حبّ الصُدفة 5 ـ قصة : خيرالدين جمعة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse01051القدر لا يعبث إلا بالجميلات !!!
صدفةً التقيْنا ، صدفةً افترقنا ، و ما بين الصدفة والصدفة ارتسمتْ حياتنا لوحةً باهتة من الفرص الضائعة ، رسَمها القدر الساخر فأمسينا نبحث عن ذكريات أفَلتْ قاتمةً مثل غيوم الخريف ، كاذبةً مثل أحمر الشفاه !!!!!!!
صدفة 1:
في بداية السنة الدراسية لم يكن لمدرّسة الرياضيات حلّ لتهدئة صفّنا المشاغب إلا بأن تضع كل شاب بجانب فتاة ، نظرا لكرهنا المزمن للرياضيات ، و في اليوم الذي وضعتْ  فيه الأستاذة كل طالب وطالبة في طاولتهما المحدَّدة ، و نتيجة لنزول المطر بغزارة في الليلة الماضية ، تأخرتْ الحافلة التي تُقلّني من قريتي إلى المدرسة الثانوية ،و حين دخلتُ متأخِّرا وجدتُ المدرّسة تخاطب إحدى زميلاتي الواقفة  و قد كانت الأخيرة و الوحيدة التي لم تجد لها رفيقا ، نظرتْ إليّ الأستاذة بامتعاض و هي تتأمل هيئتي عند الباب ، كنتُ أضع كتبي تحت إبطي و ألبس بنطال جينز شمّرتُه قليلا إلى فوق مُجاريًا موضة الشباب في تلك الأيام  ووضعتُ قميصا يكشف بشكل فاضح عن شُعيرات صدري ، ونعلاً من العظم القاسي قد تلوّث بالأوحال ، يُطلق صوتا مدوّيًا على أرضية الصف مع كل خطوة أخطوها ، هتفتْ المدرِّسة و هي تشير إليّ في سعادة:
-هذا زميلك....!!هذا يناسبك ....إنه على قياسك !!!

ثم أمرتنا أن نجلس في طاولة آخر الصف.
 كانت أشدّ الفتيات صخبا وأكثرهن جرأة و حيوية ، فما إن جلست بجانبي حتى أخذت قلمي و بدأت تكتب به دون أن تكترث لي ، بعد برهة قالت لي :
نسيت قلمي ، اسمع يجب أن نتفق أن كل ما هو على الطاولة مشترك بيننا ....
صافحني جمالها كمرْج راقص أو كقبلة خاطفة لعاشقيْن في محطة قطار ،  تنسكب الخضرة من عينيها فجرا من الضياء  ، شعرها تلفّح بسواد الليل و خفة الربيع  ، بدا جريئا رغم أنها قد قصّتْه على تسريحة ميراي Mireille، كان ذلك الشعر يصفعني هواؤه في إثارة إذ يتراقص خفيفا مع كل التفاتة منها إليّ...تحدثنا طويلا في كل شيء و لم نشارك في البحث عن المجهول في المعادلات الرياضية!!
يومها قالت لي :
لقد صدّعت  رأسي بالسينما الإيطالية و فلم العرّاب و نجمك المفضل  Alpacino و لذلك حتى تخفف قليلا من هذا الكلام المملّ ، قررتُ من الآن فصاعدا أن أناديك باسمٍ لن يناديك به أحدٌ غيري حتى لا  تنساني أبدا....سأناديك  : ألبيرتو ALBERTO  أليس اسما جميلا ؟؟! إنه  يناسبك أنت وأفلامك ورواياتك التي تقرأها وطلعاتك ..!
و ضعتْ راحتها تحت ذقنها معتمدة على مرفقها المستند إلى الطاولة ، تحدّق فيّ وكأنها تبحث عن شيء في وجهي ثم قالت :
.....أتعرف لديّ شعور أنك يوما ما ستكون فنانا ، مسرحيا أو شيئا من هذا القبيل إحساسي لا يخطئ أبدا ......
انتبهتْ إلى نظراتي تتملّى غسق شعرها الحالك ، حرّكتْ رأسها كطفلة صغيرة فتناثر شعرها خيوطا من الليل ثم عاد إلى تسريحته الدقيقة خطًّا من الليل  يحيط بقمر من الياسمين  ، مدَّت رأسها مبتسمة و سألتْني :
يُعجبك أليس كذلك ؟؟
رغم أنني في المرحلة الإعدادية  كنتُ دائما أنظر إلى زميلاتي في الصف كأخوات لي و لكن هذه المرة اختلف الوضع و انقلب ، إذ شيئا فشيئا تحوّلتْ كل الحصص إلى رياضيات ، أخيرا وجد كل واحد منا المجهول الذي طالما بحث عنه ! و أصبحنا لا نفترق أبدا ، كنا في الصباح ندخل بوابة المعهد مع بعض و عند الفسحة الساعة العاشرة نتجول في الساحة ثم نجلس على حوض شجرة كانت تشهد على كل أسرارنا  ، و في بعض الأحيان نذهب إلى محل المرطبات القريب من المعهد و قد نبقى في الساحة لنشهد بعض الإضرابات  أو نحضر حلقات نقاش ينظمها طلاب مدرسة المهندسين العليا  و  بعد انتهاء الدراسة نخرج من المعهد سويًّا بل إن ليلى أضحت تترك حافلة وسط المدينة لتركب معي حافلة قريتي فنظل مع بعض مدة عشر دقائق إضافية ثم بعد ذلك تنزل في محطة باب بحر عند المغازة العامة ...تعودتُ عليها ، كنتُ أشعر بها كالنفس أو كالظل الجميل حتى أصبحتْ نهاية الأسبوع عندي أطول من الدهر كله !!
ذات يوم قالت لي هي تخبِّئ رأسها وراء زميلها الذي يجلس أمامها :
قل لي ألبرتو ...ألا تؤمن بالصدفة ؟؟ ..ألا ترى أنه لو لا تأخرك في ذلك اليوم الماطر لما جلسنا إلى جانب بعضنا في كل حصة رياضيات و لما تقرّبنا من بعضنا البعض ....أتهتم لمسألة الصدفة؟
أدرتُ رأسي يمنة ويسرة علامة النفي ...
واصلتْ هامسةً بكل جدية :
ما لا تعرفه أن للصدفة أرقام ، و أقوى صدفة هي الخامسة ....و لأن الرقم خمسة سحري و مقدس فإن الصدفة الخامسة إما أن تكون سعيدة أو تكون مأساة !!....ونحن الآن نعيش الصدفة الأولى ..! و أشارت بسبابتها وهي تحرك رأسها و تمدّ عنقها كطفلة صغيرة : إنها الصدفة رقم 1 !!
صدفة2 :
آخر شهر في الدراسة تغيبتْ ليلى بن عثمان ، أحسست غيابها يحوّلني إلى خواء  إذ أن ضحكتها و بسمتها تملآن المكان بصخب و عنفوان  ......
في تلك الأثناء ، انتقل أبي للعمل في تونس واستعدّتْ عائلتنا كلها للانتقال إلى العاصمة  ، فذهبتُ إلى الإدارة  الجهوية للتعليم بالمدينة  حتى يوقِّعوا لي على سجلِّي المدرسي نتيجة لخطإ في إحدى الوثائق ، كنتٌ أسرع الخطو خوفا من انتهاء وقت العمل لأنني كعادتي دوما وصلتُ متأخرا ، حين لمحتُها من بعيد تراقص النسيم مع كل خطوة بساقيْ عارضة و شفاه ملاك تقتل من يعترضها بابتسامة جريئة و مشيةٍ تنضح بالحياة ، تبدو من بعيد أكبر من سنها رغم ميدعتها القصيرة الزرقاء القاتمة وبنطالها الجينز الضيق ..و ما إن رأتني حتى أخذت تقفز رافعةً يدها مناديةً بأعلى صوتها  :
-ألبيرتو ...ألبيرتو !
طلبتُ منها أن تخفّض صوتها بوضع سبّابتي على فمي وأنا أقول  لها مصافحا :
ألن تناديني باسمي ؟؟!
أجابتني وهي تحرّك رأسها باستفزاز ضاغطةً على لسانها في دلالٍ عند تلفّظها لحرف اللاّم :
لا ...لا ...لا ...لن أناديك إلا بألبرتو حتى لا تنساني أبدا...
سألتُها :
ماذا تفعلين هنا و لماذا تغيبت كل هذا الوقت ؟
كان أبي مريضا....أنا هنا  لأقدّم طلبا من أجل  دخول مدرسة ترشيح المعلمين ..يجب أن أدخل مجال العمل في ظرف ثلاث سنوات ، لا أستطيع دخول الجامعة ، يجب أن أساعد أبي.. ظروفنا المادية تسوء يوما بعد يوم فأختي الكبرى ستتزوج هذا الصيف ، أنا آسفة يا ألبرتو .....مسألة الصدفة كانت فكرة خدعتُ بها نفسي ..
أجبتها بسرعة :
و لكنني أصبحتُ أومن بها ...
سألتني مغيّرة الموضوع :
هل أتممتَ معاملتك؟
ليس بعد !!
أنت دائما متأخر ...هيا بسرعة ...أنا سأنتظرك في الخارج ....
وقفنا عند الرصيف تحت شجرة ....بدت لي ساهمة تتطلع في العابرين بلا هدف ، قالت لي  و الحزن يتخلل نظراتها الهاربة :
....ألبرتو لا أدري ماذا أقول لك ...ولكن الظاهر أن ما نعيشه لن يؤدي إلى شيء ...نحن مازلنا صغارا و الواقع ....الواقع أمرّ من أن نتخيّله...
واصلتْ و قد خانها صوتُها والكلمات  فساحتْ الدموع على خديْها في خجلٍ وهي تنتفض فلم تستطع  حتى النظر إليّ...قالت و الكلمات تتقطّع من فمها في وحشة وارتعاش :
-لقد...لقد.... كنتَ.... أجمل.... لحظة ...في حياتي ...!!
يومها نزلنا سويّاً إلى المدينة ، تمشّيْنا على طول الطريق من ضاحية مطرّش حتى باب بحر ، تحدثنا طويلا ، طلبتْ مني أن نذهب إلى البحر  ،  هناك على أصوات الموج العاتية  ، تكلّم كلّ واحد منا عما سيفعله في المستقبل ، كنا نحاول أن نتكلم في أشياء تافهة خوفا من حرقة البكاء ولسعة الألم ...... ، أمسكتُ يدها الناصعة كالثلج الدافئ فالتصقتْ بي و قد تناثر الورد على وجنتيْها ، تأمّلتُ شعرها الليلي فابتسمتْ و حرّكتْ رأسها كطفلة صغيرة ثم سألتني في دلال :
يعجبك أليس كذلك ؟؟
في ذلك اليوم غنّتْ ليلى بصوت حريريٍّ كالسحر مريرٍ كالذكريات ، أجلّ من نسيم البحر ، و أرقّ من أحلام مراهِقَةٍ حزينة.....غنّتْ بصوت ينتحب كجرح يمزّق صهيل الروح أغنية نجاة الصغيرة التي كانت تحبها كثيرا:
وفي وسط الطريق و وقفنا و سلّمنا وودّعنا يا قلبي
و رجعنا الطريق وحدينا و دموعنا في عينينا يا قلبي
ودّعنا الحبايب و فارقنا الحبايب ووصلنا النهاية
من قبل النهاية يا عيني ...يا عيني علينا يا قلبي

غالِي غالي غالي ...والجرح من الغالي بجراح العمر
لا الصبر ينفع فيه ولا الزمن يداويه ولا الليالي
غالي غالي غالي ....وحكم الليالي ندوق المر
من غير ما نسأل ليه ولا عملنا ايه ...حكم الليالي

و دّعتني عند محطة " جارة " للتاكسي و قالت لي :
ألبيرتو ...لقد كنت أول حب في حياتي ....أتمنى أن لا أراك مرة أخرى يكفيني ما أعانيه في البيت ....أنا لا أستطيع أن أتحمل مزيدا من الألم !
قلت لها و أنا أتجرع الكلمات كالجراح :
لماذا تركتِني أحبك كل هذا الحب ؟؟ .....أنا لن أنساك و أتمنى أن أراك دائما ......إذن إلى الصدفة الثالثة ..
ألبرتو ..لا تسخر مني أرجوك ....الفتاة ليس مثل الرجل ..نحن في سن واحد ...مرض أبي جعلني أفكر في عائلتي ..أصبحت مسؤولة عنها ..معاش أبي لن يوفر لنا شيئا .....الواقع أمرّ من الحب دائما!!.......ألبرتو لا تجعلني أشعر بالذنب أنت  تعرف أنني سأتذكرك دائما فنسيانك مستحيل .."
غامت الدنيا أمامي .....وكرهت نفسي و الحياة و مدرّسة الرياضيات !!و لكن أكثر شيء كرهتُه هو الصدفة !
صدفة 3:
بعد مرور سنوات ، رسمتُ لليلى تمثالا من الشهد والياسمين و احتفظتُ به  في حجرة حريرية من ذاكرتي ثم أقفلتُ عليه بمفتاح النسيان الكاذب ...!
كنت أدرس بالجامعة عندما دعاني صديقي جلال مساء السبت للعشاء في فندق الواحة حيث  يعزف على العود ، و بعد إتمام وصْلته طلب مني مرافقته  إلى قاعة أفراح الفندق  لنهنّئ صديقه العريس ،  في تلك الليلة قال لي جلال إن صديقه هذا هو ابن حارته و صديق طفولته و هو يعمل مهندسا للكهرباء في سلطنة عمان ، دخلنا القاعة التي بدأ المدعوون فيها بالخروج فقد تجاوزنا منتصف الليل ،عبرنا  الطاولات ، صعدنا الدرج و وقفتُ وراء جلال ،  مددت يدي لأبارك للعريس و حين التفتُّ إلى اليسار تفاجأتُ بالعروس ، لقد كانت هي  نعم هي ...ليلى بن عثمان ...لم أصدق عينيّ ...يا إلهي .....لقد تغيرتْ كثيرا ، بدت لي أكبر من صورتها في ذهني  بحكم الماكياج و الفستان الأبيض الناصع المتلألئ ، مددتُ يدي فصافحتني بلا وجه ، كانت مضطربة و نظراتها تتراقص في تردد ،أصابني الدوار وشعرت بالعرق يبلل كامل جسدي كطوفان حقير من الحزن ، ما كنتُ أعرف هل أسعد لها أم أبكي عليّ ؟!!....تحاشتْ هي أن تنظر إليّ، انتظرتُها على قلقٍ حتى تراني مرة أخرى و ما إن التقت نظراتنا بسرعة حتى أشرتُ لها بأصابعي خلسة و أنا أمد يدي أسفل جنبي الأيسر  إلى الرقم ثلاثة ، زاد اضطرابها ورأيتها تحرّك بيمناها المروحة الصينية بحركات هستيرية سريعة  ....نزلت الدرجات كالمصعوق ...في تلك الليلة لم أعد إلى البيت ولكني مررت إلى بار الفندق كائنا بلا صوت و غنّى لي جلال أغنية  نجاة الصغيرة "في وسط الطريق" و هو يعزف على عوده الجريح !! وتهتُ في الظلام حتى عبثت بي الصدف !!!
لقد كانت ليلى على حق الحب أمرّ من الواقع بكثير !
صدفة 4
تخرجتُ من الجامعة و دخلت مجال العمل ،  وكان لديّ اجتماع تفقدي في مدينة الحامة ، طبعا كنت متأخرا ....وقفت أنتظر سيارة أجرة أمام مركز الصناعات التقليدية ، انتبهت إلى وجود سيارة تتسع لستّة ركاب ، بها مكان شاغر من الخلف و آخر بجانب السائق ، طلبت من الرجل الذي يجلس في الوسط أن ينزل من السيارة لأطوي الكرسي و أمرّ إلى المقعد الخلفي  حيث المكان الشاغر ، فقال لي السائق :
عفوا هناك امرأة في الخلف ....
التفتَ السائق إليها و طلب منها أن تتقدم لتجلس إلى جانبه  ، في تلك اللحظة سمعت المرأة تقول  بصوت ذكّرني صوت الموج و نسيم البحر في أصيلٍ حزينْ  :
ألبرتو ..تعال إلى جانبي ....
أحسستُ كأن رصاصة اخترقتني ففتحتُ باب النسيان الكاذب وأنزلت رأسي قليلا في وجل و رهبة ، لقد كانت هي  ...هي نعم ..ليلى شامخةً كالنجم مبتسمةً كالقمرْ!
جلستُ إلى جانبها سعيدا بلقائها حزينا بلقائها !!
...لقد تغيرتْ كثيرا ، أصبحتْ تضع حجابا ،  أول مرة أرى امرأة متحجبة بذاك الجمال و تلك الأناقة ، كان سواد شعرها الجريء قد غفا تحت حجاب من الظل الساحر الخجول ، أضاف الحجاب إلى عينيها ألقا أخضر لذيذا كالأمنيات أو كأحلام الطفولة ، قالت لي و قد غشيتْها السعادة :
تستغرب الحجاب أليس كذلك ؟ أعرف أن فكرك متحرر و حداثي كما عرفتك منذ أكثر من عشر سنوات ....أنت لم تتغير مازلت تحب بناطيل الجينز و الألوان القاتمة ....أكيد  مازلت تحب السينما والممثلين الإيطاليين ...و الفن ......ألبرتو الحجاب سترة ..لقد تغيّر و ضعي الآن...
انغرستْ نظراتي في حجابها بحثًا عن الليل النائم في شعرها ، ابتسمتْ و حرّكتْ رأسها فغاص ليل شعرها في الذاكرة البعيدة و سألتني كعادتها في دلال :
مازال يعجبك؟؟! آسفة ألبرتو ...لا أستطيع ...ولكنه كما تعرفه بنفس اللون ونفس التسريحة ...
كانت تبتسم وتضحك كما عهدتُها و لكن نبرة صوتها تغيرت مريرة ....روتْ ما حصل لها ....فقد توفّي زوجها في الخليج و لها ابنة صغيرة تعتني بتربيتها و هي تعمل الآن في مدرسة ابتدائية بالحامة وتخضع لضغوط من أخيها لتتزوج مرة أخرى فهي مازالت شابة والمجتمع لا يرحم ...
سكتت برهة ثم واصلت بتردد و هي تنظر إلى كتبي التي وضعتُها على ركبتيّ:
مازلتَ تعشق الكتب ....ألبرتو ...خذني إلى البحر....أريد أن أذهب إلى البحر رغم  أنني لا أستطيع أن أفعل ما كنت أفعله معك ...
وفي لحظة عاد إليها جنونها  فقالت :
ألبرتو نلتقي في مقهى الكورنيش الساعة الواحدة ....لن يكون الرواد كثُرًا ..يناسبك الوقت ؟؟...اخترْ مكانا بعيدا عن أعين الفضوليين ...و إذا رأيتني أخرج من المنتزه فاعلم أن هناك من يعرفني ...اتبعني و سنبحث عن مكان آخر...
جلسنا هناك أكثر من ساعة ..كانت جميلة كالميلاد حزينة كالموت ، رغم أنه لم يتغيّرْ فيها شيء : البسمة الوديعة المثيرة ، الشفاه بمذاق الصدفة و لون الكرزْ و النظرات الخضراء العميقة ، قالت في همس  :
ألبرتو.... كم أتمنى لو أسير معك على البحر كما كنا نفعل حين كنا صغارا ....
أجبتها بمرارة و قد أخذني الانفعال :
أنا أيضا أتمنى ذلك ...ليلى لقد كان القدر قاسيا معك ....أنت لم تخلقي لتعيشي كل هذا الحزن ؟؟...لقد زعزعتِ حياتي ، إضافة إلى الكتب و الفن أصبحتُ محِبًّا لأغاني نجاة الصغيرة ...تُذكرني دائما بكِ..
قالت في حزن :
- أما أنت ....فأنا من كنتُ قاسية معه .....
نثرتْ ابتسامة هادئة لتغيّر موضوع الحديث ثم قالت :
-و أنا صرتُ أعشق السينما و دائما أشاهد النجوم  الإيطاليين و خاصة ألباتشينو ...إنه يشبهك بأنفه الحاد ..نظراته العميقة  التائهة ..عصبيته المثيرة ....
انتبهتْ إلى شرودي فحرّكتْ رأسها كما كانت تفعل دائما لتخرجني من شرودي  ثم سألتني مازحة :
- ألبرتو ...كأنك تريد أن ننتظر الصدفة الخامسة ؟!
أجبتُها بأسى :
- نعم ...
ردَّت عليّ بصوت جريح :
أنت تعرف أنني  أصبحتُ لا أومن بها ربما لأنني أخافها إذ يمكن أن تكون مخيفة أو مؤلمة ...!
قلت لها :
-ليس لدينا خيار.....لقد خدعتِني حين تركتِني أحبك ثم رحلتِ لأبقى وحيدا أبحث عنك في وجوه النساء .....
أجابتني بهمس و هي تُسوِّي حجابها ثم تقف مودِّعة بحركة رشيقة مرتعشة من يدها الناصعة ، أعرفها حين تهرب بنظراتها إلى الفراغ خوفا من الانهيار ، كان كلامي قد هزّها في العمق فعادت للجلوس في هدوء وكأنها تذكرت شيئا ، نظرت يمنة ويسرة حتى تتأكد أن لاأحد يرانا ثم وضعت يسراها على يدي و يمناها على فمي في حركة خاطفة ثم قالت وهي تمد شفتيها في دلال قاتل :
اشْشْشْشْشْشْشْ .....مازلت كما عرفتك بانفعالك اللذيذ.... اسمعني ودعْني أقول لك كلاما ظللت أحفظه ليال و ليالي.......:
أنا أخدعك يا ألبرتو؟؟؟! ...أخدع نفسي؟؟!...أنا خدعتْني الصدفة ، فقد كانت معي من البداية مأساوية ...هل تتصور أنني نسيتك ؟؟؟ اعلم أنه ليس هناك امرأة تنسى حبها الأول و أنت كنت كل حياتي ....تقتلني بصمتك كالسكين ...و تلومني على أني تركتك أو على الزواج من غيرك ...ماذا تريدني أن أفعل أقول لك سأنتظرك و أنت مازلت طالبا ..أزيد من تعذيبك و تعذيبي ....أتتصور أنني نسيتك ؟؟ كل حركة منك مازلت أذكرها ، في كل مرة تُحدثني نفسي أنه يمكن أن تنبعث في حياتي مع حبات المطر أو تأتي مع جنوح الريح أو وخز البرد فتنسكب في لحمي كالروح الجميل ... لقد كنت دائما أكبر من عمرك ..أنت عرَّفتَني بوجه آخر للحياة .....أتذكّرك كلما هطلتْ الأمطار و اشتدت العواصف ....هل تتصورني نسيت اليوم الذي فاضت فيه مدينة قابس بالسيول فانقطعتْ الطرق و كان ذلك في آخر زيارة يقوم بها الرئيس الحبيب بورقيبة للمحافظة وكيف أُغلقت المدارس وتدخّل الجيش لإنقاذ الناس فجعلوا لكل منطقة شاحنة عسكرية تقلّ الطلاب إلى ديارهم وكيف تركتَ شاحنة قريتك و ركبتَ معي كي تُوصلني إلى بيتنا و أعطيتني سترتك لأتقي بها البرد و نمت أنت عند أحد أصدقائك ، و نتيجة لذلك أُصبت بنزلة برد حادة ....في عمان اشتريتُ فلم العرّاب بأجزائه الثلاثة وبنسخته الأمريكية الأصلية ، كنت أتفرّج عليه باستمرار و أبكي كلما شاهدته بحرقة ، لذلك لا أنسى الموقف الذي يصور البطل ألباتشينو يرقص مع حبيبته بذلك الأنف الشامخ والعينين الأخاذتين ....لم أقل لك تزوجْني لأنني كنت أدرك أنك ستكون رجلا مهما ، كنت سأعطّل سير حياتك و لذلك لا أقول لك الآن تزوجني و أنا أرملة ....سأقول لك لا تبتعد عني ..دعني أحس بوجودك لأنك كنت أجمل لحظة لي في حياتي ......أنت لم تدخل حياتي صدفة في يوم ماطر ، أنت دخلت حياتي متأخِّرا ......و لذلك أرجوك ....في المرة القادمة لا تبعثرْ حياتي !....أرجوك حاولْ أن لا تأتي متأخِّرا..!
نهضتْ و هي ترتعش دون أن تنظر إليّ ، رحلتْ ، عادتْ إلى حجرتها المخملية يغلّفها النسيان الكاذب ....أما أنا فقد ظللت مفتَّتًا كالتمثال ، أحدّق في الخواء كصدفة كاذبة !!...
صدفة 5 :
 مرّ الآن أكثر من خمس سنوات و مازالت الصدفة الخامسة .....

في الانتظار!!!!!!   


 من مجموعة وشم بربري طبعة دار ورق2014 الإمارات