مذكرات قاعــــــــة - عبدالباقي يوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انفاس  منذ عدة أيام لاحظ بعض رواد القاعة بأن عدد الحضور يتناقص حتى تحول إلى أقل من النصف. قال البعض بأن السبب هو رداءة المواضيع التي تقدم للجمهورالذي ضجر من حالـة اللاجديد. ورأى البعض بأن فصـل الصيف الشديد الحرارة هو السبب.ونظر البعض الآخر بأن حالة الفقـر التي أتت على البلاد هي التي جعلت الأهالي لا يفكرون إلا بتأمين لقمة العيش. لأن حضور الأنشطة الثقافية يعد من الثانويات ومن الأمور الترفيهية التي يقضي بها المرء وقت فراغه في متعة ثقافية. بعد انتهاء النشاط الثقافي الأخير الذي حضره فقط تسعة أشخاص سار السيد عارف مع صديقين له نحو قلب المدينة وقال: كل الكلام الذي قيل كان فارغا.


من السخافة أن نعيد السبب إلى رداءة المواضيع لأن الجمهور لا يعلم مسبقا ما سيسمع. وحتى الكاتب الرديء يظهر أحيانا بكتابات جيدة وجريئة وهو في أحضان رداءته. وأما المضحك أن نعيد السبب إلى الصيف لأن كل سنة فيها صيف. وقاعتنا مكيفة ومغرية للجلوس فيها ساعات طويلة. وما هو مثار السخرية أن نعيد السبب إلى الفقر. فالقاعة لا تقبض من أحد اشتراكا ولا رسما للدخول. وأي شخص في العالم يجد ساعة واحدة في المساء يمضيها لمتعته الشخصية.

هؤلاء أيها السادة يمضون أكثر من نصف يومهم في فراغ. في النوم والأحاديث الفارغة. ولعب الشطرنج , ويمضون غالبية الليل بلعب الورق والتدخين واحتساء الشاي البارد. كان يتحدث بجدية ويلفت أنظار صديقيه بقوة: أرجو أن تتذكروا جيدا. ألا تذكرون حضور شخص غريب إلى قاعتنا منذ شهرين. هذا الشخص هو سبب انسحاب الناس من القاعة. ولا أخفيكم بأنني راقبت الجمهور ورأيته يتجمع في المقهى المجاورة للقاعة يمضي ساعات طويلة في لعب الورق والشطرنج. قال أحد الصديقين وهو يضحك: يا أخي خيالك رحل بعيدا، فما لهذا الرجل بالأمر، ليكن فنانا تشكيليا مهلوسا، أو ليكن شخصا مصابا بحالة جنون، أو ليكن صحفيا. أنا تذكرته، إنه يجلس في إحدى المقاعد الخلفية ويدون بعض الهلوسات في دفتر متوسط الحجم يحمله بيديه، فما علاقة هذا الكائن الغير مزعج بهؤلاء الذين باتوا يفضلون المقهى على القاعة؟.

وقال الصديق الآخر: أنا معك، هذا الرجل هادئ ولم يسبق له أن أزعج أحدا من الجمهور لا بسؤال ولا بمحاولة تعرف، كأنه ليس من أبناء البلدة، الأمر الآخر أن هذه القاعة مفتوحة للجميع ولا تكون غنية إلا إذا ارتادها الناس من مختلف توجهاتهم لأنها تقدم حالة ثقافية عامة لمختلف فئات الناس. أخرج السيد عارف سيجارة من علبة تبغه بعصبية وصار ينفث الدخان ويقول: ما رأيكما أن أثبت صحة رأيي؟ قالا بتعجـب: كيــف؟. دعوني أفكر ليومين وسترون النتيجـة. قالها السيد عارف وافترق عنهما متجها صوب بيته وهو يلوح بيده مودعا. لا أحد يعرف كيف حدث ذلك وكيف استطاع السيد عارف من إقناع ذاك الرجل ليجلس في المقهى المكتظ بالناس بدل القاعة وكان صاحب المقهى بدأ يتفاوض مع جاره من الجهة الشمالية ليشتري مكتبته الخاصة ببيع الصحف والمجلات وبعض الكتب الأدبية ويجعلها توسعة للمقهى بعد هذا الانفتاح الذي أتاه فجأة منذ شهرين وجعل مقهاه يضيق بأعداد المرتادين الهائلة، فصار يغري هذا الجار بمبلغ جيد ليبيع له المكتبة حتى أنه قال: يا أخي أعرف بأن دخل هذه المكتبة لا يقدم مصروفك اليومي، سأعطيك مبلغا لو أودعته في البنك سيجلب لك دخلا شهريا مضاعفا لما تكسبه الآن، وستكون جالسا في بيتك لا ضرائب ولا تموين ولا فواتير الماء والكهرباء ولا من يحزنون، ولك بشكل يومي مستمر ضيافة مجانية في مقهاي.

كان السيد عارف يراقب الرجل ليتأكد بأنه يتواجد في المقهى كل يوم ولا يقرب من القاعة، وبدأ زبائن القاعة يلاحظون حضور ذاك الرجل في المقهى وصاروا يتغامزون وينشرون الخبر حتى علم الجميع بذلك بمن فيهم زبائن المقهى القدامى، وبدأت الأقدام تخف من المقهى حتى مضى شهران ليرى صاحب المقهى وقد فرغ مقهاه إلا من بعض بائعي اليانصيب وما سحي الأحذية الذين يترددون للحظات وعندما لا يرون أحدا يعودون. وحده ذاك الرجل يقبع على طاولة بمفرده يدخن ويحتسي الشاي. وكانت القاعة المجاورة قد أعادت حيويتها ولم تعد مقاعدها تتسع للحضور. وفي إحدى الأنشطة همس السيد عارف لصديقيه: هل تأكدتما من ذلك؟.

ودار بينهم حديث طويل تسرب جانب منه إلى أسماع أحد الحضور فلم يملك نفسه وراح يطير صوب صاحب المقهى ليخبره بالسبب وكان ذاك الرجل مازال قابعا على طاولته. فنظر إليه صاحب المقهى نظرة عداء ولكنه تمالك نفسه وأراد أن يرد على القاعة بالمثل وبدون ضجيج، ولا أحد يعرف كيف نجح في إقناع هذا الرجل ليعود فيجلس في القاعة بدل جلوسه في المقهى ومضى شهران فخلت القاعة مرة أخرى من رائحة الحضور، ومن يومها هاجر السيد عارف خارج البلاد ولبثت القاعة بلا رواد إلا من ذاك الرجل الذي يداوم على مقعده وعلى إملاء صفحات دفتره الذي لا ينتهي وكأنه يكتب مذكرات قاعة

 .