ترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الفرنسية* - جمال شحيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسإذا أردنا أن نعرف كيف ينظر الفرنسيون إلى العرب يجب أن نتوقف عند ترجمتهم لأدبنا وفكرنا وإنتاجنا بعامة. وعندها قد نكتشف طريقة اهتمامهم بنا: إما كشعب له حضارة وثقافة مستمرتان ... وإما كقوم أنعم الله عليهم بالنفط، وهم بعد زواله زائلون. وقد نكتشف نظرة الأوروبيين بعامة، والفرنسيين بخاصة، إلى الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط وإلى شعوبها وطريقة التحاور مع الشرقيين، ولاسيما أن الاتحاد الأوروبي قد أقام مشاريع عديدة للبحر الأبيض المتوسط منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الثقافي. ولنتبين مواقع التطور في الرؤية إلى الآخر، سأحاول تتبع الترجمات الفرنسية للأدب العربي ، لأصل إلى القارئ الفرنسي وتأثير هذه الكتب المترجمة في عقليته.
تاريخ ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الفرنسية
في الخمسينيات كانت في باريس دار نشر صغيرة اهتمت بترجمة بعض أعمال محمود تيمور وتوفيق الحكيم، وهي Nouvelles Editions Latines  . واختفت هذه الدار في بداية الستينيات ولم يبق شيء من مطبوعاتها إلا في بطون المكتبات العامة الكبرى. وفي عام 1960 صدرت ترجمة الجزء الأول من كتاب الأيام لطه حسين، وقدم له صديقه أندريه جيد . وفي عام 1962 صدرت ترجمة أنا أحيا لليلي بعلبكي في دار نشر جوليار. كذلك عنيت مجلة Orient بترجمة بعض القصص والقصائد لعدد من الكتاب السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، وترجم معظمها المستشرقان الفرنسيان ميشيل باربو وهنري لوسيل.
واندلعت حرب الجزائر ، فانحسر الاهتمام بالأدب العربي الحديث الذي بقي حتى ذلك الوقت أضأل الضئيل. وذلك أن القارئ الفرنسي العادي لم يكن يقرأ هذا الأدب المترجم ولم يتكون عنده أي فضول لمتابعة الإصدارات، على قلتها ولم يتكون عنده أي فضول لمتابعة الإصدارات، على قلتها .. وإن كان بعض رجال الدين المسيحي الذين عملوا في البلدان العربية، أو الذين كان يستعدون للعمل فيها، يطلعون على هذه الأدبيات.
أما المستشرقون الكبار المهتمون بالأدب، من أمثل ريجيس بلاشير وكارا دي فورميل وإميل درمنغم ولويس ماسينيون وهنري بيريس وفانسان مونتي وشارل بلا وغاستون فييت واندريه ميكل ، فكانوا بعامة يؤثرون الأدب العربي القديم ، وقليلون بينهم من انفتحوا على الأدب الحديث ويعتبره ركيكا هزيلا، ويكتفي بالأدب العربي حتى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) معتبرين أن كل ما أتى بعده- وخاصة في عصر النهضة وما تلاه – لايستحق عناء المتابعة .

ولا بد في هذا المقام من التنويه بالجهد الترجمي الهائل الذي قام به المترجم الحلبي الأصل رينيه خوام الذي اهتم خاصة بترجمة الكتب التي عنيت بأدب المجون والحيل والتخييل والشطار والعيارين، فغطى هذا الجانب المسكوت عنه.

وعام 1967 أصدرت دار "سوي" الباريسية ثلاثة مجلدات عن الأدب العربي الحديث جمعت مختارات من الرواية والقصة (المجلد الأول ) والمحاولات (المجلد الثاني) والشعر (المجلد الثالث). وقد ساعد هذا العمل في تعريف القارئ الفرنسي الفضولي على بعض الأسماء والنصوص وهنا لا بد من القول إن السياسة الشرق أوسطية لفرنسا بعد حرب 1967، كما عبر عنها الجنرال ديغول ، قد خلقت مناخا ملائما للانفتاح.

وعام 1972 أنشأ ناشر فرنسي شاب اسمه بيير برنارد دا ر نشر "سندباد" التي دعمتها بعض الجمعيات العربية وقدمت لها الحكومة الجزائرية مساعدات كبيرة. وقد اهتمت الدار – إلى جانب السلاسل التي أصدرتها حول الأدب العربي الكلاسيكي والأدبين التركي والفارسي- بترجمة عدد من الكتاب العرب المعاصرين واختارت أبرزهم: فترجمت للطيب صالح ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأدونيس وعبد الوهاب البياتي وجمال الغيطاني وإدوار الخراط وعبد السلام العجيلي وفؤاد التكرلي والطاهر وطار وحنا مينة وعبد الرحمن منيف وغسان كنفاني ... وكان إخراج هذه الترجمات لطيفا مشوقا، الأمر الذي حدا ببعض الناشرين الآخرين- ولا سيما دور النشر الكبرى- إلى خوض مغامرة الكتاب العربي المترجم.

وصرنا نجد في مكتبات البيع كتبا مترجمة عن العربية أصدرتها دور نشر "غاليمار" وسوي" و"لاتس" و "دونويل" و " مينوي" و أرليا" و "ميزونوف" و "ميركور دو فرانس". بالإضافة إلى "سندباد". لا بل نجد بعض الدور تختص بهذا الكاتب أو ذاك، كدار نشر دونويل التي نشرت أكثر من نصف أعمال نجيب محفوظ المترجمة إلى الفرنسية، ودار "مركور دو فرانس" التي نشرت أعمال أدونيس بخاصة.

وما بين عامي 1992 و 1995 أنشأ إيف غونزاليس كيخانو (وهو أستاذ الأدب العربي المعاصر في جامعة ليون) سلسلة Mondes Arabes   (عوالم عربية‘ في دار "سندباد"، وشجع ترجمة الكتاب العرب الشباب من أمثال رشيد الضعيف وحنان الشيخ وصنع الله إبراهيم ونبيل نعوم وسليم بركات وعالية ممدوح... وبلغت إصدارات السلسلة واحدا وعشرين إصدارا. وعام 1995 اشترت دار "آكت سود" دار "سندباد"، بعد وفاة مؤسسها وبداية تراجعها، ولاسيما بعد اندلاع أعمال العنف في الجزائر. وإذا بنا الآن أمام دار كبيرة تعنى بالأدب العربي، وتصدر عدة سلاسل منها: سلسلة "الأدب الكلاسيكي" بإشراف أندريه ميكل، وسلسلة "الأدب الحديث" بإشراف فاروق مردم بك، وسلسلة "البشر والمجتمعات" و سلسلة "المكتبة الإسلامية"، وسلسلة "بابل"، والسلسلة الناشئة "ذاكرات المتوسط". وأصدرت هذه الأخيرة الكتب التالية : سيرة مدينة لعبد الرحمن منيف، والأفق العمودي لعبد القادر الجنابي، وبيضة الحمامة لرؤوف مسعد، والجمعة الأحد لخالد زيادة، وحملة تفتيش للطيفة الزيات. وتدعم "المؤسسة الأوروبية للثقافة" هذه السلسة التي تصدر بخمس لغات أو ست لغات أوروبية، ويراس ايف غونزاليس كيخانو الطبعة الفرنسية. ويساهم "معهد العالم العربي" في دعم بعض السلاسل ، ولاسيما سلسلة "الآداب المعاصرة"،بالإضافة إلى دعمه كل الكتب العربية التي تترجمها دار "لاتس"

وهكذا نرى أن دور النشر الفرنسية قد ترجمت حتى الآن لأكثر من سبعين كاتبا عربيا حديثا، وحظيت الرواية بنصيب الأسد من هذه الإصدارات.

كيف يستقبل القارئ الفرنسي أدبنا؟

إذا قارنا وضع الكتاب العربي المترجم إلى الفرنسية الآن بوضعه في السبعينيات نجد تطورا ملموسا لصالح هذا الكتاب، فبينما كنا في الماضي ندور في حلقة مفرغة تتوسطها بضعة كتب معدودة، صار أمامنا الآن عشرات وعشرات من الكتب المتنوعة التي – بالرغم من كل شيء- تعطي فكرة عن أدبنا، وإن مازالت مجتزأة.

يشكو الناشرون من قلة ذات اليد، ومن العدد الزهيد للقراء، ويركزون على الربحية... وهذا أمر مشروع، فيطبعون من الكتاب نسخا تتراوح بيت ألف نسخة وثلاثة آلاف نسخة (طبعة أولى)، إن كان الكاتب مغمورا. أما في حالة نجيب محفوظ مثلا فيتجرأون على طبع 6-10 آلاف نسخة دون خوف من الخسارة؛ ومن ينشر لنجيب محفوظ يغطي خسارته في كتاب آخرين.

ولكن من يقرأ أدبنا بين الفرنسيين؟ أولا : أبناء الجاليات العربية المهاجرة الذين لا يتقنون العربية أو لا يعرفونها. وثانيا طلاب أقسام اللغة العربية في الجامعات الفرنسية، والصحفيون المثقفون المعنيون بالعالم العربي وبشرق المتوسط ونادرا ما يقدم قارئ ليست له أية "مصلحة" في هذه المنطقة على شراء كتب من كتبنا، مع العلم أن هذا يحدث كثيرا بالنسبة إلى آداب الشعوب الأخرى . لماذا؟ لأن الكتاب العربي بعامة لا يحظى بالترويج الضروري في وسائل الإعلام الجماهيرية. فإذا قارنا مثلا وضع الأدب العربي بوضع أدب أميركا اللاتينية وجدنا أن وسائل الإعلام تتابع ما يصدر من هذا الأدب الأخير وعنه وتقدمه على الجمهور العريض، بما يفوق متابعتها لأدبنا.

صحيح أن بعض وسائل الإعلام المكتوبة مثل جريدة لوموند تقدم بعض الإصدارت التي يكتب عنها الكاتب المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون بعامة، ولكن ما يقدمه يبقى خفيفا ولا يغطي إلا جانبا صغيرا من الإصدارات.

يحتاج الأدب العربي المترجم أن يظهر في مجلات واسعة الانتشار مثل لوبوان، ولونوفيل اوبسرفاتور، وال إكسيرس؛ كما يحتاج الى تقديم في المحطات التلفزيونية ، أسوة بما يحصل لغيره من الآداب . ولكن اختراق هذا الحصار ليس بالأمر السهل. نظرا إلى محاربة الصهيونية لنا بوسائل إعلامها المتعددة والقوية. يضاف إلى ذلك أن الجانب السياسي الذي يعتور أحيانا هذه المترجمات يقدم بأسلوب مبتسر ومبسط فيهمل الجانب الفكري والأدبي للنصوص، ولا يعرض منها إلا ما يثير الجدل والاتهام.

أما المترجمون الذين انكبوا على ترجمة أدبنا فيتمتعون عامة بجدية وتمكن في باع الترجمة. ولكنني ألاحظ أن بعض الفرنسيين منهم يتعاملون مع النص الأصلي بفوقية تجعلهم يجيزون لأنفسهم تشذيب النص و "تمتينه": فهم يعتبرون أن إحاطة الكاتب بنصه غير منضبطة؛ فيسلطون عليه أحكامهم "الديكارتية" البتارة، ويظنون أنهم إن أبقوا على النص كما خرج من يدي الكاتب فسيفقد من رونقه وبهائه وسيخسر بالتالي عددا من القراء المتطلبين، فيعيدون كتابة النص ويجردونه من بعض التفاصيل ويقدمون ويؤخرون حتى "يستقيم" النص فكان الكاتب العربي مازال في نظرهم طفلا يحبو ولم يشتد عوده ؛ وكأن الكتابة يجب أن تتبع نموذجا أوروبيا بحتا هو الفيصل والقسطاس؛ وكأن هناك كتابة أوروبية واحدة: فإمام أن تكون الرواية العربية صنوا للكتابة الأوروبية أو نسخة عنها، وإما أن لا تكون.

وبسبب تنامي الانفتاح بين شعوب البحر المتوسط نشأ في فرنسا قارئ فضولي راح يهتم بآداب عديدة، وبالأدب العربي الذي يكتب في الضفة الأخرى من البحر. وهو قارئ غير متخصص، وقد لا يعرف من العربية إلا  بعض الكلمات التي دخلت إلى اللغة الفرنسية الشعبية أثناء استعمار المغرب الكبير أو من خلال المهاجرين المغاربة الكثر في فرنسا. وقد يكون قارئا قام برحلة إلى هذا البلد العربي أو ذاك، وأراد استكمال الرحلة أو التحضير لها ببعض المطالعات الإبداعية؛ وقد يكون أيضا من رواد "معهد العالم العربي" في باريس ومن زبائن مطاعم الكسكس والمازوات الشرقية. و لاشك أن الشرق العربي يثير لديه فضولا قد ينقله على أصدقائه ومعارفه، وتتوسع الحلقة... ولكن ندوة تلفزيونية عن الأدب العربي قد تؤثر في الجمهور أكثر بكثير من كل هذا النشاط الفردي.

وكما دخلت إلى اللغة العربي مئات من المفردات والصور الغربية، فقد دخلت إلى الفرنسية أعدا من المفردات والصور العربية، وساهم في نقلها الكتاب العرب الفرنكوفونيون أو المترجمون.

ومن خلال الكتاب الذي أصدره "معهد العالم العربي" وعنوانه : الكتاب العرب أمس واليوم، والذي أشرف عليه فاروق مردم بك، نلاحظ أن عدد المترجمين الذين ساهموا في نقل الكتاب العربي إلى الفرنسية هو 137 مترجما، وأن عدد الكتاب العرب المعاصرين الذين نقلت بعض كتبهم إلى الفرنسية 73 كاتبا من مختلف البلدان العربية. وإذا ما قارنا ما يترجم ومن يترجم إلى البلدان العربية عن الفرنسية وجدنا أن هناك أعدادا أكبر من الكتب الفرنسية التي تترجم على لغة الضاد، مع أن تنسيق وتوثيق عمليات الترجمة في ديار العرب غير متوفرة بعامة، ما خلا بعض المؤشرات التي تصدر هنا وهناك ف 75% من مترجمات وزراة الثقافة السورية تأتي من اللغة الفرنسية، وهناك حوالي 35% من كتب "المشروع القومي للترجمة" في مصر (المجلس الأعلى للثقافة) فرنسية الأصل، بالإضافة إلى مترجمات بلدان المغرب الثلاثة التي تحتل اللغة الفرنسية 90% منها.

في ملعب من؟

بالرغم من التحسن الذي طرأ على وضع الكتاب العربي المترجم على الفرنسية، فإن الباب قد فتح ولكنه مازال مواريا. صحيح أنه تجاوز مرحلة التعتيم التي ضربت عليه، وتخطى إدارة الإهمال التي كانت تستهين بقيمته. ولكنا إذا قارنا المترجمات عن اللغة الإيطالية بمثيلاتها عن اللغة العربي، نرى أن كفة الإيطالية ترجح مع العم أن الناطقين بالإيطالية في العالم لا يتجاوزون ربع الناطقين بالعربية. إذن الكرة الآن في ملعب الفرنسيين ولاسيما أنهم من مؤسسي الاتحاد الأوروبي والتعاون بين ضفتي البحر المتوسط، وأن الشرق العربي امتداد طبيعي للغرب الأوروبي.

--------------

هذا المقال نشرته مجلة الآداب في عددها 7/8 ليوليو واغسطس 1999 ، وقد راينا نشره هنا لتعميم الفائدة - انفاس نت