قَطْعُ الوَهْم ـ قصة : عبد الواحد الزعيم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse28102      في يوم من أيام آذار البارد جدا ذات مساء، وفي غفلة منّي انسحبتُ منّي، وكقطعة سكر سقطتُ في فنجان قهوتها، ذاب بعضي وترسب بعضي الآخر في قاعه..
     نظرتُ إليّ من الطاولة المقابلة لأشهد حتفي، وبشفتين قرمزيتين رشفتْ بعضي الممزوج بنكهة قهوتها، فلامستُ أحمر شفاهها وتسللتُ لأمتزج برضابها الشّبيه بشراب معتّق... جرعتْ ما كان قد امتزج منّي بريقها حين رنّ هاتفها، وردّت، وما أن أنهت مكالمتها تلك، حتى عادت لتحمل الفنجان ثانية وترتشفَ منّي ومن قهوتها رشفة ثانية وأخيرة، ثم سكبت ما تبقى منّا على نبتة ورد جوري وانطلقت.

ولأعماقها (النبتة) تسرّبت عبر شقوق الأرض، فكان أن ارتطمت بجذورها الكالحة، كنت ضيفا وكانت أكرم الضيوف، كنت العربيد المفلس الذي أنهى زجاجته الأخيرة عند منتصف الليل في حانة مهترئة، وخرج للشارع الكئيب الخالي إلا من ضوء مصباح لم يفلح الأطفال في تكسيره بالرّغم من محاولاتهم العديدة ليبحث عن ركن يلوذ به من قرّ الليل وكانت أدفأ ركن أحتمي به، كانت سخية معطاءة كريمة؛ كريمة إلى حد منحها إيّاي حياة أخرى، ولونا وعطرا آخر حين أنبتتني وردتين لا تشبه أي وردتين.
      وفرحا كنتني أتراقص وهي قادمة لتجلس حيث جلست آخر مرة وغادرت بعد أن تركتني مبعثرا، وها هي اليوم عائدة لتجدني قد لملمت ما يمكن لملمته وصرت وردتين تغريان الناظرين، وتضفيان على المكان رونقا وجمالا خاصا. ومن على الطاولة المقابلة كما في المرة السابقة أنظر إليّ وإليها معا؛ أنا المنشطر نصفين على شكل الوردتين وهي الجالسة جلسة الأميرات، أراها تراني ولا تراني، بتمعن تنظر إلى بعضي وتغض الطّرف عن بعضي، ثم تعود لتغرق في مشروبها المرتب بعناية من قبل النادل، وعلى غير العادة لم يكن قهوة كما في المرة السابقة. غريب هو أمر النساء يغيرن عادتهن وأحلامهن بتغير وتنقل عقارب الساعة من رقم إلى آخر، كان الله في عون مركبهن الذي لا يعرف طعم الراحة؛ فما أن يرسو على مرفأ ويربطن حباله كي لا يجذبه ماء البحر فيخال المسكين أنه سيعمّر بالمكان طويلا، حتى يعدن فيفكن حباله وينطلقن على متنه إلى وجهة لا القارب يعرفها ولا هن يعرفنها... جالت ببصرها في الفضاء الفسيح، ثم عادت لترمقني بنصف عين، ولكن هذه المرة لتقطف بعضي وتغرسه بين خصلات شعرها، وأيضا لتترك بعضي الآخر؛ صدقا لا أشد ألما من أن يأخذك أحدهم ولا يأخذك، من أن يحبك ولا يحبك في نفس الوقت، من أن يقتلك ولا يقتلك...
      على كتفي ربت أحدهم وأنا الغارق في فنجان قهوتي وقال: أ ستظل هنا ؟  عدت من غرقي إليّ وأجبت: هذا ما يبدو. وجاهدا أعدت ترتيب صور هذياني فانتهيت إلى ضحكة صغيرة ارتسمت على خدّاي، وبحركة عفوية رفعت رأسي وأدرته قليلا كي أشارك تلك الجميلة في ركن المقهى ابتسامتي، فكان أن ردت بأحسن منها جاعلة شيء ما يتحرك بداخلي ويهزني هزا، لحظتها أدركت كم هو جميل الشعور بإحساس كهذا، ولكن، كما قال حسن المرواني في إحدى قصائده:
"عشق البنات حرام في مدينتنا
عشق البنات طريق للغوايات"
ردّدت هذا البيت الشعري وأنا أدفع ثمن جلوسي على كرسيّ يتيم، ثم اندفعت للشارع أجر أذيال خيبتي، فعلا ثمة أشياء لا منطقية ولا تمت للمنطق بصلة يجب أن نعيرها اهتماما خاصا، ولكن وجودنا بالوقت الخطأ و المكان الخطأ يحول دون ذلك.
 صحيح ثمة أشياء:
كالزهور تنبت
ونرسمها
وكالقهوة بالخلايا تنشط
وندمنها
ولكن في آخر المطاف
كالدم النقي
ننزفها.