويّة رجّت أسلاك التيار الكهربائي فانقطع ضوء الفانوس وأظلمت الغرفة وكان لا بدّ أن أتلمس بحواسي لأسحب شمعة أضأتها بسرعة وتأمّلت حمرة نورها وغايتي فهم سحر سرّها لعلي أعيد تأملاّت فلسفة ديكارت البعيدة حول قطعة الشمعة القريبة؟ هنا حاولت أن أستبطن المشهد: تذوب الشمعة تحت لهيب النار وينساب منها الشمع كأنما تدمع ولكنها رغم ذلك تتشبث بالوجود فتبقى ملتصقة بالأرض كتجاعيد وجه انسان تقدّم به العمر. كانت مناسبة لأترك العنان للحدس وللتأملات الشاردة حسب عبارة الفيلسوف بشلار أستجمع كلّ طاقاتي لأرى ما وراء المرئيات. تذوب الشمعة تنزلق ببطء قطرة إثر قطرة في نسق واحد ولا تضمحل بل تأخذ شكلا آخر مثل"شخص يتغير لكن يبقى هو نفسه"[6] على حد عبارة سيمون دو بوفوار. ورأيت أن هذه الرمزيّة من الممكن أن تشير إلى الإنسان العامل يحترق كالشمعة في سبيل تحقيق وجوده وأن عمري الذي أكسبه الرهان هو الذي يجمع الدمعة بالبسمة والأمل بالألم فيوقف نزيف الزمن فأصبح بمستطاعي التمكين في الأرض رغم عيشي في كبد وأقتنع بعدم بلوغي أرذل العمر لكي لا أعلم من بعد علمي شيئا وسأنتصر للفرح وللسعادة وللخلود. كما أدرك أن العمر لا يقاس بالسنوات وإنّما بالمنجزات أي بتذويب روحي منجزا في الكون وبتحويل قوّتي إلى الفعل حينها ستنبت كلمات طيبة تؤتي أكلها كلّ حين. وستفيض قطرات الزمن طاقات حيوية تطفح حياة فلا أنزعج من نزيف العمر بل أبحث عن معنى لا ينضب. هنا أحمل وجودي ولا أرتجّ أمام صدمة الوعي بالزمن ولا أخرّ أمام صاعقته وإنّما أقول إنّي ضمآن إلى التجدّد والظفر بذلك "النبات البحري" الذي تعذّب من أجله البطل الأسطوري "قلقامش" بالخوف والألم لكسب الخلود ولكن عندما وجده سرقته منه الحية فعاد مقتنعا بنهايته وقياسا على ذلك أريد أن أصنع ملحمتي الخاصة أن أبدع ما يعادل قوّة هذه الملحمة الأسطوريّة فعوض أن ينزف مني الزمن أدعه في انسيابه حتّى لا تفضحني الأيام ويمرّ العمر ولو كان مراّ من غير صدمة ويكون سير الزمن سيرا طبيعيا لا أقاومه بتوجس وخيفة. ولن يخربني خوفي من الموت لأنّي أعلم أنه بدأ معي بدأ التخلق في الرحم "صيرورة غير محسوسة بطيئة تفلت من الوعي لأنّ أي تباين لا يظهر فيها بوضوح فينزلق الإنسان بمرونة من يوم لآخر ومن أسبوع لآخر ومن سنة لأخرى يفضحه انسياب الأيام وأحداث حياته اليوميّة ومع البطء الذي ينجو من الإدراك يندمج وعي الزمن بالوجه ويدخل الخلايا ويضعف العضلات ويصغر الطاقة ولكن بدون صدمة"[7] ولهذا أرى قوّة الانسان لا تقتصر على ما تضيفه إليه الأيام وإنّما إلى ما يضفيه إليها وليس بما اكتسبه من ماديّات وملذّات وإنّما بما عاشه بعد ذلك من معنويات في ممارسة الذات.

***

لهذا كم كانت هذه الليلة من آخر ديسمبر مناسبة رمزيّة لأحتفل بنهاية سنة وبداية أخرى بأسلوبي الفلسفي الخاص فأتخلّص من زمن خطيّ مُمل يختزل سنواتي في: الدقيقة، الساعة، اليوم، الأسبوع، الشهر، السنة. لأستعيد زمنا دائريا مكثفا ينفتح فيه العقلي على الخيالي فأزيد حياة لعمري مقاوما أزمنة تليها أزمة ومكافحا من أجل الحياة ما دمت مؤمنا بالعمل لهذا لم أكن أحتاج للتنجيم للفأل ومواجهة مخاوف المجهول وما تخبئه السنون ولا تهنئة النّاس وقد أعطيت شرعيّة لسذاجتهم لأنّها تنسيني سذاجتي. ولا السهر بمجون حتّى مطلع الفجر وإنّما السهر بجنون أسأل ماذا تعني سنة مضت من عمري وأبحث في فلسفة الزمن التي تحملني إلى ثنايا ملتوية لم تكشف. فأرجع من حيث بدأت: الشكّ والحيرة وإعادة التساؤل فهل هو الساعة في معصمي أم تعاقب الليل والنهار أم المسافة بين الحياة والموت أم الميقات والسرمد والدهر والأجل والوقت والمدّة والحين والخلد؟ وهل يوجد زمن إلاهي مقدس وآخر بشري دنيوي؟ هل نفهم الزمن بالفهم الموضوعي أم بالفهم الذاتي؟ هل هو الحاضر دون الماضي أم هو المستقبل أم هو الكلّ: الماضي والحاضر والمستقبل؟هل هو قابل للنفاذ ونهايته وشيكة؟ وهل هناك زمن للفرد وزمن للجماعة وزمن للخاصة وزمن للعامة؟ وهل هناك زمن للفقراء وزمن للأغنياء؟ وهل هناك زمن للشؤم وزمن للتفاؤل؟ هل هو مرتبط بحالات الشعور وطاقة الروح فقد تطول وقد تقصر حسب الظروف فهو زمن نسبي؟ هل هو دفقة ديمومة سيالة في الكون أم هو آلة؟ هل هو العقل أم الجنون؟ هل هو الأفراح أو الأحزان؟ هل هو في حاجة للمكان كما المكان في حاجة إليه؟ هل هو مقياس الحياة والموت كأن يكون للعدم زمن آخر للوجود. ولولاه ما كنا؟ هل يمكن إنتاجه عندما نفقد إحساسنا به كأهل الكهف؟ هل أن الغرب أوثقه عنده فكان غريبا عندنا؟ هل هو شيء آخر يختلف عما عرفوه؟ هل هو تكثف الروح عند ممارسة وجودها أم هو أزمنة للفعل؟

***

ما أدركته في تلك الليلة أن العمر بما أنجزه لهذا أعيد التفكير في الزمن لنعيد النظر في حياتي وأسلوب عملي وعلاقتي بذوات الآخرين لنعيد إنتاجه وفق مبادئنا وقيمنا وأفكارنا وأن أجعل الزمن ملجأ وصديقا أشتكيه مني ومن غربتي وجنوني وأخاطبه في صدى نفسي: أيّها الزمن معذرة سآتيك تائبا من معصيتي في عدم استثمارك فالآن اعترف بأنّك سيف تقطع ولا تقطع. وإنّي من اليوم الذي أدركت أني محكوم بك حكمت بالموت فتساءلت فيه عن المفارقة في مواجهتهما  فكان لا بدّ حينئذ أن أبحث عن مخرج لأنّ الإجابة استحالت بعد أن كنت أعرف عنكما الكثير حدسيّا وعندما سجنت نفسي في الآني. لهذا أيّها الزمن من خلالك سأتقن فن ممارسة ذاتي وأدرك فنّ الحياة فأشيد موطنا للمعنى والإبداع لذلك اسمح لي أن احتفل بك بطريقتي الخاصة أن أعيدك إليّ أن أحصي كم مرة أهدرتك فأهدر دمي. وكم مرة تنكرت لك فعشت غريبا شريدا في حلمي وها إني أسأل نفسي كيف يمكن استثمارك علما وعملا؟ كيف نجعل لك مكانا في قلوبنا وعقولنا كثيرا ما عبناك ونعتناك بزمن النكسة وزمن الرداءة وزمن الخيبة وزمن الهزيمة. وأنت بريء فقط نحن هزمنا أنفسنا عندما لم نجدد سؤالنا حول علاقاتنا بك؟ أيّها الزمن حين تبدأ دورة جديدة يمتلئ المكان بحركة العود الأبديّ تحلّ بالجسد خفّة ودويّ الصوت فكنت اتحادا وانتشاء وتطهّرا: من ذاكرة طفولتي كانت تلقائية الروح تعيد قربي من التسامي البعيد.  وتعلن أنّ لا شيء يعطي الموت معنى سوى إقراري بالعود الأبديّ غريزة الخلود.

***

لقد جعلت هذه الكتابة عن الزمن زمنا آخر أبغي الوصول إليه فاستوت نصوصا خزّنتها في إرادتي وستظلّ لحظة تساؤل ومكاشفة أزداد فيها وعيا بالزمن أو أتخلص منه وأنساه. كم كانت اللحظة مثيرة للخشوع. فأمام نزيف الزمن رهان العمر ولكن الخطر لا يكمن في البحث عن الزمن المفقود لأنّ الإنسان قويّ ما دام قلبه شاب وبذلك يبلغ أشدّه. وإنّما شعوره بهول الانفصال ووعيه بما ينتظره من المستقبل هكذا يجب أن يكون دائما في حالة حبّ لأنّه "أشدّ التجارب في الحياة انبعاثا للبهجة والإثارة"[8] ولهذا فإنّ سرّ دوام الحركة مبعثه الاحتفاء بالزمن ولقد اندهشت من ذلك وتذكرت أن هذا الاحساس كان مشتركا حتّى في الحزن إذ أن قريتي عندما يموت شخص منها تلتحم الدمعة بالألم والبكاء بالدعاء والحداد بالذكرى حنينا وشوقا  إلى ما كنا فقدناه. فهل حان الوقت للطبّ أن يعطينا سرّ الدمعة لإنّها تحتوي على أسرار لها زمنها الخاص بالاحتفال نشيل الهم ونعيش الفرح وهل لعلم  الاجتماع أن يحلّل لنا ما أسميه "بيداغوجيا الحزن"؟

جُن الليل وارتويت بسائل حيوي منبعث من حواس الذاكرة يعيد بسمة الحياة بعد الحزن. كانت آخر ليلة من ديسمبر حيث نمت في سكينة بعد أن أطفأت الشمعة وأشعلت قبس ذاتي ونسيت النهايات المرتقبة ليكون بدءا على عود فكلّ خطوة أخطوها تحيلني إلى معاقل تخطفتني لتلقى علي دوام محبة الدنيا وأتمثل الحياة بدافعيّة قويّة. وكفاني احتفائي بزماني واعظا ورمزا مما جعلني أقول كلّ عام ونحن بخير أما إذا نسيناك تخلّفنا وكلما تمثلناك تمثلنا قيم العلم والعمل والحريّة والعدالة والكرامة. وعلى وقع هذه التأملاّت سمعت صدى عواء بعض الشبان وهم عائدون من بؤر الهرج والمرج لم أفهم ما يردّدون ولكن قلت إنهم فريسة أفيون قد أنساهم ما يجب تذكره وذكّرهم فيما يجب نسيانه فهاموا في غسق الظلام لعلّ بعض من نور يردّ لهم اليقين حيث حقيقتهم يلفّها عدم يقيننا.

د. الحبيب النّهدي (تونس)

الهوامش

[1] نقلا عن لوبروتون (دافيد): انتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة: محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجماعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993 ص 144
[2] نيتشه (فريدريك) : هكذا تكلّم زرادشت، ترجمة : فليكس فارس، دار العلم، بيروت، لبنان، بلا تاريخ ص 99
[3] المرجع نفسه والصفحة
[4] هذا النصّ هديّة إلى الصديق عادل بالحسين الذي علمني في قريتي أن نقتل القلق بالقول.
[5] بارط (رولان) : المغامرة السيميولوجيّة، ترجمة : عبد الرحيم حزم، دار تينمل للطباعة والنشر، ط : 1 مراكش، 1993 ص : 48
[6] نقلا عن لوبروتون (دافيد) : مرجع سبق ذكره ص : 144
[7] نفس المرجع ص : 149
[8] فروم (اريك) : فنّ الحبّ بحث في طبيعة الحبّ وأشكاله، ترجمة : مجاهد عبد المنعم مجتهد دار العودة بيروت ط 2 -1881 ص : 13