للخريف ما يقول ـ نص : د.الحبيب النهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse22121'' لن تتحقّق السعادة إلاّ إذا حقّق الإنسان حريّته الباطنيّة''
اريك فروم : الدين والتحليل النفسي ص : 10

الخريف فصل كآبتي. وفي نفس الوقت فصل شفائي من أحزاني لأنّي أقاومها بتأمّلات تنزع عني ضيق الأفق وتفسح لي سشاعة الفكرة فأخطّها بيد لم ترتعش قط من الألم حروفا فيها كيمياء متعة الانشراح  كأنّما غزوت بحبر السوداويّة بروج السماء فلوّنت سحبها بأشكال أراها بالنسبة إليّ نصّا لن تقدروا على قراءته إلاّ على ضوء البرق وقصف الرّعود. فأصدع قائلا: لا كآبة مع إرادة العبارة تأتي كالمطر تطهّر أحزاني وتتصدى لقوى التدمير اللامرئي في ذاتي وخارجها.

***


وكنت أسترق النظر لجماليّة كون كلّ يوم في شأن، متسليّا بتأمّل ذاتي متحركا في قلب السكون ودموعا من عينيّ تراقص أشعة الأضواء وتنبثق من السّماء معانقة سحبا متناثرة فيها في بعض الأحيان قوس قزح كألوان بهجة الحياة تدعوني أن أمسك بأسرار قوّة كانت تخترق كآبتي وقلقي المتصاعدين الملتحمين بالأفق فتنفتح ذاتي على روعة الابتهاج باحتفاليّة الطبيعة. فكنت كشجرة ألقت أوراقها المصفرّة تتحلّل في التربة لتمتص غربتي القاسيّة وتعتقني من بؤسي فتستفيق مني الارادة بفعل يستنهض عزمي. لقد لبست حلة الخريف فإذا حبي للحياة يصير أغنية ترددها العصافير وواثق الخطوات في مزالق الطرقات وأكشف عن متاهاتها بما لديّ من علامات ورموز تفكّ أسري من واقع متوحشّ وتزيد الوعي بقوى الشرّ تسلب عن الإنسان إنسانيته وتقذف به في أتون الاغتراب حيث تقمع لذّاته فيجد فيها آلامه وخيبته حيث كان يرغب أن يحقّق أبهى انتصاراته.

***
        كنت كما ترون ماكثا في مكاني منتشيا ومتأملاّ في كتاب الخريف وقد استرجعت في هذه اللحظات بعضا من صفحاته متذكّرا يوما مضى بالأمس لمّا تشوقت نفسي للبحر وكنت أراقبه مختفيا بين نتوءات أحجار تكدست على شواطئه ولولاها ما حمتني من هول مصائبه حيث دوّت عاصفة قويّة اجتاحته كالصاعقة فتصّاعدت أمواجه كالجبال من فرط قوّتها ولكن عظمة البحر وما يحتويه من اسرار جعلته لا يتنكرّ لها ولا تنكر له فالكلّ كلّ متضاد منه وإليه. فكان الموج يلطم موجا والبحر مترنح على أنغامه. فلهذا تساءلت  لماذا أحاول الآن أن أتنكّر لقلقي وكآبتي وهما مني؟ لماذا لا أكون في قوّة الموج أعانق المطلق متمردّا حاضنا عمق البحر، عاصفة من نفسي وإلى نفسي برقا منبعثا يطهر فكري. لهذا اقتدرت أنّ لا أتنكّر لحيرتي لأنّ البحر لم يتنكّر لموجه العنيف. ولن تقدر الآلة الجهنميّة المعولمة على مسخي وتحويل كياني للامتلاك والايجار ولا على فسخ إٍرادي في أن أصير دوما ضدّا لأضدادي.

***
لقد انجذبت إلى الأرض من فرط قلقي فأثقلتني ولذلك لم يكن لي من سبيل إلاّ أن أرجّ ذاكرة الذكريّات وأنتشل منها لحظة شاردة أمحو بها زمن مستعص إلى زمن آخر يستحيل أن يكون ماضيا أو حاضرا بل كينونة حرة ترفض الامتلاك وتسترشد به بوصفه حياة. وحينها هوّت مني اليقين. لم يبق منه غير سؤال استحال امكان الاجابة عنه بسهولة: ''هل كفّ الإنسان عن البحث داخل نفسه عن الغرض الأسمى من الحياة؟'' فعدت أجرّ روحي الحالمة  إحساسا بالدهشة والانسياب نحو باطن لا يزال بكرا مدفونا في أعماقي، حنين أم ولادة موت، فقد أبكاني زمني وكانت الصورة تعاد في ذاكرتي بإيقاعاتها وأنغامها فتهزّ روحي للعمل ومزيد الحبّ.

***
وبعد برهة استفقت من تذكر محتوى صفحات خطّها الخريف لأعود متأملا في معاني صفحات خطّها دمي فاهتزت للمشهد فرائسي ولوحت جاذبيّة الأرض بحيرتي في دهاليز الأسئلة وفي دوّامة الزمن المارد الحائر من هشاشة يقيني وتفاهة يومي. أفكلّما تفتّحت ذاتي وتوهّجت روحي وانتشت تحيّر عقلي في اعتقال هذه اللحظة وتقريبها من انفعالاتي الأخّاذة في إعادة حلم يبرىء جراحي فيتضح لي مسار فعلي فإذا كان الحلم هو لغة المستحيل فإن من ممكن تحقيقه وذلك بالتمرد على الواقع الذي يقمعه ويخرّبه بالاستبداد على حميمية مشاعرنا. حينئذ انشّد بصري إلى حركة أوراق الشجر كانت قريبة مني تحنّ إلى العودة إلى التراب لتحيى من جديد لكن بعثرتها ريح خريفيّة قويّة وسممها التلوث البشري فجعلها عقيما. فكنت أردّد اشته الموت واقفا ثمرة للولادة ويدق جرس الانبعاث معلنا أن ماء وجهي بركة أمّي وكرامة أمّتي.

***
        وها أنّي الآن أتقد حركة متجها صوب مكتبي إذ في هذه اللحظة البراقة من كلّ فصل خريف يزداد غرامي يوما بعد يوم باسترجاع ما قرأته[1]. وكنت أدّق أحجار القلق صوان وغير صوان وأرصّفه في حروفي وأنوي أن أتمّم محتوى كتاب كنت قد شرعت فيه منذ مدّة. ولكني في هذه المرّة لم أغفل أن أدوّن ما استنتجه وما حرك متاريس فكري وذوّقي الروحي حيث كنت أضيف إلى معانيه أحاسيسي الخاصة الفياضة واستطعت أن أوقظ فيّ نشوة التأمّل في الحياة والموت كأنّما أعدت كتابته بطريقتي الخاصة ولهذا فقد لاحظت إنّ صلتي بما أقرأ يقوّي صلتي بنفسي وصلتي بنفسي تقوّي عزمي في التصدي لقمعي فالقراءة تقربني من عمقيّ الباطنيّ وتعطيني دفعا حقيقيا للوجود. ولكن لماذا أغلب الناس نسوا أنّ يسألوا هذا السؤال؟: ولماذا انعدم فيه ''الاتصال الظاهري بالباطني وانشق الفكر عن الوجدان؟'' سؤال محرج لأنّ الإجابة عنه أليمة وفاضحة لمكر الذات المسترابة ذلك أنّ الإنسان رغم ما أبدعه من أشياء رائعة إلاّ أنّه أخفق الجهد في تذويب روحه في مشروعه المتمثّل في استئناس الطبيعة والسعي المستميت في إسعاد نفسه وغيره من الكائنات. ولهذا أدركت أن العلم يجب أن يكون بالنسبة إلى الروح فتحا وتمكينا يتجلّى سلوكا ممتلئا رمزا وحركة لأنّ غايته تمجيد الإنسان والرفع من شأنّه وإعادة إنسانيته المجروحة وبالتالي النجاة من السقوط في عمى المعنى القامع والقاتل والعدميّة المقيتة الموقوتة التي لا تبشر سوى بالفوضى. فأيّ كلمة تبشر بالإنسان السلمي له قوّة منطق وعقل عوضا عن قوّة يد ونزعة بطش؟ أجبني أيها الماكر لأنّ إرادة الإنسان الحرّ ستمكر بك كما مكرت به.

***
 حينئذ  توّضحت لى إشراقة حروف مضيئة لظلمة الخريف قرأتها وتذوّقتها بمنظور يلامس اللامنظور، إشراقة وعي بمعرفة تكشف عن سرّ الحياة ولغزها بما فيها من حبّ وعدالة وبما هي وعي بشرّ نصده بهروبنا لخير أسمى قد يكون واثبا فيه فمتى استثمرنا الخير حتّى لمن قصد شرّا. وأنا بهذا أعيد السؤال إلى نفسي كأنّما أسأل السؤال لكي أعيد بلغتي الخاصة أفكاري وبما تبقى من أحلامي وتجاربي الوجوديّة مذاقها طعم الملح أحتاجه عقلي حتّى لا يتعفّن في عالم يصادر العقل باسم العقل وحيث يجن جنوني للمفارقات الممزقة. وكل ما أقرؤه من معاني يكون حطاما في أروقة ذائقة التلقّي لديّ فأعيد بناءه برؤيتي العطشى للإبداع الجذّاب. فالقراءة البصيرة للمعاني تشبع جوعي ونهمي للفهم وعطشي لإعادة الفهم من أجل الفهم لما يعجز البديهيّ عن الافهام. فلم تكن كلماتي إلاّ صدى دهاليز نفسي مبعثرة في نظامها وباحثة عن سؤال : لماذا يسير العالم هكذا وإلى أين؟ ويتصرّف الناس هكذا وما الحلّ؟

***
        كانت المعاني مسكّنات لوجعي الروحي وحيرتي الوجوديّة ولكن ما لم أتمكن من تفسيره هو هل يمكن أن أفسّر ما لا يفسّر بما لا يفسّر؟ عندئذ أعيد تأملاّتي في اللحظات الشاردة لا أقوى على شيء وخشيتي من أن يدمرني الشرّ وكان علي حينئذ أن أواجه الغربة وأطموح للتمكّن من الحياة والمزيد منها وهذا لا أراه سوى خروجا عن الحياة نفسها.

فماذا سيجني الإنسان عندما يحوّل حزنه وقلقه وألمه إلى نصّ يكتبه بعبارة خاويّة لا تتسع لعمق الجرح؟ لذلك أراني أودع خيبة نفسي على أنغام الفواجع والدموع... وما هذه الرغبة الجامحة للكتابة إلاّ خنجرا ينسلّ من رغبتي في الحياة ومقاومة كلّ أشكال المستحيل إلى ما هو ممكن... لقد كنت غريبا لأنّي أتمثّل الغربة بما يعيد لي دمار ما نحن في حاجة إليه وهو الحلم الموقظ للاكتشاف والتجلّي في الوجود عقلا وقلبا وحركة...ولقد ظلّ هدفي ينصبّ على ''إظهار قدرة الإنسان على الحبّ والتفكير وكلّ مزيد من الوعي يساعده على أن يصبح أشدّ ثقة بنفسه''. هذه غايتي التي قذفت في قلبي فجعلتني أطمح إلى أن أكون واقعيّا دون أن أتخلّى عن حريّتي العميقة والمتجذرة في روحي. إنّها معادلة صعبة إلاّ أنّها ممكنة مادامت الروح لها قوّة كقوّة الريح وما دام للعقل فعل وفي الفعل حلم كان للخريف ما يقول.

الحبيب النهدي (تونس)

[1] - اريك فروم: الدين والتحليل النفسي ترجمة : فؤاد كمال دار غريب للطباعة القاهرة طبعة دون تاريخ