ماريو كايسر و ساره لديبو منييكا في مسامرة مع الروائية توني موريسن ـ ترجمة و تعريب: د. ضياء الدين عثمان حاج أحمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة المترجم:
هذه المسامرة هي من أواخر المقابلات الحوارية مع الروائية الأمريكية المبدعة توني موريسون، و وردت في موقع مجلة غرانتا بتاريخ 29 يونيو 2017. بدت الروائية في هذه المسامرة رائقة البال و تنداح في البوح لتكشف عن العوالم التي تستقي منها أعمالها الروائية. لقد بدت مرحة و جريئة في كثير من جوانب هذه المسامرة، كما و لمست بآرائها عدة قضايا قديمة و آنية ربطةً بينها من أجل تقديم فهم أفضل للسياقات الأمريكية الصعبة. لقد كانت ترجمة هذه المسامرة من أصعب الترجمات و التعريبات التي قمت بها؛ حيث اقتضت مني الغوص في تفاصيل قضايا و لغة و استعارات الثقافة الأفريقية الأمريكية. و كان إعجابي بالأعمال الباهرة لتوني موريسون هو الذي عوضني عن المشاق التي تكبدتها لتخرج هذه المسامرة بين أيدي قراء العربية.


النص:

اشترطت توني موريسون شرطا واحدا فقط لمقابلتنا في منزلها بأعالي ولاية نيويورك ألّا يتم التقاط صور لها،لكنهاسمحت بطرح أي سؤال، و لم تبد أي اهتمام بتلميع لاحقٍ لإجاباتها.
و في الحقيقة؛ لم تكن هناك حاجة لذلك؛ فتوني موريسون تتكلم بذات النصاعة التي تميز رواياتها.
لقد تحدثت عن العنصرية و "التبييض [بالمعنى] العرقي"، و الشد و الجذب بين الذاكرة و بين  النسيان، و فن الكتابة عن العلاقة الجسدية.
لقد ضحكَت كثيرًا، و ترنمت بقصص و حكايات من طفولتها، كما و رفضت أن تذكر على لسانها اسم الرئيس الأمريكي الحالي.
كان قد تم الاتفاق على ألا يطول حديثنا معها لأكثر من ساعة،  إلا أنها استمرت–تقريبًا- لساعتين.
بدلًا من المرآة المعتادة، علِّق فوق حوض حمام ضيوف بمنزل توني موريسون إطار رسالة إخطار الأكاديمية السويدية إياها بفوزها بجائزة نوبل في الأدب.
و على الجدار المقابل -و كأنه جائزة أخرى-علّق إطار "إشعار رفض نشر" صدر عن وزارة العدل الجنائية لولاية تكساس؛ يُبلّغ ناشرها أن روايتها: فردوس حظرت من التداول في سجون تكساس؛ كونها قد تشجع على التشغيب.
*
ساره لاديبو مانييكا:
أتفضلين أن نناديكِ: الأستاذة، أم الدكتورة، أم الآنسة، أم السيدة؟
توني موريسون:
أفضل أن تنادوني: توني.
ساره:
توني و حسب؟
توني:
أجل، ألبي من يناديني به.
ساره:
توني: شكرًا لكِ على إعطائنا هذه الفرصة للتحدث إليكِ.
توني:
يسرني ذلك.
ساره:
أنا من نيجيريا، و قبل قليل، كنت داخل حمام المنزل هنا أتسامر مع وولي سوينكا. (من بين الصور المعلقة على جدران حمام الضيوف في منزل توني موريسون هناكصورة لها مع [الروائي] النيجيري الحائز على جائزة نوبل.)
توني:
آه! أجل، لقد اعتدنا أن نزور باريس من أجل حضور اجتماعات وندوات –من النوع النخبوي– وحلحلة مشاكل عالمية. و سوينكا دائمًا ما يعرف كيف يحلحل أي شيء.
ساره:
و لا يزال كذلك.
توني:
أجل، أجل. بصوته ذاك! (تقلّد توني صوت سوينكا بتفخيم صوتها.)
ماريو كايزر:
لقد صرت و ساره أصدقاءًا بفضل إحدى رواياتك؛ فقد اجتمعنا ذات مرة في إحدى النزل المخصصة للكُتّاب، و هناك حكيت لها عن اشتغالي على كتابة رواية عن أجدادي الذين ذهبوا إلى الحرب العالمية الثانية جنودًا، ثم لم يعودوا منها أبدًا، فأعطتني روايتكِ: الديار–في إصدارتها الورقية و في اصدارتها الصوتية [بصوتكِ].
توني:
أوه، هذا صحيح، لقد صدرت رواياتي كلها بصوتي. إني أحب تلاوة أعمالي؛ ذلك أنني أقيس جودتها بواسطة سماع وقع أصوات ألفاظها على الآذان. ليست تلك الوسيلة الوحيدة في الأمر و حسب، لكنها هي الأهم عندي. أتذكر أنني عندما بدأت النشر لأول مرة، كان الناشر يعطي روايتي لبعض الممثلات كي يتلينها بأصواتهن، و كان ذلك من أجل تسويق الأقراص الإلكترونية التي ستحوي الإصدارة الصوتية للرواية. لقد كانت أولئك الممثلات متميزات و خبيرات في ما يؤدينه، غير أني لم يحدث أن  [جلست و] استمعت إلى ما أنتجنه. و في يوم من الأيام قمت بتشغيل إحدى الأقراص، و حينها قلت لنفسي: ‘ ليس هذا سليمًا!‘
أظن أن ما سمعته كان هو مبتدأ رواية: محبوبة.
إن ما كتبته كان يسير موقّعًا هكذا:
‘دا-دا-دا-دا-داه
دات-بووم-دات-دي-دات-دي-داه
دات-دي-دات-دي-داه.
="البيت-رقم-واحد-اثنان-أربعة
مليئٌ-بالغلِّ-و الضغينة.
بغِلِّ-طفلةٍ-صغيرة"‘.
أما الممثلة على الاسطوانة فكانت تلاوتها خلوًّا من أيِّ إيقاع.
و من حينئذٍ طفقت أسجِّل تلاوة الاصدارات الصوتية لرواياتي كلها بصوتي.
و قد علمت للتو –و يا للهول- أنني يجب أن أفعل ذلك مرة أخرى؛فقد قالوا لي إن تلك التي سجلتها قد تم اختصارها.
دعني أقول لك هذا: إنها لإحدى أسوأ التجارب في حياتي- أعني تجربة الجلوس في تلك الغرفة الصغيرة (=غرفة التسجيل الصوتي) مع أولئك خارجها ممن يقومون بعملية التسجيل. إنك لن تصدق كمّ الأخطاء التي ترتكبها بها عندما تقرأ بصوت عالٍ أمام  ميكروفون.
ماريو:
تبدأ روايتك الأخيرة: ليكن الرب في عون الطفلة، بجملة صاعقة: "إنه ليس خطئي."
توني:
صحيح.
ماريو:
[و تبدأ بمشهد] امرأة تتمعّن في رضيعتها حديثة الولادة.
توني:
و هي مرتعبة.
ماريو:
[لما] تدرك أن لون بشرة الرضيعة هو أكثر قتامة بكثير من لون بشرتها هي، فتخشى على مستقبلها.
توني:
و على مستقبلها هي.
ماريو:
بخلاف رواياتك السابقة، فإن هذه الرواية تجري أحداثها في وقتنا الحاضر. لم لا يزال للون البشرة في هذه البلاد قدرته تلك على جمع أو تفريق الناس؟
توني:
هكذا بدأ تاريخنا هنا في هذه البلاد، و التي نشأت بفضل الأيدي العاملة من الأفارقة-  و الذين استجلبوا للقيام بالأعمال دون أجر، و ليتناسلوا منتجين مزيدًا من الأيدي العاملة. حين كتبت رواية: رحمة، كان من المفترض أن يكون الزمن فيها هو الفترة التي سبقت بقليل فترة تحول العنصرية إلى عاملٍ محدّدٍ لهوية هذه البلاد. إنها الفترة التي سبقت محاكمات ساحرات سالم بقليل، عندما كان يستحرّ القتل لأسباب دينية. إبان ذلك؛ شعر المتعصبون المتدينون بالغضب إزاء أمور كثيرة، لكن لم يكن من بينها موضوع العنصرية.
من بعدها أتت مرحلتنا هذه:. "التعافي" – هو الوسيلة التي جمعت الأمة معًا: عاد البيض مجرد أناسٍ بشرتهم بيضاء.
انظر معي إلى الآتي: لو كنت أبحرت مهاجرًا إلى هذه البلاد قادمًا من ألمانيا أو روسيا أو من أي مكان، فستنزل النزول من القارب و تدخلها، أما لكي تعلن أمريكيًّا، فيجب أن تكون أبيض البشرة.
إن الخصيصة التي أقامت هذه البلاد، و لملمت شعوبها معًا هي: احتواؤها على سكان بشرتهم ليست بيضاء.
ألا ترى أن بعضًا مما ذكرتُه هنا أظنه جاريًا في أوروبا الآن (=أزمة موجة المهاجرين إلى أوروبا).
ما أفهمه هو أنه إذا كنت من السويد، فأنت سويدي.ليس عليك أن تقول: "أنا سويدي بشرتي بيضاء".
أفهمت ما أعنيه؟
ماريو:
أجل. أنا ألماني، و إلى أن قدمت للعيش في الولايات المتحدة فإنني لم أشعر أبدًا بأن بياض بشرتي هو هويتي.
توني:
و هذا هو الجزء الهام في الأمر؛ فعندما كان أحد مثل فريدريك دوغلاس يؤلف كتبًا، فإن الجمهوره الذي سيتوجّه إليه الكتاب –و حسب القانون- هم من ذوي البشرة البيضاء، و هو يريد منهم أن يعاملوه باحترام، و أن يحرروا رقبته.
جمهوره كان من هؤلاء، أما بالنسبة إلي فهم ليسوا جمهوري.
تولستوي [حين ألف رواياته]، لم يكن يتوجه إلى  فتيات أوهايو الصغيرات، بل كان يخاطب الشعب الروسي، أليس كذلك؟
أنا أخاطب في رواياتي زنوجنا، و عنهم و لهم أكتب.
و إن كانت رواياتي جيدة بما فيه الكفاية فسوف تُقرأ و يحتفى بها من قبل أناس آخرين ليسوا أميركيين أفارقة.
هذه –ببساطة- هي الحالة لدي.
ألم يصر كلامنا مثيرًا للاهتمام هنا؟
سارا:
بلى!
توني:
الطريف في أمر هذه البلاد هو الآتي:
ما يعتقده من هم خارجها -و خاصة الأوروبيون- عنها،و ما يعجبهم فيها هو على العموم: هو فنٌ نابعٌ من ثقافة الزنوج؛ و أعني هنا موسيقا الجاز، تلك اللغة المبهمة.
فكري معي: كيف كانت ستكون هذه البلاد لو خلت منّا نحن الزنوج . بالنسبة لي فلن أفكر حتى في أن أزورها!
لقد كتبت روايتي الأولى محاولةً قول الآتي لشبابنا:
‘اسمعوا: إن العنصرية لمؤلمة حقًا و صدقًا. و إن كنتم حقًّا تودون لو تستحيل بشراتكم بيضاء اللون، رغم أنها ليست كذلك، و رغم أنكم لا زلتم بعدُ في مقتبل العمر و لم تنضجوا بعد، فإن بمقدور العنصرية أن تقضي عليكم."
كنت آنها قد بدأت مشوار الكتابة بعد أن مرت عليّ سنين في قراءة الروايات و تحريرها، و العمل في قطاع المكتبات العامة، ثم انتهيت إلى أن قلت:
‘تمهّلوا علي قليلًا أيها الناس، إنني لا أجد رواية تتناول قضيتي!‘
و هكذا كان عليّ إن أردتُ أجد واحدة، فعليَّ أن أكتبها بنفسي.
ماريو:
في رواية: ليكن الرب في عون الطفلة، و كما هو الحال في رواياتك الأخرى،فإن الأطفال يعانون.
أنتِ رُزقتِ بطفلين و قمت بتربيتهما ، و ذلك خلال فترة الستينات أثناء النضال من أجل الحقوق المدنية.
هل أعطتك تلك التجربة وقتها أملًا في أن أمريكا ستستشرف مستقبلًا أكثر إشراقًا لطفليك؟
توني:
كلا،كلا، كلا،
لقد كان هذا منذ زمن بعيد.
استمع إليّ: في ذلك الوقت كانت الصحف قد بدأت للتو في إيراد أخبار حبس الفتيان الزنوج و قتلهم. لم تكن الصحف تتحدث عن مثل هذه الأمور. بالنسبة لها لم تكن تساوِ أي شيء.
قضية مثل [مقتل] ترايفون مارتن أو مثل [مقتل] ذلك الصبي الآخر الذي أطلقوا عليه النار،لصارت تتحصل الآن على الكثير من انتباه أجهزة الصحافة.
لقد كنت أقول لابني:
‘أوتدرك أنني قبل بخمسين أو ستين سنة مررت بتلك الفترة التي لا تنال فيها قضية مماثلة و لا حتى مجرد مقال؟ بل و لا حتى أن تستدر تعاطفًا ما بالأسى؟‘
لم يكن في الساحة –آنها- أدنى اهتمام بمثل هذه القضايا، أما الآن فقد تغير الحال قليلًا، على الرغم من أنني أعتقد أننا قد تراجعنا الآن خطوة إلى الوراء مع ذلك الذي يسمى:"الرئيس" (=دونالد ترامب).
إنه تطور خطيرٌ للغاية، و فظيع لدرجة أنني أتجاهل حتى التفكير فيه.
سأحاول صدقًا ألا أفعل. ذاك الرجل يملك حقًّا القدرة على اتعاسي.
سارا:
[مع شعاره:] ‘فلنعد أمريكاعظيمةً مرةأخرى.‘
توني:
[هذا الشعار] يعني: ‘فلنعد أمريكا بيضاء البشرة مرة أخرى‘. و هكذا  [تخاطب الرئيس]: فها أنت تتحصل على تلك الكثرة من الناس الذين يريدون أن يشعروا أنهم فوق إياهم، و أنهم أفضل من إياهم .
و من هم؟
إنهم [فيهم] إيّاي (=كل من بشرته ليست بيضاء).
سارا:
إن الانصات إليكِ و أنت تتلين رواياتك ليؤكد الطابع الملفوظي و الموسيقي لأسلوبك الروائي. هل تتقصّدين أن تكون أعمالك هي للقراءة بصوتٍ عال؟
توني:
أنني أتقصّد أن يسمع القارئ صوتها.
لقد ترعرعت في بيت يتنرّم قاطنوه بالحكايات بصوت عالٍ طيلة الوقت. أتذكر في هذه اللحظة ما يروى عن جدي، و عن أنه حسب ما كان يقال دائما -و بفخر- قد قرأ الكتاب المقدس بصوت عالٍ من الغلاف للغلاف.
و أنه قد فعلها خمس مرات.
لقد كنت أعرف أن قراءة الكتاب المقدس بصوتٍ عالٍ -في مرحلةٍ ما- كانت تعتبر غير مشروعة للزنوج. و كان من غير المشروع لذي بشرة بيضاء أن يعلمهم قراءة الكتاب المقدس.
كانت العقوبة تصل للحبس أو الغرامة.
و جدي لم يتعلم في المدرسة. ذهب إليها مرة وحيدة، و كانت ليخبر المدرس أنه لن يعود إليها مرة أخرى.
في تعلم القراءة اعتمد إلى شقيقته.  و كانوا يدعونه: بيغ بابا (=أبونا الأكبر). تسائلت بعد ذلك بمدة:
ترى [ما الذي أغراه بتكبد تلك المشقة و] ما هي الكتب الأخرى التي كان كان سيهمه قرائتها؟ ففي ذلك الوقت لم تكن هناك توجد لا كتب و لا مكتبات، فقط كان يوجد الكتاب المقدس.
غير أن فعل معرفة القراءة –في ذاك الوقت- كانت بمثابة ممارسة لاستعادة التحكم في المصير [الشخصي، و ملك زمام النفس].
في بيتنا كانت كانت هناك كتب في كل زاوية. أمي كانت منضمةً إلى نادي كتاب الشهر، و القيام بهكذا نشاط كان بمثابة فعل المقاومة.
جنبًا إلى جنب مع ممارسة القراءة، كانت تجري مبادلة الحكايات طيلة الوقت.
كانت الحكايات تنشد في البيت، القاطنون كان نحو العشرة، و كلهم مجانين.
سارا:
أكانت الحكايات تتحرف مع مرور الوقت؟
توني:
كان من الممكن تحريفها، ذلك أنهم تركوا لنا أن نعيد إنشادها لهم.
كانوا يقولون: ‘أخبرونا بحكاية لما حصل كذا و كذا!‘، [ستروونها] و في اليوم التالي ستيستيقظين أنتِ و من معكِ من الصغار، و سيكون بإمكانكم أن تحرفوها قليلًا. غير أنهم لكانوا مجانين حقًّا. لقد أحببت تلك الحكايات؛ فقد كانت مثل هذه: . . (تتوقف توني عن الحديث،ثم تبدأ تترنم – في البدء بنغمة منخفضة،ثم تختم بنغمة عالية). . .
‘مراتي - و حسلخ - ضهرا و طيّر- راسا!‘ (كذا وردت بالعامية و ترجمت للعامية)
لقد كانت نغمة الأغنية صاخبة الإيقاع هكذا:
‘تم تم - تم تم - تم تم - تم تم- تم تم.‘
تنتهي هكذا: "راسا" (الكلمة مشدّد دلالة على نبرتها العالية)، ثم في الحكاية تأتي الزوجة و رأسها بين ذراعيها و تقول: ‘هناك الجو بااارد ، هناك الجو بااارد.‘
لقد كانت تلك الحكايات الموقّعة هي التسلية المتاحة، بالإضافة إلى الغناء.
لقد كانت أمي تصدح بالغناء طوال الوقت – ليلًا، نهارًا و في كل الأوقات. كان لديها أجمل صوت أسمعه في حياتي.
كانت تغني و هي تنشر الغسيل، و تغني و هي تغسل الأطباق.
لقد كان صوتها بالنسبة لي جزءًا هامًا من لغتي الروائية.
و على الرغم من أنني لم أبدأ أكتب الروايات حتى بلغت التاسعة و الثلاثين أو حولها، إلا أنني عندما و بدأت، حرصت حرصًّا شديدًا أن يكون للغتي الرواية صوت أمي ذاك.
الكثير مما في كان في تلك الحكايات كان يعتمد إلى صوت و نغمة إنشادها، بل إن المعنى –غالبًا- كان يكمن في [طريقة] إنشادها.
لقد كانت تلك الحكايات جميعها حكايات تتسم بالغباء، و التخويف. أوتذكرين تلك القصص التي كانت تروى عليك عندما كنت صغيرة؟
[مثل] حكايات هانسل و جريتل؟
لقد كانت فظيعة!
كل تلك الحكايات كانت عن أناس يُصرعون، و عن آخرين يطردون أطفالهم. و من ثم تأتي ساحرة لتلقي بكِ في الفرن.
يا للهول!
ساره:
الشد و الجذب بين الذاكرة و بين النسيان هو أحد لوازم رواياتك – حيث يرد النسيان بوصفه وسيلة للتجاوز.
و في رواية: محبوبة، وردت هذه العبارة: ‘لم تكن قصة يمكن تجاوزها‘.
و في رواية: ليكن الرب في عون الطفلة، كتبتِ هذه العبارة:
‘الذاكرة هي أسوأ ما في [عملية] التعافي‘
كيف تتعاملين مع هذا الشد و الجذب؟
توني:
للوصول إلى السعادة –تلك التي أعنيها، و على الرغم من أن شخصياتي يسّاقطون صرعى في مجمل رواياتي (= دلالة على التعاسة)- فلا بد للمرء من اكتساب المعرفة.
إن انتهيتِ إلى أن تعرفي -في النهاية- شيئًا لم تكوني تعرفيه من قبل، فقد توصلتِ حينئذٍ إلى الحكمة، أو كأنكِ.
و إن استطعتِ ضرب وتر الحكمة ،فكلّ العناء الذي مررتِ به سترينه مُستحقًا.
أعني فكرة: أن تتحصلي بمعرفة شيءٍ لم تكوني تعرفينها من قبل، أن تصيري ذات شأن .
إن هناك أنماطًا بعينها تتكرّر في الروايات و تتكرر في الحياة؛ مما يجعلهما يبدوان و كأنهما لهما هدفٌ واحد.
ثم يحدث خطبٌ ما، و حينها يتعلم الناس درسًا ما.
في رواية: ليكن الرب في عون الطفلة، و التي أظن أن اسم عنوانها فظيع تتـ .
ماريو:
ما كان العنوان الذي اخترتِه للرواية؟
توني:
أظنني أطلقت عليها اسمًا ما. لست أذكره الآن، لكنه كان جميلًا!
ساره:
لمَ لم تحصلي على الاسم الذي تريدينه؟
توني:
لأنهم [في المجادلة] يبطحونك أرضًا.
ساره:
أليست من امتيازات أن يفوز المرء بجائزة نوبل: تمكينه من إلزام أولئك [الناشرين] بالاكتفاء بأداء دورهم و حسب؟
توني:
كلا! (تتخيل توني محاججة مع ناشرها.)
- ‘اذهب إلى الجحيم، فأنا التي أعنون رواياتي كما أريد!‘
–‘لا،لا لن تحصلي على مبتغاك هكذا!‘
هم يحسبون أنهم يُسدون إليّ معروفًا بنشرهم ليِ، على الرغم من أنهم يجنون من وراء هذا الأموال الوفيرة– و سيظلون يجنونها إلى الأبد، حتى بعد أن أموت، و بعد أن يموت أطفالي و أحفادي،فإنهم سيظلون يجنونها. لقد عملتُ في صناعة النشر فدحًا من الزمن و أعرف ذلك تمامًا.
لقد أصابني الامتعاض مما فيها.
ما علينا!
عم كنا نتحدث؟
ساره:
الشد و الجذب بين الذاكرة و بين النسيان.
توني:
أوه،أجل،أجل،أجل،أجل،أجل.
ليست المعارك بينهما هي التي يهمني.
هناك الكثير من الروايات دارت حول الانتصار في معركة ما.
أما أنا فلست مهتمة بالانتصار، رغم أنه مهم في حياة أحدنا الفكرية و العاطفية.
إنكِ تمضين على درب ما ثم تتوصلين إلى مكان ما.
لن تودّي أن تجدي نفسكِ و قد عدتِ إلى المكان الذي كنتِ فيه في البداية.
في تلك الرواية كانت الفتاة. . . ما كانت تلك الرواية؟
أية واحدة؟
ساره:
(فليكن الرب في عون الطفلة).
توني:
نعم تلك هي!
لقد تلاقت دروب الفتاة شديدة سواد البشرة و شديدة الجمال، و دروب حبيبها الوسيم في مصير واحد مشترك.
لقد كان كلاهما شديد الانهمام بنفسه، و من ثم يصلان إلى مرحلةٍ ما توجب عليهما أن يرعيا شخصًا آخرًا غيرهما [أي: الطفلة] و ليس فقط نفسيهما.
هذه التجربة تخرجهما من قشرتهما الصغيرة [التي عنوانها]: ‘نفسي،نفسي،نفسي‘، بالدرجة التي صيّرتهما في النهاية قادران على تبادل القليل من الاحترام، بل و تبادل التعلّق مع بعضهما البعض.
ماريو:
تحدثتِ في هذه الرواية عما أسميته: "امتيازات لون البشرة" – طريقة تأثير درجة [قتامة] لون البشرة على وضع الزنجي في المجتمع العام، بل و حتى على وضعه داخل مجتمع الزنوج.
أكان باراك أوباما سيصبح رئيسًا لو أن لون بشرته كان أكثر قتامة؟
توني:
إنها تبدو لي  قاتمة!
ماريو:
لكن ليس كاللون الذي تسمينه السواد السوداني.
توني:
كلا،إنه ليس سوادًا سودانيًا. إنه سواد ألطف. أنها سمرة بلاد إثيوبيا. الإثيوبيون جميعهم وسيمون!
ليس هناك بشعين من إثيوبيا.
فلنعد لموضوع اللون. لقد ترعرعت في بلدة صغيرة اشتهرت بصناعة الصلب.
ماريو:
هي بلدة لورين في ولاية أوهايو.
توني:
و كان هناك الكثير من المهاجرين، مع وجود مدرسة ثانوية واحدة فقط. ثم التحقت بجامعة هوارد – و كنتُ أولى فتيات عائلتي في اللاتحاق بها- و هناك اكتشفت الامتيارات التي تحدثت عنها.
كانت مدينة واشنطن في ذلك الوقت مليئة بالزنجيات من بنات الطبقة الوسطى.
كن يعملن موظفات بمكتب التعداد السكاني، و كانت قضايا السائدة تدور حول الفصل بين التنظيمات و المساكن الطالبية المخصصة للزنجيات، و بين التنظيمات و المساكن الأخرى.
لم أكن أعرف عمّ كن يتحدثن.
ببساطة: لقد بدون لي نوعًا من الفتيات العاميّات- كوني فشلت في بناء صداقات معهن عن طريق الانشغال بمثل تلك القضايا.
و عندماعدت إلى نفس الجامعة للتدريس التحق ، كان [الناشط السياسي] ستوكلي كارميايكل من طلابي، فسألته ذات يوم: ‘ستوكلي، ماذاستفعل عندما تتخرّج؟"،فرد عليّ: ‘سأذخب للدراسة في المعهد اللاهوتي الاتحادي. و لكن قبل ذلك سأذهب إلى الجنوب [الأمريكي] ".
لقد كانت معظم الاهتمامات العامة سياسية بشدَّة، لدرجة أن قضية مدى أهمية قتامة لون البشرة لم تكن توازيها في الأهمية.
كانت الاهتمامات العامة تتركّز على قضية حقوق الزنوج المدنية.
أما وقت أن كنت أنا طالبة في نفس الجامعة فكانت قضية العرقية هي الشغل الشاغل.
[وقتها] في مدينة واشنطن،كان هناك متجر واحد يسمح لنا –نحن الفتيات ملونات البشرة- باستعمال حماماته.
كان المتجر اسمه: هيشت، و لم يكن هناك متجر آخر يسمح لنا باستعمال حماماته.
في ذاك الأوان كانت تعلق في الحافلات تلك العلامات الصغيرة التي عليها عبارة: ‘فقط لبيض البشرة ‘. لقد حدث و أن سرقت واحدة منها من قبل، و أرسلتُ أخرى إلى أمي.
لقد كانت واشنطن وقتها مدينة منقسمة بصورة واضحة للعيان. بلغ الانقسام بها حتى الفصل في استخدام صنابير المياه. لقد كنت دائمًا ما أظن أن في الأمر مزحةً أو شيئًا من هذا القبيل؛ فلم سيدفع أولئك المسؤولون ذوو البشرة البيضاء مرتين لتوفير نفس صنابير مياه عامة؟ لم يكن من المنطقي بالنسبة لي أني ينفقوا كل تلك الأموال فقط من أجل أن يشعروا أنهم أفضل من أناسٍ آخرين [لبشراتهم لون مختلف].
ماريو:
عندماطلب دونالد ترامب من الأمريكيين الأفارقة أن يصوتوا لصالحه، سائلهم: ‘ما الذي عليكم تكبّد خسارته؟‘
كيف استجبتِ للحادثة؟
توني:
لقد حسبته سؤالًاغبيًّا؛ فالذي كان علي أن أتكبد خسارته لهو كل شيء. إن ما أتكبّد خسارته الآن هو لفظاته المتفجرة التي يلقيها حوله في كل مكان.
إنها لبالغة السوء و التعالي.
هن سبعة و سبعين لفظةً لدي هذا الرجل المخادع تحديدًا. لقد عددناها أنا و [الروائي الأمريكي] فيليب روث لفظة لفظة. هو من قام بالعد.
سبعة و سبعون لفظة [يا للكثرة!].
ساره:
فلنترك ترامب لأوباما. كيف كان شعوركِ و أنتِ تتسلّمين وسام الحرية الرئاسية من أوباما؟ و بم همس في أذنك؟
توني:
أكنتِ في الحفل؟
ساره / ماريو: لا، لقد شاهدنا فيديو الحفل.
توني:
فعلًا لقد همس في أذني بكلمات. و سوف أخبركما بهذا (الأمر الخطير):
لقد كنت أجهل تلك الكلمات.
ماريو:
لقد بدوتِ مسرورةً للغاية حين سمعتِها.
توني:
وقتها ميّزت الكلمات! لكنني ما أن غادرتُ المنصة حتى و بدأت أتسائل عن كنهها. لقد كنت محرجةً للغاية!
من بعدها سافرت إلى باريس، و هناك لقيت السفير الأمريكي بفرنسا و أخبرته بالقصة.
قلت له: ‘لقد همس الرئيس في أذني،و لست أدري بم همس لي. إن في الأمر خطئًا ما!" فردّ بأن قال: ‘اسمعيني؛ لقد تحدثت معه لمدة 45 دقيقة و الآن لا أتذكر من ذلك الحديث و لا كلمة ".
ساره:
لقد بهتِّ.
توني:
أظن أن هذا هو ما حدث.
غير أني عندما ذهبت إلى الحفلة برفقة ابني، قام بسؤل أوباما: ‘لقد قلت شيئًا ما لأمي، و هي لا تتذكره. أتذكر ما قلته لها؟‘
فردأوباما قائلًا:‘أجل، بالتأكيد أتذكّر هذا، لقد قلت لها: "أحبك"‘. (تغطي توني وجهها بيديها و كأنها استحت).
و أدركت للتو لم نسيتُ تلك الكلمات!
لقد نسيتها مثلما تنسين حديثك أمام شخصٍ يروق لكِ بشدة، أو أمام شخصٍ فاتن السحر.
لقد كانت تلك الكلمات فاتنة لدرجة أن تبهتك مكانك.
ساره:
دعونا نتمسّك بالحديث عن الحب و عن صديقك جيمس بالدوين.
توني:
أوه، بالتأكيد!
ساره:
قال جيمس بالدوين مرة:
‘إن دورالفنان هو بالضبط نفس دورالحبيب. فلو كنت أحبك، فسأفتح عينيك على أمورٍ لم تكن تراها.‘
كيف ترين دور الفنان؟
توني:
أوه، من الطريف أن جيمي (=اسم جيمس مدلّلًا) قال ذلك.
ما سأذكره الآن سيبدو زاعقًا و مربكًا، لكن أنا لدي اعتقاد أن الفنان-سواءًا كان رساما أو روائيًا- لهو أقرب للانسان الروحاني المبجّل.
إن هناك خاصية تختصُّ بها عملية الرؤية الفنية؛ ألا و هي الحكمة.
يمكن أن تكوني نكرة لا يؤبه لكِ، لكن بالنظر بتلك الحكمة، تصيرين روحانيةً مبجّلة، و من الربانيين.
في الأغلب تكون للفن رؤية  فوق تفاصيل حياتنا العادية و فوق تصوراتنا.
فأنتِ ترقىين عن الانغماس في التفاصيل الصغيرة، و طالما كنت في مرقاك هذا، و حتى لو كنت امرأةً مريعةً – بل و بالأخص عندما تكونين مريعةً– فإنك سترين تلك التفاصيل المتفرقة تتلملم أمامك، و سترينها تهزك من الداخل، أو  تتحول إلى دافعٍ لكِ نحو اتجاهٍ ما، أو ستكشف لك اللثام عن أمور من خارج دائرة فنك لم تكوني لتعرفها.
إن الفن –بحق- لهو رؤية علوية، أو مابعدية.
إني لأظن أن من الصعب التعاطي مع اللوحات التشكيلية –تحديدًا- بأي مفهومٍ آخر. لا أستطيع تخيل تصوّر آخر.
أعني: ما هي تلك العلاقة التي تربط بين فنك و بين عقلك؟
إن هذا لهو السبب في أن النزعة النقدية مفزعةٌ للغاية.
ليس كلّها، لكن جلّها؛ ذلك أنها لا يمكنها أن تصل إلى المرقى الذي يكون الفنان قد رقي إليه.
ساره:
أتسمين شخصيات رواياتك، أم هن يسمين أنفسهن؟
توني:
هن يسمين أنفسهن.
لقد كتبتُ أحيانًا شخصيات بأسماء كلم تكن ملائمة، فلم يبقين قط على قيد الحياة.
عليّ أن أسأل الشخصية: ‘ما اسمكِ؟‘ ستنتظرين قليلًا ثم سيطقطق شيءٌ ما- أو لن يحدث أي شيء.
و إن لم يحدث شيء، فإن كتابتي ستتعثر، أو ستخرس الشخصيات فمها عن التحدّث. و في بعض الأحيان يحدث العكس تماما.
عندماكتبت رواية: أنشودة سليمان، كانت لديَّ شخصية تلك المرأة التي اسمها: بيلات، والتي ما أن استحضرتها و تمثلتها أمامي، حتى و أبت أن تخرس فمها البتة.
لقد قامت بالاستيلاء على تلك الرواية تمامًا، حتى وجب عليّ ردعها.
هكذا تحدثت معها:
‘عليكِ أن تخرسي فمكِ، هذا الكتاب ليس ملككِ!‘
كان لديها مشهد في الرواية؛ فيه تنتحب على حفيدتها و تقول: ‘و قد كانت محبّبةً.‘
ذلك المشهد و حسب هو كل المساحة التي تحصلت عليها. و على الرغم من أنها من الشخصيات المؤثرة في الأحداث، إلا أنها لم تفتح فمها بعد ذلك.
ماريو:
أنتِ عُمّدتِ كاثوليكيةً عندما بلغتِ الثانية عشرة من العمر، و سمّيتِ: أنتوني، و هو الاسم الذي صار توني في وقت لاحق.
القديس أنطونيو -الذي عمدت باسمه- هو أحد الرموز الشاهقة عند المسيحيين.
توني:
هو القديس أنطونيو اللشبوني
ماريو
و عُرف بمواعظه البليغة عميقة المعاني، كما أنه أيضًا شفيع الأشياء الضائعة. ما هي تلك الأشياء الضائعة التي تودين لو استعدتها؟
توني:
ابني، و فترات معينًّة من عمري وددت لو عشتها مجدَّدًا.
ماريو:
أهناك فترة بعينها؟
توني:
أجل: فترة الدراسة الجامعية.
لقد حدثت لي في الجامعة بعض الأمورالرائعة، و فيها تعلمت الكثير.
انضممت لمجموعة مسرحية صغيرةفي تلك الفترة، و في الصيف اعتدنا أن نسافر في جولات عبر البلاد. و في تلك الجولات تعرفت للمرة الأولى على الجنوب [الأمريكي]- الجنوب الحقيقي، و ليس ذاك الذي فيه واشنطنون العاصمة.
أذكر أننا في أحد الأسفار وصلنا إلى فندقنا المقصود؛ و اكتشف الأساتذة المشرفون أنه ماخور أوشيء من هذا القبيل. حينها قام أحد الأساتذة و توجه إلى كشك الهاتف.
أوتذكر أكشاك الهاتف تلك التي كانت منتشرة تلك الأيام؟
فتح الأستاذ الصفحات الخلفية من دليل الهاتف باحثًّا عن واعظٍ زنجي. كان يمكنك تخمين هذا من تقليبه في الصفحات الخاصة باسم كنيسة: صهيون الأفارقة الأمريكيين، أو اسم كهذا.
وجد الأستاذ أحد أرقام الكنيسة و اتصل بها، ثم أخبرهم أن برفقته بعض الطالبات من جامعة هوارد، و أنهن بحاجة إلى مكان يبتن فيه ليلتهن، و أنه لا يجد مطارح تقبل بالزنوج.
طلب منه الواعظ أن يعاود الاتصال به بعدخمس عشرة دقيقة، و حين أعاد الأستاذ الاتصال به مجدَّدًا وجده قد دبَّر لنا إيواءًا مع امرأةٍ من رعايا الكنيسة.
كان من نصيبي البيات مع فتاة تسكن في منزل المرأة.
لكم كان ذلك المنزل رائعًا! يا لروعته، لقد كانت تلك الفتاة تنشر غسيلها فوق تلك الشجيرات ذات الرائحة العطرة.
أوه،لكأن الجنة فتحت لك أبوابها!
كما و قدمت المرأة و الفتاة أيضًا لنا طعامًا شهيًّا.
لقد حاولنا منحهما بعض المال، بيد أنهما لم تكونا لتأخذاه؛ لذا تركناه لهما محشورًا داخل أغطية مخدات الأسرة.
ماريو:
هذه القصة تذكرنابقصة فرانك موني الشخصية الرئيسية في رواية: الديار، حين كان يبحث عن مأوى.
توني:
آه، أجل. تقصدين ذاك الكتاب الأخضر (دليل سفر محلي في أمريكا) الذي استخدمه. لدي نسخة من ذلك الكتاب الذي يريك الأماكن التي بإمكانها أن تأوي الزنوج.
هل ستصدق هذاّ
أنا لم أحدّد أنه زنجي، إلا حين أتاني محرري الأدبي و قال: ‘ لا أحد يعرف ما إذا كان فرانك زنجيًا أم أبيض البشرة.‘ فقلت له: ‘و ماذا لو لم يعرف أحد؟‘ فرد علي: ‘توني، أعتقد أن من المهم للرواية حقًا معرفة ذلك‘. حينها فقط استسلمت للأمر.
بيد أنني كنت لمتشوقةً لأسلوب الكتابة ذاك الذي اتبعته في رواية: الفردوس، حيث أعلنت عن لون الشخصية بالعبارة التالية:
‘أطلقوا النار على الفتاة البيضاء أولًا‘، دون أن تعرف من هي هذه الفتاة البيضاء المذكورة.
أسلوب كهذا منحني الشعور بالتحرر من أسر إيحاء وصف لون البشرة؛ لأن في بعض الأحيان يمكن أن آتي بلفظة: "أسود/سوداء" قاصدا اللفظة خاليةً [من أي حمولات]، أي فارغة؛ إلا لو أتيت أنت و شحنتها بحمولات لتنقل معنىً محددًا.
لقد كانت تلك التفصيلة درسًا تعلمته في الكتابة؛ ذلك أن في رواية فردوس هناك جانب آخر من الزنوج ممن تعني لهم لفظة ‘السواد": معنى نقاء الأرومة–و الصلب الطاهر.
اسمع قصتي هذه:
أم جدتي كانت تعيش في ولاية ميشيغان، و كانت يمكن اعتبارها بمثابة حكيمة الأسرة، لما كانت ممن الخبيرات لشؤون الحياة.
كانت تعمل قابلة، و لذا زارت معظم البيوت بين حين و آخر.
لقد كانت قامتها طويلة. أقصد أنها كانت تبدو كذلك، و  كانت تحمل في يدها عكازًا من الواضح أنها لا تحتاج إليه.
جاءت لزيارتنا في منزلنا ذات مرة فأمعنت النظر فيّ و في أختي، ثم تنهدت (متحسرة): ‘لقد تم العبث بهاتين الطفلتين.‘
اعتقدت حينها أنها عنت معنىً إيجابيًا عن جودة لون بشرتينا، حيث أن بشرتها كانت شديدة السواد (سواد الطين).
أما ما حصل فهو أنها نظرت إلينا على أننا ممن اتسخت دماؤهن، و اختلط شرف نسبهن؛ بمعنى أننا لسنا نقيتين صافيتين بالدرجة الكافية لديها.
و في حين أنها هي التي كانت من الأنقياء صافيي الدماء–أي سوداء نقية، أفريقية نقية– فقد رأت أننا تم العبث بدمائنا و لو قليلًا.
لقد أثار اشمئزازها اهتمامي، خاصةً و أنني اعتدت منذ طفولتي أن أصنّف بأنني من "المغايرين"– لكن من طرف أولئك على الجانب الآخر [بيض البشرة].
ساره:
هل بالإمكان أن نعرج الآن على الكتابة عن العلاقات الجسدية؟
توني:
نعم! سأحدثكِ حديث خبيرة عليمة ذات خبرة معتّقة. ماذا تريدين أن تعرفي؟
ساره:
أنتِ عُرفتِ ببراعتكِ في كتابة مشاهدها.
توني:
صحيح! أظنني أبرع من معظمهم.
ساره:
كيف تقومين بالأمر؟
توني:
أسوأ ما في وصف العلاقاة الجسدية هو ألفاظها و مفرداتها و عباراتها التتي تنتمي إلى الطب السريري:‘أثداء‘، ‘أعضاء ذكورة‘، و ما شابه. أعني أن أقول: من سيهتم بمشاهد مُلئت بمثل هذا؟
أحسن ما في العلاقة الجسدية و ما في كتابة مشاهدها في الروايات هو أمرٌ آخر تمامًا غير هذا.
في رواية: العين الأزهى زرقةً عندما تستسلم إحدى الشخصيات لاتمام الممارسة الجسدية حتى الآخر، يأتي في المشهد أنها قشرت الجلد الأسود حتى وصلت إلى العاج تحته- كما تعرفين، هي انغمست في الأمر عميقًا!
بيد أني أريد أن أقول أنه إذا كان بإمكانكِ ربط وصف العلاقة بتصرفات أو حركات أخرى مثيرة للاهتمام، فستصير هي مثيرةً للاهتمام.
ساره:
في رواية: محبوبة لم تستخدمِ الإشارة إلى حركة عيدان الذرة في حقل الذرة و حسب، بل استخدمت أيضا الإشارة إلى طقوس التهام الشخصيات لأكواز الذرة، من أجل [التعبير عن] إيحاءات الإغواءات الشهوانية.
توني:
أنه مشهد أعواد الذرة تتراقص، و الرجال يراقبون [عملية المواقعة].
ساره:
العبارة هي: ‘لقد شق عليهم للغاية: أن يقبعوا هناك مهيجين ككلاب هيجتها المسافدة، و هم يراقبون أعواد الذرة  تتراقص عند الظهيرة [من حول العشيقين]."
توني:
لقد أخبرني أحدهم أنه سبق و طُلب من[الممثل] دنزل واشنطن المشاركة في فيلم: محبوبة الذي اقتبس من روايتي، فقال: ‘لن أشارك في فيلم في قصته: علاقة جسدية شوهاء (يرد وصف لاغتصاب قذر) بين مساجين زنوج و بين جلاوزة بيض البشرة.‘
كماتعلمان؛ فالرواية فعلا حوت مشاهد علاقة جسدية لأولئك المساجين الحفارين، لكنهم كانوا كلهم مقيدين و بسلاسل (= اغتُصبوا). إن رد فعل دنزل هذا لعجيب حقًّا.
ثم ألم تقرآ عما جرى في: تشويت؛ تلك المدرسة التي كان أساتذتها بيض البشرة يغتصبون الطلاب الزنوج طيلة فترة الستينيات و ما تلاها. لست أدرِ لم أشعل المشهد غضبه هكذا، لكن حسنًا يا دنزل [سأتركك]!
إن ما يهمني بشأن رسم مشاهد العلاقات الجسدية هو جعلها تبدو جميلة بحق، و حميمة بصدق، و موزعةً بعناية و توازن. على المشهد أن يكون قابلا لأن يتعلق به أي قارئ- لا أعني أن يتعلق القارئ بالعملية إياها و حسب، بل أن يتعلق بتوصيفي أنا لها.
إنني لأقرأ مشاهد العلاقة الجسدية في روايات غيري[من الزملاء و الزميلات]، ثم أنتهي و أنا أفكر: ‘فهمت، و على هذا ما الذي سيحدث الآن؟‘
ماريو:
عم تدور روايتك القادمة؟
توني:
أوه،إنها رواية رائعة! اسمها: جستس (=عدالة)، على الرغم من أنها لا تدور حول أية عدالة ما.
في الرواية هناك شخصيات لعائلة من الرقيق و مالكها. إن اسمه هو: غوود ماستر(=السيد الطيب)،و هو نفس الاسم الذي جعل رقيقه كلهم ينتسبون بنهاية أسمائهم إليه. كان أفراد العائلة يكرهون ذاك الاسم لكونه اسمًا كريهًا، لكنهم احتفظوا به حتى تتمكن أجيالهم اللاحقة بواسطته من البقاء على اتصال ببعضها البعض.
و هناك شخصية أب له ثلاثة أطفال: هم فتاتان و صبي. أسماءهم هي: كورج (=بسالة)، و فريدوم (=حرية)،و جستس (=عدالة)،لكن هذه الأسماء لن تنفعهم بشيءحين يذهبون للالتحاق بالمدرسة؛ فبدلًا من كتابة اسم كورج سيكتب من في المدرسة: كاري، و بدل فريدوم سيكتبون: فريدا. و أما الصبي جستس فسسمونه: جووِس (=عصير).
إن عملية التسمية تعني الكثير، إنها عملية مصيرية لأننا [نحن الزنوج حين استقدمونا اعتبرونا صفحات بيضاء] من غيرأسماء. لقد [نعتونا من استرقونا] بأسماء غاية الغباء.
حاولت مرة أن أتذكر أسماء أصدقاء أبي. كانت أسماؤهم: أسماءًا مستعارة؛ مثلًا أحدهم كان يدعى:كوول برييز (=نسيم منعش)، و آخر يدعى:‘الشيطان جيم‘.
جميع أنواع الأسماء كانت تستعمل لمناداتنا.
بعضها كانت أسماءًا جميلة، و بعضها كانت أسماءًا فظيعةً؛ فأيًّا ما كانت نقطة ضعفك، فستستخدم في تسميتك.
لقد أضاعنا هذا بعيدًا، فلنعد إلى ما كنا فيه.
ماريو:
لقدذكرتِ مرةً أنكِ لاتريدين أن يتذكرك الناس بوصفكِ روائية أفريقية-أمريكية،بل بوصفكِ روائيةً أمريكية [و حسب].
توني:
أقلتُ هذا؟
ماريو:
أجل.
توني:
أمريكا؛ هذه البلاد؟ لايمكنني أن أنتسب إليها. إنها لبلاد كبيرة جدًّا. هذا الأمر مثل قولك: ‘ما الذي تعتقده عن أوروبا؟‘
أقصد أني أتعجب لمثل هذا التبسيط.
كنت مع الروائي [الأمريكي] دوكتورو مرةً في إحدى المناسبات، و كاني قدمني لرجال بيض البشرة فقال: ‘لست أنظر  إلى توني بوصفها روائية زنجية، و لا بوصفها من الروائيات. إنني أنظر إليها بوصفها..‘ فأكملت أنا سريعًا: ‘من الروائيين بيض البشرة.‘، فضحك الجميع.
أتذكر هذا. لقد كان الرجل يحاول إزاحتي من التوصيفات الضيقة. لكن ما هو إذن التوصيف الإضافي الصالح لي بجانب أنني امرأة و زنجية؟
لقد كان أولئك القوم الذين قدمني إليهم دوكتورو كلهم رجالًا بيض البشرة. لعل الأغلب أنه أراد وصف: روائية و حسب؛ تعرفان ما أعنيه: روائية روائية لا غير.

الهامش:
المصدر:
https://granta.com/toni-morrison-conversation/

* : كاتب و قاص و روائي و مترجم سوداني.
ما بين القوسين المائلين: كما ورد في النص.
ما بين القوسين المعقوفين: زيادة للشرح من السياق.