قربـان المـدن السعيـدة - طاهر عبد مسلم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

قربـان المـدن السعيـدة -  طاهر عبد مسلممن أنت أيها الصاحب الفريد.. يا مدى المجهول وشقيق المغامرة؟.. أيها البحر طالعاً من دفـاتر المهاجرين، مـن أنت مـن أنت..؟.. حامت الأسئلة تترى في الليل البحري الطويل.. والرجل النحيل الصامت يواكب موجاً يتلاطم والفنار الوحيد يلوح واهناً بعيداً يتدفق الليل الخريفي ثقيلاً هامدا ًوالرجل يتوسد حقيبته صغيرة وبقـايا دراهم عليه أن يسـددها لمن سيحمله في زورق الليـل مهـاجرا إلى المجهول.. صفقة يعرف أبعادها جيداً وفحواها انه لـن يعود.. لـن يعود.. فالبحر وخباياه تحمل نذر اللا عودة.. وكل أولئك العابرين سيحملون تابـوت الوقت معهم.. إذ قد يداهمهم حـرس السواحل فيتهاوى زورق الغرباء إلى القاع.


يا نذير الراحلين، يا أصدقاء الوهج القديم من هؤلاء.. ومن أولئك.. ماذا بقي منهم، قلبوا مشاهد الرحيل الطويل عبر البوابات والعسس والغرباء، قلبوا أوراقه وتفرسوا في ملامحه وسألوه مرارا لأنه كان قد ألغى قصائد الترحال، واجل جنون المغامرة إذ سقته السلطات علماً جعله يواكب ولا يمضي ويكتم ولا يركب موجة التعبير عن مكنونات روحه.. روحه الوحيدة الأسيـرة، التـي تمردت على ثـلة المعاصرين الـذين حاؤه بأمـواج الحداثة وتفرقوا فجـأة بلا مـلاذ.


أقفر المكان وغاب عمال الميناء تفرقوا في أركان الساحل الطويل.. تفرقوا قرب مراكب صيد وبواخـر شحـن.. ابتلعتهم تلك الطقـوس البحرية ووزعهم البحر أثاثاً لمشهده اليومي.. كان هناك كهل قصير القامة بالقرب منه جاء يحمل طيراً يدور به ويعلن عن صفاته البريّة وقابليته الفريدة.. طــائر من وراء البحار.. أشبه بالببـغاء.. انتظمت على جناحيه وذنبه ألواناً متدرجة جميلة ولكنه مثل تمثال حجري.. لا تصدر منه كثير من الحركات ولا يسمع منه صوت.. قال الرجل.. أن للطائر هذا وقتا لينطلق ويتجلى.. فيغني ويردد ويصفر ويتمايل راقصاً.. ألقـى تلك السيرة الطيبة عن الطير بلهجة مغربية سريعة خلطها بكلمات إيطالية وفرنسية موجهاً خطــابه لأي شخص في المكان دون تحديد..

***

حمــل الآخــر حقيبتـــه وخــرج من المشـــهد.

تدفقت الــرائحة العتيقة نفسها تلك التي كــان يشمها في مدن عربية أخرى لا تتضح هويتها ألا بالمدينة العتيقة، وعبر زقاق شبه معتم توزعت عليه بيوت واطئة بواجهات بيضاء وسقوف رخامية، كانت تطـل عبر النوافذ وجوه صغــار شاحبين ونساء غر يبات طلين وجـوههن بزينة رديئة.. كـان هو مثل فـرس جائعة لأشياء شتى.. إذ عامت صورة المكان من حوله وسـأل نفسه أن كان قد ترك هناك صبياً يشبـه هؤلاء الصبيان تركه في مدينته على رياح الخطوب.. وان كـانت هناك امرأة مـا.. تكتب له مراراً أن هذا اليوم هو يوم مولده.. وتسأله عن عنـوانه ورسائلها وقصائده القديمة.. تجمد إحساسه فجأة وهو يحاول أن يجد عنوانًا لهذا السيرك الذي يمر من حوله.. وهو يقود هذا الامتداد من المشاهد.. وهو أن حفر مكانه عميقا في الذاكرة.. بعدما قال كلمته ومشى.. بقي هناك أصحاب كثر يذكرونه.. مع هذا كله بحث عن مكان عن ارض تصل أليها أوراق تلك الفتاة.. وذلك الصبي.. ولكنه ظل كما كان عبر أزقة ودروب ضيقة وفنادق رخيصة..

***
واصل سيره عبر الزقاق ليجد الشخص نفسه بانتظـاره أعطاه الخريطة كاملة أين سيـنزل.. وأي طـريق يسلك وفي أي سـاعة سينطلق.

***
لم يبق من الزمن ألا القليل.. عندما شاهد عبر نافذة حجرته الضيقة رجلان وفتاة.. يسيران في غمامة ليله حالكة.. ولا تسمع إلا صـوت سيارة إسعاف بعيد.. عندما اقتـرب المشهد.. تحاور الثلاثة بصوت مسموع.. كانوا بالنسبة له ممثلين.. يتنازعون على غنيمة فجأة هجم أحدهم على الفتاة وأقتلع قلادتها من رقبتها فصرخت فيه وشتمته وضربته بحقيبتها فتناثرت محتويات الحقيبة وانشغلت الفتاة بلملمة ما تناثر أما الآخران فقد اشتبكا في عراك شرس تبادلا فيه الأدوار فتارة هذا يسقط وأخــرى صاحبه وهكـذا والفتـاة تحاول إن تحصل على قلادتـها.. ثم تمزقت أشياء وانطلق صراخ شرس في ليل المدينة الجاثم وتهاوى رجل مطعون وفتاة جريحة ومجرم هارب بالغنيمة وشاهد النجيع ممتزجا بأطيان الزقاق واز باله.. أغلق النافذة وقد تعرق وداهمه الغثيان عاد مسرعاً إلى سريرة البارد وبعينين خشبيتين تطلع إلى السقف بعيداً ونام.

***
استيقظ البحار العجوز والمهاجر العنيد على صوت صاحب النزل وهو يوقظه مع الفجر ليلحق بالزورق.. لملم نفسه وأشياءه سريعاً وصلى ودعا دعاءه اليومي إلى الله.. خرج مسرعاً.. كانت المدينة تغط في بقايا سباتها وليس غير حركة مكتومة خاطفة لسيارات وعربات وعابرين.. وسرعان ما وجد نفسه في المكان المطلوب وانطلق به زورق سريع مع جوقة من العمال المكدودين والشباب القلقين والفتية الصغار وشيخ لم يخف رعبه من الرحلة إذ راح يتطلع في المدى الموجي الغائم وهو يتمتم مناجياً ربه.. تتابعت فصول الرحلة مع وقفات قلقة وتحسب للمجهول.. وعندما مضى النهار وغطس الزورق في مياه العتمة توقف كل شئ وأعلن قائد الزورق أن حدود تلك البلاد تلوح في المدى المنظور إذ ومضت أضواء خافته وبعد مدار قلق تسربت بهجة مكتومة إلى أرواح الطالعين إلى المجهول وراح كل واحد يعيش أحلام يقظة ويرى كائنات براقة من النور وسط ذلك المدى المعتم والأفق الحالك يا ليل.. يا ليل.. يا بحر الغرباء وملاذ العابرين.. أيها القاتم المقيم على الجسد العربي هل تشهد حقاً لهؤلاء الأبناء الغرباء وهم يفارقون المضارب والأطلال وحكايات ألف ليلة وليلة ووعاظ السلاطين هل تشهد لهم أم عليهم.. قادمون من بقاع شتى تختلف في أشياء وتتفق في شيء فريد هو الخروج من بيت واحد.. بيت عربي مهدد من كل جهة.. تنغر فيه الجراح ويتكالب عليه العدو والصديق.. ويخرج فيه هؤلاء بعدما مر العمر الجريح موزعاً هنا وهناك.. بانتظار الأحلام المؤجلة التي لا يعرفون متى ستتحقق.. اندفع الزورق واندفعت قبله قلوب الراكبين الفرحين ببلوغهم مشارف الأمل.. انطلقت في هدوء ترنيمة الغرباء.. أغنية هائمة شفافة ردّدها الجميع بالهدوء نفسه.. واستعداد لحلمهم الجميل بالتصفيق والتهليل والبهجة.. وتنفسوا الصعداء وهم يتحسسون جيوبهم الفارغة بعدما أعطوا كل شئ لمجموعة من تجار الرحيل إلى المجهول فجأة اضطرب الموج.. وتمايل الزورق والجميع لاهين بحلمهم الجميل وحده الذي راقب كل شئ.. إذ كانت هناك قوة ما تعبث بالزورق الهزيل الوحيد الجاثم في قلب الليل.. وتدفق فجأة أنين مكتوم كصوت الفجيعة معلنا أن على الجميع إن كانوا يريدون الخلاص أن ينزلوا فوراً ويلقوا بأنفسهم في الموج ويستمرون سابحين.. وتدافع الحشد وعلا الضجيج والصراخ التائه في الليل البحري الطويل ففي أي محيط تقع هذه الأمتار المربعة الخمسة التي أسمها الزورق.. وكيف تلوح وسط هذا الكون الغريب وحده كان يرى القوى الكونية تستعد للانقضاض على حلمه المؤجل.. حلمه العبثي.. إذ كان يشعر بثبات عجيب ولم يكن يأسف على شئ قدر أسفه على هؤلاء الذين أكلهم الرعب والإحساس بحافة النهاية وهي تدنو.. فمنهم من أعلن الاعتصام حتى الموت في الزورق ومنهم من راح يبحث في الظلمة عن تجار الرحيل ليقتص منهم.. ومنهم من تشربت روحه الظلمة وغاب في وجوم أطبق على كل شئ.. تصاعد الموج بالمزيد.. وتمايل الزورق وسمع صوت واحد أو أكثر وهو يعلن الشهادتين ويلقي نفسه في التيه وبين الضجيج والموج المتلاطم وصراخ الذين لا يحسنون السباحة لاح من بين النجوم الغائرة ضوء نفاذ سرعان ما راح يمشط المكان وتعالت فجأة نداءات من كل مكان.. داعية المهربين للاستسلام أو الموت.. ولم يكن أحد يعرف من هم المهربين ولا كيف يعـلنون الاستسلام.. وفجأة لعلع الرصاص واختلط الموج ببقايا الــزورق.. والتهم البحر بقايا خشب مهشم.. أماهم.. فقد كانوا هناك في جوف المدى.. تركوا الأوطان الجريحة.. وأحلام البلاد المتخمة بالرفاهية.. وراحوا يجدفون في الفراغ.. وحده الذي كان هناك.. هناك.. هناك في المدى المجهول يشهد تألق الناس الطالعين إلى الشموس أو مصرعهم..