حكاية الرأس المقطوع - محمد برادة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

انفاسساح دمي على الطوار. انفصل الرأس عن الجسد كأنما قطعه سيف بتار. عز علي أن تظل جثتي ملقاة على الإسفلت فتدوسها شاحنة أو عربة نقل. حاولت أن أصدر الأوامر إلى يدي لترفعا الجثة. لكني أدركت أنهما لم تعودا خاضعتين لتوجيهاتي. الشرايين والأوردة تتدفق نافورة جامحة فتتسع البقعة، متطلعة، ربما، إلى تحقيق مشروع بركة حمراء.
المارة يتابعون طريقهم لا تكاد تلامس عيونهم دمي المسفوح. يتحاشون الرشاش ولا يلتفتون، سمعت شيخا وطئت قدماه البقعة الحمراء فاتسخت بلغته، يتمتم :
"لا حول ولا قوة إلا بالله"    
أنا أيضا لم ألمح قاتلي، وسرعان ما غمرتني الفرحة لأن رأسي المقطوع لا يزال قادرا على الحركة، لا يزال يتحكم في انقطاع اللسان. عيناي تدوران بسرعة في محجريهما. كيف أتصرف؟ ماذا أستطيع أن أفعل برأسي


المقطوع قبل أن يتنبه الفضوليون لغرابة الظاهرة فيلحقوا الرأس بالجثة في حفرة صامتة؟

أغمضت العينين. ركزت كل ما تبقى من كياني في نقطة واحدة مستفيدا من كتاب "كيف تمارس اليوكا"؟ ثم تمتمت : "هب لي من لدنك جناحين يحملاني بعيدا بعيدا لأعيش ولو يوما واحدا".


قبل أن أتلفظ بالكلمة الأخيرة بدأ رأسي يرتفع سابحا في الهواء بغير جناحين.صحت بسرعة : لتكن وجهتي الجنوب.

بدت لي الرباط من فوق جحرا، مباءة، ثعلبا أجرب. سيفا صدئا، تنينا يمضغه البحر، خلية من غير نحل، صخرة أجرد من صلعة...

تنفست مرتين، انتشيت بدفء الشمس يلسعني على الخدين. اخترقت سربا من الأطيار ففرت مذعورة من مرآى آدمي مجذوع يزاحمها في مناطق النفوذ.

يتوارى البحر فيما أمخر الهواء بسرعة غريبة وأجيل الطرف، فأرى كل ما تحتي دفعة واحدة ممتدا منبسطا بدون تعاريج أو أسرار. ووراء تلافيف الذماغ يدق السؤال :

يا صاحب الرأس المقطوع ماذا ستفعل حينما تحط الرحال؟ أطلت التحليق ما استطعت، خياشمي مشرعة تعبّ الهواء بالكيلوات فيخرج من عروق العنق مُضاعفا السرعة.

بدأت أفهم سر انجذاب عباس بن فرناس إلى التحليق : نحن في حاجة إلى الابتعاد عن الأرض ليتضاعف اشتياقنا إلى اليومي المبتذل. يستعيد هذا اليومي شاعريته حين نمارسه بثقة لا متناهية في قدراتنا. أنا لست آسفا على جسدي ما دمت أستطيع أن أحلق وأبصر وأتكلم. صدقوني، يصفو الدماغ، تتضاعف شفافية الذكاء. يتسع الإدراك لحد الجنون. هذه القدرات المتفجرة تحتاج إلى تجريب...سأحط الرحال عند أول حشد يصادفني. ولتكن أرض "جامع الفنا" لأناقش الحلايقية ورواة الأقاصيص والمشعوذين.
حوّمت فوق الرؤوس محدثا أزيزا يلفت الأسماع علت الدهشةُ الوجوهَ وارتفعت الأصابع والصوات : "راس بنادم طاير".

تحلق خليط من الناس حولي، جمهور في منتهى التمايز والشتات. لم أضِع الوقت: كانت رغبتي قوية في استلام الكلمة :

- أيها التعساء البؤساء القانطون المتسكعون المحرومون الخائفون المقهورون المنتظرون الهاربون من الواقع إلى الكلمات تتسلون بالخرافات. الحقائق تعشي أبصاركم فتخدّرون بالعنتريات والزيديات وببلاد الواق واق تحلمون. تحلمون بكواعب حسان يرضعنكم من أثدائهن الشهوة الحمراء يعدن لكم شبقية واراها الجوع-القهر-الكبت...

أيها التعساء جئت أدق بوابتكم الصدئة. أهز قلوبكم المهترئة لتستبدلوا الصمت بالكلام لتبادروا إلى تسمية الأشياء إلى معانقة الظواهر والقوى وهي تنمو، تتحول، تنتصب عملاقا بألف ذراع..."

كانت الكلمات تندفق من فمي كالرعد القاصف في سرعة وتوتر. أريد أن أقول كل شيء. كل ما اختزنته أو أرجأت التلفظ به. كل ما حيل بيني وبين الجهر به. المتحلقون حولي ينصتون في ذهول. بعضهم لا يفهم جيدا ما أقول، والبعض يتسارون عن هذا الممسوخ الذي يخاطبهم. الحلايقية أنفسهم جاؤوا بعد أن أكسدت سوقهم. قال أحدهم :

- لابد أنه طبق طائر ضاع منه غشاؤه.

- أو أنه رأس آلي ملأوه بهذا الكلام المحفوظ.

- مهما يكن لا يجوز أن نصبر على من يعيرنا ويشتمنا.

قبل أن يفلت مني الزمام بادرت الحشد :

-كم عدد العاطلين بينكم؟ لا أشك في أنكم جميعا عاطلون باسثتناء هؤلاء السواح والمخبرين..هل تساءلتم مرة عن المسؤول عن عطالتكم؟ عن السبب في أنكم تشيخون هكذا وأنتم في مطلع العمر، تفطرون وتتغذون وتتعشون بالخرافات والحكايات تقتاتون وسط هذه الرمضاء بالفتات ونخاع الثعابين ولحوم القطط العجفاء الموبوءة؟

أعرف أنكم سرتم في مظاهرة للمطالبة بالشغل...قرأت ذلك في باب المراسلات الداخلية للصحف الوطنية ولكن ماذا كانت النتيجة؟ وعدوكم بأن يشغلوكم في ترصيف طريق كبيرة..هلا تساءلتم عن الفرق بينكم وبين أصحاب السيارات المجنحة التي ستتهادى على الطريق المرصفة؟ هذه الساحة مقبرة كبيرة تضم الأحياء الميتين...أيرضيكم أن تستمروا في تمثيل هذا الدور: تحسبون من المواطنين الطيبين وباسمكم يقدس الرب ويشكر على النعم والخيرات ويبارك في السر والعلن تذعنون لمشيئته. ترضون أن تحيوا تعساء في أرض ثرة معطاء..."روي عن سهلب ابن مهلب، عن  زنطاح بن قليل الأفراح، أنه قال : كان رجل من العرب إذا قام من منامه ولذيذ أحلامه وأكل في فطوره فصيلا ابن عامين، وصبر إلى ضحوة النهار فأكل أربعين دجاجة محمرة بالسمن البقري، وشرب زقين من خمر ونام في الشمس فمات، لقي ربه شبعان سكران ريان". أما أنتم أيها التعساء فيصدق عليكم ما رواه الترمذي عن أبي الرداء : "خير أمتي : أولها وآخرها، وفي وسطها الكدر". أنتم الوسط الكدر...

ارتفع اللغط : تجاوز الحدود هذا الرأس المقطوع. سعداء نحن في تعاستنا، ماله يوقظ الأحزان وينكأ الجراح؟ أين عيون حكام الوقت؟لماذا لا تبلغ عن زارع الفتنة هذا؟ قاطعه آخر بوثوق : إنهم يمهلونه ليفرغ كل ما في جعبته وليتأكدوا هل يصدر عن ذاته أو أرسلته ولقته يد أجنبية. صوت آخر : لكنه لا يخاف، ضربت عنقه ومع ذلك يجهر بأشياء صحيحة...على الأقل لا يكذب.

كنت أتدحرج متحركا وسط الحلقة، متفحصا الوجوه، مبتسما راضيا فقد حركت السواكن وأثرت النقاش والجدل وجعلت الآذان تنصت لنغمات غير مألوفة. فجأة انزاحت الجموع لتفسح المجال لشبكة كبيرة ملصقة بقضيب حديدي طويل يحمله رجال المطافئ وتحيط بهم الشرطة. فقهقهت عاليا وأنا أتطلع إلى الشبكة تنقض علي من فوق. لم أحاول الإفلات أو المقاومة. استغربوا لانعدام رد الفعل. تعالت الأصوات. أصبح الحدث أكثر إثارة. طالت حيرتهم وهم يتشاورون. سمعت المسؤول عن العملية يقول : "لا تلمسوه بأيديكم فقد تكون معه مواد سامة أو متفجرة. أدخلوه إلى القفص لحمله إلى المحكمة".

كنت منتشيا وأنا أطل من القفص الحديدي محمولا على خشبة فوق أكتاف رجال المطافئ. تحركت جموع المتفرجين سائرة وراء موكبي، اخذت الشرطة تهش عليهم. صحت بأعلى صوتي : وداعا. تذكروا ما رواه سهلب ابن مهلب طالبوا بحقكم في لحم الغنم والدجاج والنبيذ الجيد والجنس المريح. أجرؤوا على السؤال والتساؤل.

رددت الأصوات هادرة : أتركوه يتكلم...اللي هدر بلسانو ما عليه لومة...إن حلقته ناجحة...متى كان المخزن يخشى الكلام؟

قلت قبل أن أغيب داخل سيارة كبيرة : طالبوا بأن تكون المحاكمة علنية.

في دار حاكم الوقت اتضح ان حالتي معقدة. حيرت الخبراء والمستشارين والقضاة. لم تسعفهم لا النصوص ولا الحيل ولا أساليب العنف.

دخل المسؤول عن المدينة مرتديا قفازا حريريا أبيض. اصطنع الوقار والدبلوماسية وهو يسألني :

-أليس هذا استفزازا يا صاحب الرأس المقطوع؟ تأتي من بعيد لتهيج الناس ساردا عليهم أحلام يقظتك وهوسك الأحمر..ألا تعرف القانون؟ لم أرد أن أطيل الحوار قلت باقتضاب :

-جئت باحثا عن جثتي قيل لي بأنها في الجنوب.

-كيف تنطلي عليك الحيلة وأنت على مستوى كبير من الذكاء كما أخبرتني التقارير عن جولاتك بجامع الفناء؟

-الجموع تسحرني : أخمن دائما انها أصداف تنطوي على مكنونات عجيبة. لماذا تحرسون على أن تستمر غافية في عطالتها؟ لم يبق لي إلا اللسان، قلت لأجرب ما تستطيع أن تفعله هذه اللحمة الصغيرة.

-أنت تلعب بالنار.

-تعرفون أن الموت أخترقني ولم ينل مني.

دخل شاب أنيق مسرعا يهمس في أذن حاكم الوقت.

عاود مخاطبي :

-هل لك طلبات معينة؟

-أن تكون لي حلقة اتحدث فيها إلى الناس.

-مرفوض طلبك. سنحاكمك.

-المفروض أنني من الأموات.

أسرع يبتسم وكانه عثرعلى الحل الملائم :

-في هذه الحال سنستدعي واحدا من حكامنا الموتى ليحاكمك.

بقيت وحدي في القفص أنتظر، من حين لآخر تصلني أصداء الهتافات : عاش صاحب الرأس المقطوع.

لا أدري كم من الوقت غفوت. فتحت عيني مفزوعا وقد غمرتني حزم ضوء قوي تنبعث من كشافات سلطت على القفص. الأقدام تتولى فتمتلئ القاعة بعدد لا يحصى من الشخصيات اللامعة في ثيابها وأوسمتها. نفس الابتسامة الباردةالقلقة تعلو وجه حاكم الوقت. ظللت أشخص إليه في  هدوء. بعد قليل ارتفع صوت جهوري يعلن :

-سعادة الباشا البغدادي استعرناه من مرقده ليفصل في قضية صاحب الرأس المقطوع.

أعجبتني الفكرة. قهقهت مرتاحا. على الأقل يعرفون كيف يتغلبون على عجزهم. حكمة الأجداد أقوى من ذكائهم. لا بأس لنرى ما سيقوله حكيم المخزن.

لا أدري ما قيل له عن جريمتي ولا أستبعد أنهم أضافوا إلى القائمة سجل ابنه الخائن يوم الاستقلال. كنت متيقظ الحواس والوعي لدرجة لا تسمح باستئناف لعبة المحاورة او السخرية. عودني اشتياقي للتحليق وساورني بعض الندم لأنني لم أفلت حين شعرت بالخطر.

مسد الباشا بالبغدادي لحيته وخلل أصابعه في شعراتها البيضاء وقد بدا فخورا بالمساعدة التي يقدمها لمخزن ما بعد الاستقلال. أخيرا نطق بالحكم في وثوق :

ما دمتم تتوفرون على الجثة، أعيدوا الرأس إلى جثته واقطعوا اللسان!

ملحوظة : انتهت قصة صاحب الرأس المقطوع والمفروض أن تتبعها قصة صاحب اللسان المقطوع ولكن تجربة هذا الأخير تجربة مشاعة عشناها جميعا وما نزال وليس هناك ما يميزها أو يخرجها عن دائرة التكرار. فوجب الاعتذار