منفى اختياري ـ قصة : حدريوي مصطفى

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse03073صموت ، لا يتكلم إلا لماما. بشوش، تحاياه ابتسامات، و ردوده حمدلات إن سئل عن أحواله.
دقيق في مواعيد خروجه ورجوعه.
هندمته راقية تنم عن ذوق رفيع وخبرة بالتناسق والتنسيق
رفاقه قلة، وأهله او ما يظهرون أهله هم أيضا معدودون؛ غير اجتماعي لكن، عند مجالسته ترتاح الأنفس للحديث معه.
 يعيش لوحده، لا زوجة ولا أولاد رغم  سنه المتقدمة.
فجأة صار هذه الأيام يخرج لقضاء مآربه والذهاب لعمله ـ كمستشار مبيعات ـ وعكازا أبيض بيده يلتمس به خريطة طريقه ونظارتين سوداوين تحجبان خلفهما عينيه الشهلاوين.
قد أضحى أعمى كيف ؟ لا احد يدري...

أمره احتار فيه الجيران وتساءلوا كثيرا عن سبب علته فلم يظفروا بجواب شاف منه فظلوا حيارى ترهقهم الأسئلة العقيمة
حليمة جارته ـ الطليقة ـ  آلمها أمره وبكته بكاء؛
 كان قريبا منها، غالبا ما يحادثها دون باقي دائرة معارفه المحدودة، ويسارع في الاطمئنان على حالها أنى غابت؛ وهي دون سواها إلى من  كان يعهد بطيوره ونباتاته أيام سفره .
لكثرة اهتماها به وشغفها لم تلاحظ تغييرا طرأ عليه، إذ ظل وفيا لعاداته وشكله، قمصانه وسراويله لم تغب عنها مسحة المكواة وحذاؤه لم يفقد لمعانه  مما جعلها  مرتاحة وغير قلقة عليه ،قدّرت أن العاهة لم تنل من عزمه و لا من إقباله على الحياة بشكل طبيعي.
ذات أحد  من آحاد مصيف  خرج كعادته فاقتفت  أثره.
كان يبدو امامها يمشي  بتوؤدة متخذا سبيلة في الزحام عجبا،  يتخطى المطبات و ويميل مع المنعطفات كمبصر
" كيف له في وقت قصير ان يقهر صعوبات العاهة "
 لما وصل إلى محطة الترام مد يده طالبا مساعدة فلبت شابة طلبه فأسر لها ـ ربما ـ بأن  تقوم مقامه في أخذ تذكرة وترشده إلى الرصيف المناسب.
سلكت حليمة مسلكه لكن دون مساعدة، ولما وصل الترام ركباه واستقرت هي  وراءه حتى لا يغيب عن بصرها.
بعد ساعة  إلا ربع ترجل لما أدرك الترام محطة النهر الكبير، ثم  نزلت بعده  وصارت تمشي على خطاه،  إن التفت يرمقها دون ادنى جهد لو كان بصيرا...
سلك زقاقا صغيرا ، لا شك انه خبر جغرافيته من كثرة مروره به مرات ومرات ـ  حتى ولج حديقة من بابها الكبير...  وذرع ممرها الرئيس وهو يجس الجوانب المحفوفة بالخضير بعكازه ؛ لمحه طفل فقاده إلى كرسي غارق في الظل .
 
جلست حليمة على كرسي  ثان  قريبا منه. وجعلت تراقبه .
كانت الحديقة شبه فارغة ، فالصهد طرد جل الخلائق إلى الشواطئ أو إلى اللياذ بالأماكن الباردة ، وكانه استشعر سكونها وفراغ الكرسي الطويل فتمطى بكل جسمه و كل رأسه متجها إلى السماء...ظل على حاله لحظات ثم أشعل سيجارة دخن نصفها ورمى بعقبها  في سلة المهملات بعد ان طفأه .
" بامتياز منقطع النظير تجاوز هذا  احتياجه ، انها بحق معجزة "
رددت حليمة في قرارها وهي ما تنفك تتابع كل سكناته وحركاته .
وما كادت تستسيغ أنى وكيف تغلب على متاعب فقدان البصر حتى رأته ينزع نظارتيه السوداوين ويبدلهما بأخرى طبية ثم يخرج كتيبا من جيب سترته بعنوان : ( كيف تستمع بحياة العميان ايها البصير/ الجزء الثاني)