ألاعيب الخراب - ربـيـعـة ريــحـان

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انفاسابتسم وتمدد بثوبك المزرق الحائل،  متأملاً تخاريم الجير في السقف العتيق..  لا  خيار أمامك بعد السؤال اللحوح،  سوى هذه التكشيرة المستسلمة،  والنظرة الراكدة،  وقطرات من عرق،  تنعقد فوق جبهتك الغامقة.
ارفس الغطاء المتفسخ، وأشتم أولاد الـ.. هؤلاء بكل مالديك من نعوت، تعرف وحدك ببساطة، كيف تجيدها، كأنما هي من وضعك، ألم تحفظ لك أيام المجد محاصيل التحليق في إرث من العز والأمان؟!
اسعل ماشئت بمرارة، وانفث خشونة ريح غائرة، من صر تنبت بين شعبه المتوغلة، عفرة تبغ رخيص، وأجهد محنياً رأسك، أن تشهق بوجه محتقن، في جموح خاطف، فما أتعب غائلة هذا السعال الأجش المبحوح! اجمد بعدها،فقد يغلبك النوم العصي،وتتجسد لك الأحلام المستحيلة،بعد ساعات الضيق الجلفاء،فما أحوجك إلى انعطافة ترضي جوارحك،بانطلاقات غير مشهودة،من أيام مستحضرة..من ماضٍ ساحر بعيد.
أنت..ألم تهف النعمة عليك بانصباب،من نبع غني لاينضب؟ ألم تغمرك الأيام بالرضا،على تقلباتها..لكنك،دعني أقولها،كنت غير غافل،عديم الثبات وطول الباع!


من يخلد لجنون لعبة،مسارها،تلك المصادرة الذاتية،والحرق اللاهب لإرث لايحصى،وتعلق أبله بحلقات متعطشين لكل أنماط الاحتفال في حياة ليليلة شبيهة بالأحلام؟!

أَقُلْتَ الحرق؟.. ذلك ماكنت تفرقعه بالحكي حتى جذر الدهشة،وأنت تدّعي أن ترسانة من النقد،استعملتها لغلي ماء الشاي،دون حساب للتكلفة! من أين لك بكل هذه الأشكال المشوشة،المستقرة على وتيرة واحدة،من الاستهلاك المشدود إلى مآلات من ا لخراب؟! المانحة لإحساس رث من المتعة؟!


كان أبوك القادم من سهول الحوز،على طريق أكثرها غير معبد،قد تكفل،ببطشه الأكدر وصلابته،من حماية مانهب جدك،ممن وقعوا لديه في شرك الهلاك،عبر مسالك الغزوات والتطاول،وبرعاية من المخزن. الامتداد لأراض منسية تدعو للتيه،والانتفاخ المبالغ فيه للمحاصيل التي يتم تصفيتها في الأماكن البعيدة والبساتين،والغموض الملازم لقضايا مدبرة بكاملها،ليس وراءها غير لعبة المكر الهادفة..

من كان يدعي أن كل هذه المدخرات ستندثر مجنحة،كما لوأن الأمر لايعدو أن يكون رفاهية خيالية؟! حتى أخواتك،تم نهبهن،تحت نزعة جلفاء،لعادة عشائرية،فحرمن من كلما حقهن..مرة بدعوى أنك وحيده الذكر،حاميهن ولن تتخلى عنهن،ومرة بدعوى أن الغرباء أزواجهن رجال عابثون،ولاحق لهم في مال غير منحدر من مهد عائلاتهم!

وهن،في الترددات اللحظية وأيام الحاجة،ما كن قادرات على الحسم،وتصفية الفكرة المختمرة،معيدات تغير الخطوات،في أوضاع تصحيحية. كنّ يرين كيف كانت تتبخر مقاطع الأرض،من يد موسومة بشراهة المحو،وانتظام رفقة حولك،كل همها كيف تعثر على انعطافات،تولد الحديث الذي يسمك خلسة بمهاوي الاعوجاج،فيكتفين بأن يهمسن لبعضهن،في ثنايا الخلوات،التي تمنحها اللقاءات الواردة:

- الله يهديه!

مع مايمنحه الدعاء من فائق الحب،لأواصر تتغذى من دم واحد،وبعدها يخلدان للصمت والرضا الخالص.

شيء واحد كان يثير استياءهن حد الحزن..عزوبتك،ومرآك لاتنعم بألفة بيت،ولايحلق من حولك في تماس وهاج،حلقة صبية من صلبك. هل رغبت أنت يوماً في ذلك؟ أكان تأرجحك الثمل بين إيقاعات النساء،المطلقات لأصواتهن التليدة،والعابثات بحركاتهن في وقفات ثابتة،والمواكبات لليل حتى نبراته الأخيرة،بالدف والكمان،شاغلاً لك،عن أوان التفكير في زوجة تتركك منزعداً،تحت وابل التتابع اللانهائي لأوامر نصوح،تمليها طبيعة وظيفتها كما تفترض؟!

كم أغدقت على هؤلاء المرتجات القوام،النازحات من أحراش البوادي،أو القادمات من اكتظاظ الأحياء الهامشية؟! كم جسداً أضناك،فلزم كي تغويه أن تطرح وميض ورقك الأخضر،كساءً سافراً لخرق حرماته؟! أو تؤجج فيه عبق الطمع اللاهث،إذ تجعل موطئ القدمين،يزهر بورق يزيغ الرأس عن مداراته؟   كُنّ خليلات المتع المختلة،يتغنين في المفتتحات بصدى خرابك،وبأمجاد أصلك وفصلك،في تضمينات خرافية عتيقة،تغدو مشرقة،حالما تقع بسمعك المفلوج من السكر والتعتعة.

أي تهكم كنت تحاصر به من تأتي عرضاً في حديثه،معاني القلق أو الشكوك في تصرفاتك،أو يؤكد أن شيئاً ما ممكن الوقوع،تذكر به جملة محذرة أو جملة من المحاذير،سيقودك حتماً إلى مآل عصيب           كل شيء قد انتهى..لكنك لاتزال تنصاع للافتتنان المورط،لهذيان البذخ،الذي رُوّضتَ عليه..انفضت الحلقة من حولك تباعاً،كان مالءو البيت صخباً،والذين أجهزوا على ماتبقى قد تأكدوا أن آخر بصيص من الإرث قد انتهى،فغادروا،حين أدركوا أنه لم يعد من المجدي،التسكع حول موائد عارية. من يومها ركبتك رعونة الحكي البئيس لنكسة أمجادك،وقذف هؤلاء وسواهم من علية بيتك بأشنع السباب.

أتدري؟! كان ذلك الشيخ الملتحي،الذي واكب بحسرة،مجون طيشك وعبثك،الداعي لك أبداً من حيث لاتدري،واليائس من تقويمك،وراء فرصتك،كي تكسب قوتك،بعد أن انحجبْتَ عن النظر إذ هدك الاحتياج           كان خلاّ صدوقاً لأبيك،فأرسل يستدعيك من غير حوار،ترددت طويلاً خوفاً من هجمة عبارات التقريع والملامة،لكنه لم يفعل. هبط الصمت حاجزاً بينكما،وفي الصباح،كنت ببذلتك الزرقاء الحائلة،حارساً لمبنى الإدارة،تجلس على مقعد تحت اصطفاق الراية.

أنت لم تقلل من أهمية ماحدث..كنت في الجانب الأيسر بعد الباب،في استراحتك تضع في مربع المخزن الصغير،براد الشاي وعدة الكيف،تقوم بترتيبها،وعيناك على الطريق المستوية،ترقبان ذهاباً وإياباً ،كل من يسير في معبر النور..ولاشيئ يصرف تطلعك،عدا تلك النداءات المفاجئة.

مالذي جعلك تنقاد للغضب،وتزعق في فوضى،شاتماً حالك ومآلك،أولاد الـ.. وتدور في جنون عبر الفواصل فاقداً كامل حذرك ومستعداً للإمساك بأية ضحية تطالها يدك؟ أنت تقول إنك راكمت صبراً،تفنن البعض في استثارته،بالنداء الملح،والتلاعب الوقح،وهم يقولون إنك في زاويتك،كنت تتباهى بأيامك،وتهزأ متشدداً،بأسلبتهم،لعمل لايحجب فقراً،ولايستبدل من حال..وكلما مرت بك امرأة في الذهاب أو الرواح،أشهرت من موقعك لمن معك،مزوجاً خالصة من حركات تختزل أفعال سوقية،كانت لك مع النساء.

تحكي لمن يظل مشدوداً إليك،وأحياناً تأخذ راحتك في المكاتب،كيف كنت أمام الملأ،تعبث بيدك في حناياهن،في مشهد احتفائي،فيصيح من حولك في هياج!

ووحدك كنت تباعاً،معيداً اللعبة‍،تغادر أعمالك،في مشهد مربك من التصادمات،لم تنفع معه،لا الإشارات الخانقة ولاتلميحات الصحب،بحسن التبصرفأنت لاتنسى أن ترى نفسك تائهاً في صورة الماضي المطبوعة بالعجرفة!

لكن ليس سهلاً أن تقطع المطاف بألاعيب فظة،ونزاع يفضي بك دوماً،قبالة الباب..هاهو العمر الذي تسرب..واستهلكته مآلات عديدة ومنفلتات،يسلمك لرجة التعب وذبول القوام لرجفة اليد الراعشة التائهة عن وجهتها ولوحشة الخلوة القاتلة.

من يذكر الآن،ممن شهدوا ملامحك،عبر بضع كلمات مختارة،مساراً منسوجاً بخيوط خرافية،متلجلجة؟..لا أحد..عدا أصحاب الشكاوى،في منغلق النزاعات،وصور النهب الرديئة،التي اخترقت كل القوانين من جدك لأبيك..لتنطبع في الذاكرة،رمزاً فاسداً في الحكايا الشعبية..

إذاً تمدّدْ،فليس بعيداً بعد كل هذا اللفظ المريع،أن يفتحوا بابك الصغير ذات صباح،إذ تزكمهم رائحتك النتنة،فيعثروا على هيئتك الشعثاء وأنت نافق مثلما تنفق من الجوع الدواب،ومن حولك تتخايل مندفقة تلك الديدان المسودة الصفراء،ساعتها على مضض،سيوارونك التراب من غير أي شكل للمحاكمة..وحدها الآخرة تتكفل بذلك،وسيعودون بعدها طامعين لتجلية المكان من نفسك وسيقولون:

-       إنها السماء تترصد!

ومازالت حولك رطوبة التراب.