ذاك اسمي..ـ قصة : رامية نجيمة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse27054بتثاقُلٍ شديد فتَحتْ نعيمة جفنيها.. ماذا حدث؟ تساءلت الطفلة النحيلة. رفعت يدها منهكة، وتحسّست بكفِّها، أجزاء مِن رأسها، وإذا بها كأرض البادية التي جاءت منها؛ حُفر وتلال يابسة. من أين إذن تأتي هذه البقع التي تلوّث أجزاء من ثوبها الكالح؟  تمالكت الصبية نفسها، ونهضت تحبو، حتى بلغت الحمام.بعد مشقة نهضت، وهي ترتكز بكلتي يديها على المِغسل، ثم رفعت رأسها ببطء إلى المِرآة. ما هذا؟ وجه ذاوٍ وعيون متقرّحة، وشفاه مكدومة وجبهة يتدلى منها خيط من الدم ! فكرت نعيمة أن هناك احتمالاً من اثنين: إما أنها نائمة تحلم،أو أنها ميتة !
الدوار وآلام في الرأس شتتت تركيزها. تحسّست بيدها عظام صدرها الناتئ، لم تستطع أن تتبيّن ضربات قلبها.. ومشت تتعكّز الحيطان وكلَّ ما صادفته في طريقها،إلى غرفة مشغلتّها.أصغت السمع فلم تلق غير الصمت.. وذلك هو ماتلقاه عادة حين تكون ربة البيت نائمة. وما أكثر ساعات نومها ! إنها لا تكاد تعيش دون عقاقير مسكّنة تجعلها تنام طوال الوقت. أما حين تستيقظ في الصباح متأخرة، وتجد أن ابنها قد ذهب إلى المدرسة دون أن يفطر.. وأن زوجها قد غادر دون أن تراه، وأنه سيعود بعد قليل إلى البيت، ويفتعل مشكلةحين لا يجد شيئا للغذاء..حين تفكر في هذا كله فإنها تفقد أعصابها، ولا تجد في نفسها إقبالاً على تناول الفطور الذي أعدّته لها نعيمة، إلا بعد أن تصفِق خدود الخادمة وتشدّ شعرها، وتُقرّص لَحم كتفيها وفخذيها ثم تَغرس فيهما أسنانها.. كأن الاعتداء على الخادمة الصغيرة طقس يومي، لا بد أن تمارسه سيدة البيت،وإلا فإن نهارها لا يستقيم..

_ كيف تدعين الولَد يذهب إلى المدرسة، دون أن يفطر ..آبنت لحرام !
تجيب نعيمة مرتعِدة كَطير بلَّله المطر:
_ لقد طلبت من سيدي عماد أن يتناول فطوره، لكنه رفض يا سيدتي !
_ ماذا تقصدين بـ رفض؟ أنت قطعًا لم تجهزي الفطور في الوقت المناسب، أنا أعرفك. وأعرف طباعك.. وأنه ليس لك من شاغل إلى مراقبة الناس عبر الشُرفة. إنها ذات الشرفة التي سأرميك منها إلى الشارع ذات يوم يا كلبة يا بنت الكلب !
_ أقسم لك يا سيدتي، أني جهزت الفطور قبل أوان استيقاظ سيدي عماد بساعة، ولكنه استيقظ متأخرًا وقال إنه سيشتري بسكويتًا وعصيرًا في طريقه إلى المدرسة !
_ كذابة، الله يمسخك ! أنتِ أيتها البدوية القذرة تعرفين طبعا زيت الزيتون؟ أنا اليوم سأستخرج منك زيت اللحم والعظم !
وتُقسم نعيمة أنّها فعلت كل ما أمرتها به سيدتها، ثم ترجو، وتتوسّل، واليد السمينة تأخذ بمخنَقِها.
ثم تخلع صاحبة البيت نعلها، المطاطي وتنهال على فخدي نعيمة الضامرين ضربًا، حتى يرنّ في أذنها صوت اللطمة، كان ذلك يجلب لها متعة عظيمة، وينسيها أمر ابنها الذي بالكاد تلقاه، وزوجها الذي ما يخرج من علاقة غرامية حتى ينغمس في أخرى.. كان ضرب نعيمة وتوبيخها يُلهيها، وينسيها همّ الأيام.. كان يمنحهالذة غريبة، سرعان ما تشعر بعدها باسترخاء يقودها إلى السرير رأسًا، لتغطّ في نوم عميق.. ثم تستيقظ ليكون أول ما تفكر فيه هو نعيمة.
_ هل تناول سيدك الغذاء؟
_ لا يا سيدتي هو لم يأت إلى البيت من الأصل
_ وسيدك الصغير؟
_ هو أيضًا لم يأت يا سيدتي.
تجز السيدة أسنانها بمرارة وتشعر بالغيظ يلهب نفسها. لِم لم يعد زوجها وابنها إلى البيت للغذاء؟ لعل الأب مرّ على ابنه في المدرسة، وأخذه ليتناولا الغذاء في الخارج، وطبعا نعيمة هي السبب !
_ أرني ما طبخت، تصيح ربة الدار، ثم تتوجه رأسًا إلى القِدر، ترفع غطاءه وتلقي نظرة مشمئزة:
_ ما هذا القرف؟ لماذا البطاطس معجونة على هذا النحو؟ ولماذا المرق شديد الاصفرار؟ ولماذا وضعت كل هذه الكمية من اللحم؟ ولماذا..؟ ولماذا..؟
ومهما يكن جواب نعيمة، فإنه لا بد أن تستقبل من الركلات واللكمات ما يكفي لتفريغ شحنة الغيظ التي تخنق مشغلتها.
لكنّ ما حدث هذا اليوم كان مختلفًا جدًا. إنه نتيجة الشجار الذي حدَث بالأمس بين السيّدة وزوجها على مائدة العشاء، والذي صار أعنف عندما أصيب الابن بنوبة بكاء جراء العراك اليومي بين والديه. ولأنّ المعارك الكبيرة غالبًا ما يدفع ثمنها الصغار، فقد كان لابد لنعيمة أن تنال نصيبًا أجّلته لها ربة البيت حتى الصباح. وكل ما تذكره نعيمة الآن، أنّ مشغلتها استيقظت متأخرة كالعادة، وكالعادة كان ابنها وزوجها خارج البيت، وكالعادة أيضًا كان لا بد أن تجد حُجّة لتوبّخ نعيمة،وتهوي عليها باللكمات،هي التي تفوقها طولاً وعرضًا. ثم حلّ الظلام في عَينَي نعيمة فجأة، وسقطت مغشيًا عليها،وما كان من صاحبة البيت إلا أنعمدت إلى كيّ الفخذ الضئيل كفخذ ديك رومي، بشوكة ساخنة حتى تفيق صاحبته من غيبوبتها.. ولما لم تفلح تناولت مسكِّنا ثم غطّت في عالم الأحلام..
لا تعرف نعيمة الآن كم مرَّ مِن الوقت على هذا الحادث الدامي. ورغم أنها بالكاد تستطيع الوقوف، إلا أن فكرة الرحيل قفزت من رأسها وحطّت قبالة عينيها، عنيدة كذبابة تبحث عن حتفِها.
_ لكن إلى أين يا بنت البادية؟
_ لا أعرف؟
_ هل تعرفين أحداً في هذه المدينة؟
_ لا
_ كيف ستتصرفين .. وأنت لا تملكين نقودًا؟
_ سأقف بجانب أبواب المساجد.. لا، سأذهب إلى المحطة الطرقية واستجدي من المسافرين ثمن التذكرة..
_ وهل تعرفين أين توجد المحطة؟
_ سأسأل الناس
_ وهل تعرفين كيف تعودين إلى بلدك؟
وهنا انتهى هذا الحوار الداخلي، بعد أن شعرت نعيمة أن عقلها قد توقف عن التفكير. لكن هذا لم يمنعها من أن تنقذف بجسدها الصغير وبكل ما تبقى فيه من جهد خارج الشقة، ثم تنزلق عبر الدَرج حتى تصبح خارج العمارة، لتَمشي، مِشية كلبٍ ضال..بلا وجهة، ولا زاد، ولا صاحب، ودليل.
هذه هي المدينة، بطوبها وآجرها وإسمنتها وعرباتِها ودُخانها.. هذه هي المدينة التي كانت نعيمة تَواقة للعيش فيها، متلهِّفة للتجوّل بين بِناياتها.. لَم تكن تعرف عن المدينة أكثر من أنها مكان ساحر.. هاجر إليه الكثير من أبناء قريتها.. بحثًا عن شغل. أو تعليم أو علاج.. المدينة هي كنز المساكين، وجنّة الزاهدين ممن اكتووا بشمس البادية وعطشها. أما نعيمة فإنها كسائر أطفال القرية، لم يكن بإمكانها النظر إلى المدينة إلا باعتبارها المكان الذي يجمع كلُّ الأشياء البديعة والماتعة التي لَم تكن متوفِّرة في قريتها الفقيرة: الدَّباديب الناعِمة، والدُمَى الشقراء المكتنزة، والدراجات الزّهرية، والحَلوى المُلوّنة، والشيكولاتة المُشكَّلة... وإلا فأين يُمكن أن تكون؟
كانت نعيمة تحلم أنها ستكبر، وتصبح مثل نساء المدينة الفاتنات.. ستُشذِّب هي الأخرى حاجِبيها، وتُخضِّب شفتيها، وتحمل في يدها حقيبة لامِعة.. ستصبح بَشرتها صافية اللون، وشعرها سيصير أنعَم؛هذا ما فهِمته من أمّها، وهي تسمَعها تقول دونما مَرة : إنّ نساء البادية يسمَرّ جِلدهن ويتشقّق مِن فرط التعرّض لأشعة الشّمس.. أما نساء المدينة فلا يخرجن إلى في أوقات قليلةً محدّدة، ودائمًا تتوفر لهنّ المراكِب ومراهم العناية الباهظة.. هذا ما كان يدور في خَلد الصبية اليانعة عندما جاء بها أبوها أوّل مرة مِن القرية. وعبر نوافذ الحافِلة التي أقلّتهُما إلى المدينة، وبكثير من الدهشة والاشتهاء؛ تابعت العينان الخَضراوان بائِع المثلجات، ومَدينة الملاهي، والطفلات البيضاوات، والشابات الأنيقات.. وأيقنت ذات الوجه الصبيح.. أنها تحُطّ رجليها على أوّل الفرح.
ثم اختفت المُثلّجات، والألعاب، والدمى الشقراء، والدَّباديب الناعمة، ومدينة الملاهي، والدراجات الزّهرية، وجَمال الشباب.. واختفت معهم الطفولة الغضة. ولم تظفر نعيمة في آخر المطاف بغير نَعل مُمزَّق وسِروال مَثقوب من موضع الرُّكب.. أأخطأت نعيمة حين انتظرت من المدينة أن تعطيها السعادة؟
لعلّ المدينة لا تمنح السعادة لأحد..
فلماذا إذن تبدو على الناس الذين تصادفهم الآن في طريقها، سيماء الاكتفاء والفرح؟
لِم تعاندها المدينة هي وحدها ؟
هل تدوس المدينة الغرباء، أم أنها تدوس صغار السن ضِآل الحجم أمثالها، أولئك الذين لا يهتم لأمرهم أحد؟
واصَلت الصبيّة سيرَها لا تعرف إلى أين. حاولت أن تنفخ رئتيها، لكنّ الهواء شَحيح، مَع أنّ الفصل ليس صيفًا.اضطرت إلى التنفُّس مِن فيها، لكن يبدو أن الهواء المتوفّر هذا اليوم، لا يكفي كلّه لملء رئتيها الصغيرتين.. وليكن ! واصلت نعيمة سيرها بفَمٍ مَفتوح وعُيون ضائِعة.. كانت تَمشي لأوّل مرة بلا خَوف، بلا أية مشاعِر.. ماذا يُمكن أن يكون على الأرض أسوء؟
طالما راودتها فكرة وضع حدٍّ لحياتِها السخيفة. وما مَنعها عن ذلك إلا أنها سمِعت، ذات يومحين كانت في البادية، أنّ مَن يقتل نفسَه، يذهب مباشرة إلى الجحيم، وهو مكانٌ مُظلم، سقفه لَهب وأرضه لَهب، وحيطانه كلّها لهب، يُشوى فيه البشر الخطاؤون كما يُشوى اللحم على السيخ.. وأوّل الخطائين أولئك الذين يقتلون أنفسهم ! لكن كيف هو الإحساس بالموت؟ أهو غياب تام عن الوعي؟ ظلام أجوف فارغ من كل شيء؟ أم شكل آخر مِن أشكال الحياة؟
ظلَّت نعيمة تمشي وتمشي.. لا تعرف إن كانت تجرّ قدميْها أو أنهما يجرّانها، فالعقل مُغيّب، والجسد مفقود كلُّ إحساسٍ به.. أما عقلها فلا يزال يجترّ نفس الصور، كأنّها مشاهد مِن فيلم تراجيدي:
_ ماذا تنتظرين لتُحضّري الغذاء يا بنت الكلب؟
_ أنتظر أوامرك يا سيدتي لأعرف ماذا أطبخ
_ فلينتظرك جنّي يا بنت العاهرة، لماذا لم تجهزي أيّ شيء ياكلبة؟
_ خشيت أن أتصرّف من تلقاء نفسي كما فعلتُ أول أمس، فتضربيني يا سيدتي !
_ خفت أن أضربك؟ طيب أنا الآن سأفقأ عينيك الوقحتين يا قليلة الأدب !
وأقفَلت نعيمة جَفنيها المضطرِبَين على عجل.. وكأنّ العيون بيت الذكرى و الجُفون هي الأبواب..
مرّ وقت طويل، ونعيمة لا تزال تمشي وتفكّر: أمّها الطيبة المكافحة، التي تستيقظ والناس نيام، لتحلب، وتحتطب، وتستقي.. عاهرة؟ وأبوها العجوز المِسكين كَلب؟ ولماذا الكلب بالتحديد؟ ألأن الفقر قهره وأرغمه على المجيئ في آخر كل شهر إلى حيث تشتغل ابنته، ليقبض أجرتها ذليلاً متذللاً، يلهَج بالدُّعاء ويقبل الأيادي ؟
 لَم تعد نعيمة تشعُر بجسدها، لكنَّها تستطيع أن تُحسّ بسيل حارٍ بطعم الملح .. وهو يتدفق على شفَتيها.
أهو الوقت صبحًا أم ظهرًا أم عصرًا؟
لا تعرف نعيمة.فقد فقدت كلّ إحساس بالوقت. ولم تنتبه إلا بعد أن حلّ الظلام وكادت الرؤية تنعدِم.. كانت مُشغِلتها كثيرا ما تصفها بالعمياء.. ومَن يعرف لعلَّها عَمياء فعلا؟ فلم يسبِق لها أن أجرَت أيَّ فحصٍ طبي، ولَم يسبق أن قابَلت أشخاصًا آخرين خارج بيتَ مُشغِّلتيها حتى يُشيدوا بقوّة بصرها أو يدّعوا العكس.. ومهما يكن، فإنّ هناك شيئًا واحدًا فقط نعيمة واثقة مِنه تمامًا، وهو أنّها الآن واقفةٌ بالقُرب مِن محلّ مُتخصّص في صِناعة شَواهد القبور، وعلى واحد مِن هذه الشواهد الرُّخامية المَعروضة على الرّصيف، كُتب اسمُها الكامل، بحبرٍ أَسود ثَخين...
نعيمة لا تَعرف إلى القراءة أو الكِتابة سبيلا، لكنّها تَعرف اسمَها جيّدًا، وتحفظ طريقة كتَابتِه عن ظَهر قلب.. ذلك أكثرُ شيء حرص والدها على أن يعلّمها إياه حين كانت في البادية، ولَم يكن بوِسعه أن يُعلِّمها أكثر، فهو نفسه بالكاد يعرِف الحُروف.
 شعَرت بإحساس غريب.. وتنبّهت فجأة إلى أنّها لا تدري كَم مضى من الوقت على خروجها من البيت.. ساعتان؟ يوم؟ نصف يوم؟ وتساءلت:
أيُعقل أن أكون قد مـ..؟
 صرخَت بصوتٍ مدوٍّ، وسقَطت على رُكبتيها أمام الشاهِد، ويدها المرتجفة على فَمها. هُرع صاحب المحلّ ، الذي كان في الداخل وقد راعَته هيئة الفتاة التي انبَثقت فجأة مِن العدم، وتمثّلت أمامَه مُتصلِّبة ذابلَة كجُثة !
_ باسم الله عليك يا ابنتي، هل تعرفين المَرحومة صاحِبة هذا الشاهِد؟
لَوت نعيمة رأسَها نحوه وحدَّقت فيه بعينين جاحِظتين، ثمّ أطلقت صَرخة مكتومة، وهي تُقلِّب بَصرها بين الرّجل والشاهد، ثم استجمعت شظايا قوّتها لتقول بِصوتٍ ضعيف مرتعش:
_ تقول مرحومة؟ إذن هي ميتة؟
_ نعم يا بنتي، للأسف هذا هو حال الدنيا، الموت هو مآلنا كُلنا !
انبطحت نعيمة على بطنها، وصارت تنتحب وهي تتمرغ في غبار الرصيف.. لقد بكَت كثيرًا في عُمرها الذي كان قصيرًا جدًا، لكن بكاءَها هذِه المرّة مُختلف، إنها تبكي نفسَها، تبكي موتها الخادع.. آسفة هي الآن، لأنها حين تمنَّت الموت ذات يوم، لَم تعرف أنها ستُشفق على حياتِها البئيسة إلى هذا الحد.
سرعان ما تجمهر حشد من الناس حول نعيمة التي كانت تتلوى على الارض كثعبان متوجّع؛ تنتحب تارة، وتشهق أخرى، ثم تصرخ وتلطم.. وكلهم أخذوا يُصبِّرونها على مُصابِها، ويعزّونها في وفاة هذه الإنسانة التي يبدو أنها كانت عزيزةً عليها.
هدأت مواساة المتحلّقين مِن روع نعيمة. فأرخت كفّيها من على وجهِها، وتبدّت للملأ بنُدوبها وحُروقها وشُحوبها وشعرِها المنكوش وعينيها الحمراوين وشفاهها البيضاء، وأسنانِها المسوّسة.. ثم صرخت كأنّما انبعثت الحياة فيها فقط كي يتسنى لها الصراخ:
_ ذاك اسمي !
وصمت الجميع..
شهقت نعيمة.. تمخطت.. ثم أضافت:
_ ذاك اسمي على شاهد القبر !
 شعَر بعض المحتشدين بشعر رأسهم وقد انتصَب فجأة، وأصيب آخرون بالغثيان. أما صاحب المحلّ وثلة من الرُّشداء فقد حاولوا إقناع نعيمة بأنّ كلّ ما في الأمر هو تشابهٌ في الأسماء.. وسألتها نبيهة من المتجمهرات :
_ كَم عُمركِ يا صبية؟
_ ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما .. لا أعرف !
وتركّزت العيون كلُّها على الشاهِد الرخامي..
"المرحومة نَعيمة بنت الجيلالي المولودة في06/02/2002 والمتوفاة في07/10/2015"
نظر المحتشدون إلى بعضِهم بعض؛ثم ساد سكون شرع الجمع خلالَه في تأمُّل نعيمة.. إنّها حقّاً تبدو كشبح ! فيها كلّ ملامِح الجثث؛ كدمات، وبقع دماء، وسحنة مصفرّة، وعينان شارِدتان، وأطرافٌ متيبّسة.. لكن أيعقل ذلك؟ وقبل أن ينبِس أحدُهم بكَلمة، أردَفت نعيمة بكَلمات متقطّعة يفصل بينها أنين مكتوم:
"لقد ضربتني مُشغِّلتي، اليوم، أو أمس، لا أتذكّر.. ضربتني على رأسي، فَفقدتُ وعيي، وحين أفقت، وجدتني على هذه الهيئة.. أنا لَم أكن أعرِف أني متّ! يا إلهي أنا ميّتة ! ميّتة ! ميّتة !
ثم كشَفت نعيمة عن رأسِها وإذا بِدماء مُتجلطة على جرحٍ مَفتوح.. وفي طرفة عين.. سادت وشوشة وزعيق، ثم تفرق من حولها المحتشدون، حتى صاحِب محلّ الشواهد، تركَ باب محلِّه مُشرعًا، وأطلَق ساقيه للريح وهو يفرك عينيه، ويُبسمِل ويحوقل..
ولما رأت نعيمة مشهد الفارين وهم يتدافعون في الظلام، ويصرخون.. أصبحت صدمتها صدمتين، آه، إذن لقد ماتت بالفعل !
انطلقت الصبية _هي الأخرى_ تجري بكل ما أوتيت من قوة. أولئك الذين كانوا محتشدين حولها قد فروا خوفًا منها،وهي أيضا خائفة من شيء ما، من شبحها ربما؟ لم تستسغ أنها ماتت، أنها أصبحت شبحًا يهرب منه الناس. ماذا ستفعل أمها؟ ماذا سيفعل أبوها؟ وإخوتها الصغار.. ألن تراهم مجددًا؟ أم أنها ستراهم ويرونها؟ هل يرى الميتون؟ ثم ماذا لو علموا أنها ميتة؟ هل سيقبلون إقامتها معهم؟ أم أنهم سيفرّون كما فرّ كل الناس مِن حولها؟
صارَت نَعيمة على ضعفها، تجري وتجري.. قدماها المضطربتان صارا يطيران بهابلا بوصلة. وما إن صارت وسط الشارع تمامًا، حتى تلقّفتها سيارة عابرة، وألقتها على جانب الرصيف..
توقّفت السيارة، وهرع صاحِبها نحو الجَسد المُمدّد، وهو يتصبَّب عَرقًا، تلمّس اليد الخائرة وجسَّ نبضها،ثم نظر إلى أولئك القوم الذاهلين المُترقِّبين الذين تَحلّقوا حَوله من بعيد، وهو يصيح:
إنها لا تزال حيّة ! لا تزال حيّة ! رجاء، فليتّصِل أحدُكم بالإسعاف.. !