سِـر الحِـمـار - منير عتيبة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انفاسفهم عمى محروس الإشارة فاستدعاني إلى حجرته.. "هل لاحظت؟". "نعم.. لكنني لم أفهم..". كنت أسير مع أبي وعمي محروس وبعض أفراد العائلة في الشارع الرئيسي للقرية.. انكسرت ظلالنا على حائط مقهى عبد الودود.. كانت كل الظلال واضحة ما عدا ظل عمى محروس.. يبدو وكأنه سيتلاشى..
قال: إنها إشارة ذهابي..
امسكني من يدي.. وخرج معي إلى الحقل.. ركب حماره العجوز وركبت خلفه.. الحمار ضامر.. رمادي اللون.. في عينيه ذكاء ما.. ولديه قدرة على الجري مثل حمار شاب.. لم يفكر عمى محروس ببيعه أو استبداله.. يرعاه كأحد أفراد العائلة.. كابنه..
جلسنا تحت شجرة الجميز العتيقة.. والحمار يتحرك بالقرب منا.. لاحظت دموعاً معلقة في عيني الحمار الذي كان ينظر إلى عمى محروس طويلا.. ثم يدير رأسه بعيداً.. ثم يعاود النظر إليه..


نظر عمى محروس إلى الحمار وابتسم قائلا: أتعرف كيف حصلت عليه؟.


ـ اشتريته طبعاً..

ـ لا.. بل جاءني بنفسه..

واسترسل مع ذكرياته؛ كان أقرب الطرق إلى القرية يبعد عشرات الكيلو مترات.. وعمى محروس كان مجندا يعود في إجازاته من الجيش، فيسير على قدميه عدة ساعات حتى يصل إلى القرية.. وتصادف أنه يعود دائما في الليل.. وكان عفريت شاب يترصد له ليخيفه. لم يكن عمى محروس يخاف العفاريت. كان يحفظ حركاتها المعتادة.. الظهور على شكل حيوانات، إحداث أصوات مرعبة، ظهور واختفاء أضواء ملونة.. كان يحب ذلك العفريت الذي يحاول إخافته لأنه يسليه ويهون عليه الطريق.. ثم ظهر العفريت في شكل حمار.. ووقف أمام عمى محروس لا يتزحزح.. لم يشعر أنه يتحداه أو يخيفه.. كان يبكي.. وحكى حكايته؛ كانت إحدى حكايات الغرام المعتادة.. أحب شابة أغنى منه وأرفع مقاماً.. هرب بها.. طاردهما أهلها.. أخذوها منه.. أفلح في الهرب.. وهو مهدد بالقتل لو عثروا عليه..

ركب عمى محروس الحمار وهو يفكر في حل للمشكلة.. ثم اقترح عليه أن يظل متخفيا في شكل حمار.. ويعيش في الزريبة الكبيرة مع حيوانات العائلة كواحد منها..

ومن يومها وهما لا يفترقان.. يوصل عمي محروس إلى الطريق الرئيسي.. وينتظره عند عودته في الإجازات.. ويساعده في مغامراته العاطفية.. والأهم من ذلك أن عمي محروس يحصل كل عام على المركز الأول في سباق حمير القرى التي تقع وقريتنا في زمام واحد بفضله.. كان كل منهما الصديق الوحيد للآخر..

قال عمى: عندما أرحل لا تربطه في الزريبة.. دع له حرية البقاء أو الذهاب..

ـ وإذا ذهب.. ماذا أقول للعائلة؟.

ـ قل إنك بعته وتصدقت بثمنه على روحي تنفيذا لوصيتي..

بعد رحيل عمى رأيت صديقه مرة أو مرتين يحوم بجوار قبره.. وعندما لاحظت أن الصبارة التي زرعتها بيدي أمام القبر أكبر حجماً وأكثر اخضراراً من كل الصبار الموجود في مقابر القرية.. عرفت المكان الجديد الذي قرر حمار عمى أن يقضى فيه بقية حياته.